سياسة

ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة- 4-

نستمر هنا في تغطية ملف الغزو الروسي الأوكراني

القسم الأول من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانياماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة

القسم الثاني من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانياماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 2-

القسم الثالث من الملف الذي تناول اجتياح روسيا لأوكرانيا ” ماذا بعد غزو روسيا لأوكرانيا؟ -مقالات مختارة 3

تحديث هذا الملف يومي، نضيف العديد من المقالات المهمة والمختارة التي تناولت الحدث.  أنظر في الأسفل

———————————————-

ضد الإمبريالية الروسية ومن أجل صحوة أممية جديدة/ إدفي بلينل

هناك إمبريالية جديدة تُهدّد العالم، إمبريالية روسية. يُجبرنا الغزو الروسي أخيراً على مواجهة هذا الواقع. لقد حدّقت هذه الحقيقة في وجوهنا طوال عقد كامل، وبالتحديد منذ آذار (مارس) 2012 والولاية الرئاسية الثالثة لفلاديمير بوتين الذي حاز سلطة غير منقطعة في موسكو لما يقترب اليوم من ربع قرن. هذه الحقيقة جرى توثيقها جيداً في ميديابارت، حقيقة أن الإمبريالية الناقمة، مدفوعة بسخط أمة مهزومة، تُحول ألمها إلى عدوان على شعوب أخرى. وهي كذلك إمبريالية تهتدي برسالة: الإيمان بأنها تدافع عن رؤية قومية ومُحافِظة للعالم، وهذا في مقابل المُثُل الديمقراطية التي تجري مُماثلتُها بالانحطاط الغربي.

تدور هذه الحقيقة، أخيراً، حول قوة نووية واقعة تحت رحمة رجل واحد وشِيعته الأوليغاركية، وهذا في نظام تَحوَّلَ من التسلطية إلى الدكتاتورية، يقتل الخصوم والصحفيين، ويكمّ أفواه المنشقين السياسيين ويسجنهم، ويحظر منظمات المجتمع المدني، ويُشيطن أي تحدٍّ يواجهه بوصفه تآمراً أجنبياً.

والمستهدف الرئيس بهذه الإمبريالية هو الإرادة الحرة لشعوب مختلفة في أن تصنع قراراتها وحقها في اختيار مصيرها الخاص، وحريتها في اختراع مستقبلها الخاص، هذا فضلاً عن شعبها [الروسي] ذاته الذي يجد تطلعاته الاجتماعية ومطالبه الديمقراطية مُصادَرَةً من قبل هذا الاندفاع المتهور نحو الحرب. 

لقد كانت الإمبريالية هي القوة الدافعة للأزمة الأوكرانية منذ 2014، لكنها كانت كذلك وراء التدخل الروسي في سورية وقت قَدِمَت روسيا لإعانة واحدة من أسوأ الدكتاتوريات في العالم العربي. كانت الإمبريالية هي كذلك القوة الدافعة وراء الحرب الشيشانية الثانية عام 1999، أي منذ ذلك الوقت الذي كان فلاديمير بوتين فيه يؤكد سلطته عبر العنف، ومن خلال حرب استئصال ضد رغبة ذلك الشعب القوقازي بالاستقلال.   

كان إلحاق القرم الأوكرانية قبل ثماني سنوات هو أول مثال لاستيلاء دولة أوروبية على منطقة من دولة أوروبية أخرى منذ الحرب العالمية الثانية. ولم يكن ذلك العنف رداً على عدوان، بقدر ما كان رداً من جهة فلاديمير بوتين وداعميه على التطلعات الديمقراطية للشعب الأوكراني وما انطوت عليه من رغبة في الارتباط الرسمي بالاتحاد الأوروبي. كان رفضُ هذا الارتباط من قبل رئيس أوكرانيا آنذاك، وقد كان يُفضّل الاتفاق مع روسيا، هو ما تَسبَّبَ في الواقع بالحركة الاحتجاجية في يوروميدان في أواخر 2013.  

حين أطلقت روسيا حلقة العنف في قلب القارة الأوروبية، وهذا الغزو الأخير ذُروتُها، كانت تواجه الصحوة الديمقراطية في أوكرانيا، وإن مَاحكَت دعائياً بشأن تهديد مفترض من قبل الناتو. 

لقد قَدَّمَ دبلوماسيون كثيرون تطمينات تتصل باعتبار إلحاق القرم شأناً داخلياً من شؤون المجال الجيوبوليتيكي المتكلّم بالروسية، وهذا سواء فعلوا ذلك بدافع اللامبالاة أو قلة المعرفة. لقد منعتهم طمّاشاتهم الإيديولوجية، أو بلغة أكثر نثرية منعتهم أحكامهم المسبقة حيال الشعوب غير الأوروبية، وبخاصة المسلمين، من أن يروا أبعد من ذلك. ذلك أنه كان من شأن تقييم متروٍّ للديناميكية العدوانية للإمبريالية الجديدة التي يمثلها فلاديمير بوتين أن يعني انتباهاً أكبر إلى المصير التراجيدي للشعب السوري. 

كانوا سيعرفون ذلك لو أنهم دعموا السوريين أو رحَّبوا بهم أو استمعوا إليهم. سورية التي صارت المركز المتقدم للثورات الديمقراطية العربية بعد الانقلاب العسكري في مصر في 2013، كانت في الواقع المسرح الأولي للتوسع العسكري الروسي خارج نطاق الاتحاد السوفييتي السابق. ولقد تواصلَ هذا التوسّع منذ ذلك الوقت عبر التدخلات الروسية في أفريقيا، بخاصة جنوب الصحراء، وقد نُفِّذَ تحت غطاء من مرتزقة فاغنر.  

التدخل الروسي الذي لا يُحجِم عن ارتكاب الجرائم ضد المدنيين أنقذ نظام بشار الأسد الدموي الذي ثار ضده السوريون بعد انتفاضة 2011 في تونس، وشارك في الثورة مواطنون من أديان ومعتقدات مختلفة، توحدوا في السِلْمية. 

وبينما كان يثبت قوته خارج الحدود الروسية، كان نظام بوتين يُصعِّدُ من عنفه السياسي في الداخل الروسي. بلاطه الامبراطوري صار بلاطاً دكتاتورياً. لقد وسمَ حدثان اثنان بدء الحرب في أوكرانيا، بما يرمز إلى قدرة النظام على انتهاك المعايير على طريقة الدول المارقة. ففي 17 تموز (يوليو) 2014 جرى إسقاط طائرة ركاب ماليزية تحمل 283 مسافراً و15 من أفراد طاقمها، بينما كانت في وسط رحلتها فوق منطقة دونيتسك في شرق أوكرانيا الذي كان تحت سيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا. الكشوف الأولية عن مسؤولية روسيا عن الجريمة، التي أجرتها مجموعة Correct!v للصحافة الاستقصائية، وقد نُشرت في ميديابارت، أكدتها في وقت لاحق الاستقصاءات الدولية. وفي 27 شباط (فبراير) 2015 قُتل بوريس نمتسوف، السياسي الروسي وخصم فلاديمير بوتين، على جسر في موسكو قريب من الكرملين. كان نمتسوف يعد تقريراً عن حرب روسيا في أوكرانيا، ويدعو الشعب في روسيا إلى الاحتجاج عليها. ومنذ ذلك الوقت ازداد عدد عمليات الوكالات الروسية الخاصة ضد الخصوم والمنشقين باستخدام السموم بصورة خاصة، بما في ذلك خارج البلاد.   

واليوم يتعفّن في السجن ألكسي نافالني، الشخصية الروسية المعارضة، الذي كان نجا بمعجزة من محاولة مؤكدة لقتله بفضل تدخل ألماني، وهذا بقضية ملفقة كلياً، مثلما هو الحال في شأن منشقين آخرين. قبيل توقيفه كان نافالني قد نشر على النت تحقيقاً مصوراً أنجزته مؤسسته المضادة للفساد عن قصر بوتين، وهو رمز من رموزِ كلبيةِ حكومةٍ قائمة على رأسمالية ضارية واستيلائية.

لقد مضت حكومة موسكو بتصفية ما بقي من تعبيرات مستقلّة وتعددية وعامة عن المجتمع المدني الروسي. والكلمة العليا اليوم هي للدعاية في وسائل الإعلام، دون فسحة لوجهات النظر المعارضة. وتُهاجَم المنظمات غير الحكومية التي تتلقى دعماً خارجياً، وبخاصة من مؤسسات أجنبية، وهذا منذ مهد قانون في عام 2012 لتهميشها أولاً، ثم لحظرها كلياً، وهذا بعد أن أجبر تشديد للقواعد عام 2020 هذه المنظمات غير الحكومية على أن تقرّ بأنها «عميلة أجنبية». في سياق كهذا، حيث تجثم الأسطورة بثقلها على صدر الواقع، لم يعد يمكن مناقشة الماضي أو إعادة تقييمه أكثر ممّا يمكن فعله بخصوص الحاضر. لقد أعلنت المحكمة العليا، الروسية، في 28 كانون الأول (ديسمبر) 2021، حل منظمة ميموريال (تذكار أو نصب تذكاري) غير الحكومية التي تأسست عام 1989 بدعم من الفيزيائي النووي الروسي أندريه ساخاروف، أبو القنبلة الهيدروجينية الروسية والفائز بجائزة نوبل للسلام. نَدينُ لميموريال بتوثيقها لجرائم الستالينية، بنبشها معسكرات الاعتقال والمقابر الجماعية، وكذلك عملها على إعادة تأهيل الضحايا، وهذا فوق ما تقوم به من عمل داعم لحقوق الإنسان.

تلك هي حقيقة نظام بوتين في خطوطها العريضة. يستحيل أن تعثر فيها على أونصة واحدة من المُثُل التقدمية، من المبادئ الديمقراطية، أو من الأخلاقية السياسية. ويعرف اليمين المتطرف، في فرنسا بخاصة، هذا الواقع، وقد ذهب ممثلوه إلى هناك من أجل الحصول على أموال وللتودد لقائد النظام، على ما أظهرت استقصاءاتنا بوضوح. ومن حملة النظام الروسي من أجل الدفع نحو بركسيت قوموي في بريطانية إلى دعم الحملة الانتخابية للتفوقيّ الأبيض دونالد ترمب في الولايات المتحدة، كان الكرملين سعيداً بخدمة مصالحه الخاصة، مستخدماً كامل ترسانة الأسلحة التي أتاحتها الثورة الرقمية، أسلحة التضليل وغسل الأدمغة والتلاعب. 

أما بعد غزو أوكرانيا، فقد أخذ فلاديمير بوتين يمتشق أسلحة فعلية ضد أوروبا، إلى درجة أنه يلوح بالتهديد النووي، على طريقة دكتور سترينجلوف معاصر.1 أياً تكن أمراض هذا القائد، وأياً تكن وحدته وجنون عظمته، فإن المضاربات في شأن لاعقلانيته وجنونه تحجب النقطة الأهم: تماسك مشروعه الإمبريالي الذي جرى التفكير فيه لوقت طويل، والذي وَضعَ روسيا على مسار حربي وعدواني.

تتيحُ فهمَ ذلكَ مقالةٌ حسنة التوثيق، كتبها الفيلسوف ميشيل إلتشانينوف في 2015، بعد عام من بدء الأزمة الأوكرانية. في رأس فلاديمير بوتين، المقالة التي نُشرت في كتاب صدر عن دار أكت سود [في باريس] هي قائمة شاملة بالإيديولوجيات التي تحرك فلاديمير بوتين. إثر عودته إلى الرئاسة في روسيا عام 2012، بعد فاصل تمثيلي كان خلاله رئيسَ وزراءٍ للرجل الثانيِ في السلطة ديمتري مدفيديف، شرعَ بوتين في تَحوُّل محافظ، يهتدي بفكرة «الطريق الروسي».

ومن ضمن خليط كيفما اتفق من أفكار مستمدة من أنصار روسيا الكبرى منذ أيام القياصرة، والروس البيض المعارضين للبلاشفة، وألكسندر سولجنتسين من أيام الانشقاق السوفييتية، يَبرز عاملٌ واحدٌ ثابتٌ في هذا المزيج: ترويج فكرة روسيا الأبدية، مُقلَّصَةً إلى هويتها المسيحية السلافية. هذا الفكرة تُرفع كبديل في وجه الديمقراطية الحديثة التي تُنبَذ بوصفها خداعاً غربياً. في منتدى شبابي عقد في القرم في آب (أغسطس) 2014، أي بعد شهور قليلة من إلحاقها بروسيا، لخّصَ محاضر مقيم في موسكو وداعمٌ لبوتين الرهان الحقيقي: «بناء حضارة منفصلة… واعتبار أنفسنا حراس أوروبا المنقذين».    

يترسّخُ انتحال روسيا لنفسها وضعَ الضحية، إزاء غرب عدواني ومتعالٍ واقعٍ تحت سيطرة أميركية شمالية، جنباً إلى جنب مع بلاغة من الماضي. يمكن تلخيص هذه البلاغة بكلمات الفيلسوف المعادي للشيوعية إيفان إيلين (1883-1954) الذي قال إن «الشعوب الغربية لا تفهم ولا تدعم أصالة روسيا»، وإن هدفها هو «تجزئة روسيا، وإخضاعها للسيطرة الغربية، بل وتفكيكها ودفعها إلى الزوال». إيلين، الذي انجذبَ لبعض الوقت إلى النازية، هو مؤلف مجموعة مقالات تحت اسم «مهماتنا»، وقد تولت الإدارة الروسية تسليم نسخ منها إلى جميع الموظفين الروس الكبار وحكّام المقاطعات والشخصيات الكبيرة في حزب روسيا الموحدة [حزب بوتين] في كانون الثاني (ديسمبر) 2014. 

في خطابه إلى الفدرالية الروسية يوم 18 آذار (مارس) 2014، أي بعد إلحاق القرم، عبّرَ بوتين نفسه عن عواطف مثل هذه صراحةً. قال: «تستمر اليوم سياسة الاحتواء [احتواء روسيا] التي مورست في القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين. إنهم يحاولون دوماً حصرنا في الزاوية…». وفي مقابلة معه نشرت في صحيفة برافدا الروسية في ذلك الوقت نفسه، قال فياتشسلاف نيكونوف، المؤرخ المقرب من الكرملين وحفيد فياتشسلاف مولوتوف، وزير خارجية ستالين الذي وقع اتفاقية عدم الاعتداء مع ألمانيا النازية عام 1939: « لقد شُنَّت الحرب على روسيا طوال ألف عام. واليوم ليس استثناء من هذا المنوال. إن صراع الغرب ضد روسيا لن ينتهي يوماً».

بوصفه شبحاً خرج من أنقاض الاتحاد السوفييتي، يعرض بوتين مزيجاً من القيصرية الروسية العظيمة ومن الشيوعية الستالينية. في 25 نيسان (أبريل) 2005، كان بوتين قد وصف سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، بأنه «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين». وما من شيء غير منطقي في المزيج القيصري الستاليني إن أخذ المرء بالاعتبار أن جوزف ستالين ذهب إلى مدى بعيد في القطع التام والقاتل مع المُثُل الأممية لثورة أكتوبر 1917، مُختزِلاً السوفييتية إلى حب أعمى لأرض الآباء الروسية، وإلى ثقافة طاعة عسكرية، ودولة يتشكل عمودها الفقري من أجهزة قمع وتجسس مثل كي جي بي التي بدأت سيرةُ بوتين فيها، وتسمى الآن إف إس بي.    

ليست هذه مجرد مضاربة فكرية. فقد اعترف بهذه العلاقة الرئيسُ الروسي نفسه في كلمة صعقت العالم ألقاها في 21 شباط (فبراير) 2022 أعلن فيها تصعيد عدوانه ضد أوكرانيا. فإذْ أنكر الوجود التاريخي لأوكرانيا ذاته، واصفاً إياها بـ«اختراع» بلشفي، عاد بوتين إلى قضية القوميات التي كانت علامة انشقاق بين اللينينية والستالينية، الأمر الذي سيبقى في الذاكرة بفضل المعارضة اليسارية، أي التروتسكية.  

ما ارتكبه لينين من هفوة غير قابلة للمحو في نظر بوتين، بل ما هو «أسوأ حتى من خطأ… من وجهة نظر المصير التاريخي لروسيا وشعوبها»، هو أن لينين أراد إرضاء مطامح قومية متنامية بلا توقف على تخوم الإمبراطورية السابقة [القيصرية]. لينين الذي رفض المساواة بين إمبريالية قمعية، مع ما يميزها من توسع وتوابع مستعمرة، وبين قوى قومية كانت تتمرد لتحرر نفسها، كان يدافع عملياً عن حق الشعوب في صنع قراراتها الخاصة. أما ستالين فقد عمل على أن يضع الأمم الصغيرة في الامبراطورية القيصرية الفاشلة تحت السيطرة الروسية.   

ومثلما أن قضية الكولونيالية لا تزال تؤثر في مجتمعاتنا الراهنة، في صورة تمييز وعنصرية لا تزال قائمة بصيغ متنوعة، فكذلك مسألة القوميات لا تزال في قلب الستالينية المستمرة في إيديولوجية بوتين. كتاب ستالين النظري الوحيد، الماركسية والمسألة القومية، وقد كتبه عام 1913 تحت إشراف لينين، قاده إلى أن يصير مفوض الشؤون القومية بين بداية الثورة الروسية وعام 1923. يتميز الكتاب بشوفينية روسيا الكبرى، ويعارض تقرير المصير إلى درجة اعتبار مطالب الانفصال مضادة للثورة، وبخاصة ومنذ ذلك الوقت في حالة أوكرانيا.

كيف حرفت دعاية بوتين العدوان وجعلت منه مظلومية؟

بعد قرن كامل من قيام الاتحاد السوفييتي عام 1922، يصور بوتين نفسه وريثاً سياسياً لستالين. حين بدأ العمل في آب (أغسطس) 1922 على تحديد العلاقات بين الجمهوريات السوفييتية المقبلة وروسيا، أراد ستالين أن يعطي الجمهوريات إدارة ذاتية غامضة ضمن اتحاد خاضع لروسيا. كان لينين معارضاً بقوة لذلك إلى درجة أن مسألة القوميات صارت معركته الأخيرة قبل أن يقتله المرض، وهذا إلى جانب إدراكه المتأخر لحقيقة أن ستالين الذي كان قد صار الأمين العام [للحزب الشيوعي السوفييتي] يركز في يديه سلطة غير محدودة.   

في وصيته المعروفة التي كتبها في كانون الأول (ديسمبر) 1922، وقد أبقتها السلطات السوفييتية سرية لوقت طويل، هاجم لينين «حملة روسيا الكبرى» القوموية التي حامى عنها ستالين، وقد وصفه بعبارات غير مُجامِلة بأنه «الجيورجي… الذي يقذف بطيش الاتهامات بـ”الاشتراكية القومية”، بينما هو نفسه “اشتراكي قومي” حقيقي، لا بل هو متنمر سوقي باسم روسيا الكبرى». 

بالمقابل، في خطابه في 21 شباط 2022، أقرّ شاغل الكرملين الحالي بأن ستالين «نَفّذَ بالكامل… مبادئه الحكومية هو، وليس مبادئ لينين»، أي بكلمات أخرى «دولة ممركزة بشدة وواحدية بإطلاق». انتقاد بوتين الوحيد يتمثل في أن ستالين «لم يُراجِع رسمياً مبادئ لينين التي يرتكز عليها الاتحاد السوفييتي». أي أن ستالين لم يتحدَّ حق الجمهوريات -على الورق- في تقرير المصير والانفصال. وصف بوتين هذه الحقوق بأنها «توهمات مقيتة وطوباوية حفزتها الثورة، وأنها مدمرة كلياً لأي دولة سوية». 

هذه التعرجات التاريخية في تبرير حربة العدوانية تؤشر على تماسك مشروع بوتين وطبيعته الخطرة، وليست علامة جنون من طرفه. فحين تُمسِكُ يد الماضي الميتة بالحاضر، تصير قوة دافعة وراء إيديولوجيات السخط التي تجعل الأمم خطرة. اللازمة التي تهجس بها هذه الإيديولوجيات هي الإذلالات التي تعرضت لها الأمة والعظمة التي فقدتها، وهو ما يغذي الاقتناع بأنه يمكن استعادة العظمة المفقودة بالانتقام من الإذلال. 

في خطابه يوم 24 شباط، وقد كان علامة انطلاق لغزو أوكرانيا، تكلم بوتين على نهاية الاتحاد السوفييتي، وقال إنها جعلته يقتنع بأن «شلل السلطة والإرادة هو الخطوة الأولى نحو الانحدار والنسيان». وقد أتبع ذلك بتقريع للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، «الغرب الجمعي»: «لقد حاولوا أن يعصرونا عصرةً نهائية، أن ينهونا، أن يدمرونا». أضاف: «لقد سعوا وراء تدمير قيمنا التقليدية وأن يفرضوا علينا قيمهم المزيفة… والمواقف التي تفضي مباشرة إلى الانحدار والتحلل لأنها مضادة للطبيعة الإنسانية».     

قلبُ العدوانِ إلى مظلومية على هذا النحو هو الفخ الذي تنصبه دعاية بوتين، فخ يخفي التعطش إلى السلطة وراء الحاجة إلى الدفاع عن النفس. ويتذرع بالتهديد المفترض من قبل الناتو لخنق التطلعات الديمقراطية لشعوب وسط أوروبا وشرقها.

ومن نافل القول إن القائمة الطويلة للفرص الضائعة خلال العقود الثلاثة الماضية، والعمى العنيد والأخطاء المأساوية للولايات المتحدة وحلفائها، يعطيان قدراً من الثقل للبلاغة البوتينية. وبالفعل، تترك هذه البلاغة صدى مفهوماً عند شعوب عانت من عواقب تلك الأخطاء ودفعت الثمن.

نعم، لقد ثمل الغرب بانتصاره المفترض وقت انهار الاتحاد السوفييتي في 1991. وتواطأ مع الطبقة الحاكمة الجديدة التي اغتنت من نهب بقايا الاتحاد السوفييتي، وتصرّفَ بغطرسة متأمّرة، سَكرى باعتقادها بنهاية التاريخ، حيث الرأسمالية، ودون أي عوائق في طريقها أو مخاطر، هي الحالة النهائية.  

نعم، في العقد التالي لـ2001 و11 أيلول (سبتمبر) في نيويورك، ذهب الغرب إلى أفغانستان والعراق، في حرب ضد الإرهاب كارثية وخادعة، تنتهك القانون الدولي وتدوس على سيادة الأمم، وتزيد من عدد انتهاكات حقوق الإنسان وتتسامح مع التعذيب والاحتجاز غير القانوني وجرائم الحرب. جرى كل ذلك بينما سمح الغرب باستمرارِ انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني في دولة سيدة، بل وإنكار تلك الحقوق.  

نعم، حين شبت الثورات الديمقراطية العربية في 2011، انشغل بال الغرب على أمد استمرار سيطرته، إلى درجة التواطؤ مع الملكيات المطلقة القديمة والدكتاتوريات الوطنية، بدل أن يعرض التضامن مع الثورات. بل ذهب نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي، إلى حد التدخل العسكري في ليبيا، وهو ما لم تعترض عليها وقتها روسيا والصين، وكانت تلك حرباً صورية لم يُصرّح ساركوزي بأهدافها لأنه ما كان من الممكن التصريح بها، مُخفياً بذلك فساده هو.

نعم، منذ بدء الأزمة الأوكرانية في 2014 كانت أوروبا ضعيفة القلب حيالها، وعرضت مزيجاً من التردد ونقص المعرفة. وبينما ندر أن رفضت المتاجرة مع أوليغاركييّ بوتين، متساهلة حتى مع جشع بعض قادتها السابقين،2 فقد اعتمدت على التحالف الأطلسي تحت الإمرة الأميركية، بدل أن تؤكد نفسها كقوة مستقلة، بما في ذلك في الشؤون الدفاعية. وفي الوقت ذاته أدارت ظهرها للعالم، مُسوِّرة نفسها في قلعة من الأمن والهوية القومية.   

أوروبا هذه التي تعيد اكتشاف الحرب في قارتها نفسها، مع مَوَاكب اللاجئين المتولدة عنها، ومع الكوارث والبؤس الإنساني، هي أوروبا نفسها التي غالباً ما أغلقت حدودها، ومنها بخاصة فرنسا، في وجه الإنسانية الجريحة التي وصلت إليها. لقد رفضت التوصل إلى علاقة جديدة قائمة على الاعتماد المتبادل والتضامن مع شعوب المتوسط وأفريقيا.  

الدليل على ذلك في الآونة الأخيرة يتمثل في ما جرت معاينته من عنصرية بمناسبة استقبال اللاجئين الأوكرانيين الهاربين من القتال في بلدهم. لقد صوحب ذلك الاستقبال بكلام عن كيف أن هؤلاء اللاجئين مثلنا، أي باختصار بيض، وأن الأمر يتعلق بهجرة «نوعية» (خلافاً لتلك الهجرة التي تَفِدُ من مناطق أخرى) (اقرأ افتتاحية إلين سالفي حول ذلك، بالفرنسية). هذا بينما المهاجرون غير الأوروبيين، الأفارقة بخاصة، ممن كانوا يفرون عبر الحدود الأوكرانية، جرى ردُّهم على أعقابهم بفظاظة. 

لكن لا شيء من هذه الأخطاء، ولا حتى الجرائم، التي ارتكبها الغرب تبرر العدوان الروسي. لقد كانت بالفعل مواتية لمقدم الإمبريالية الروسية التي يمثلها فلاديمير بوتين، بعدوانيتها وحربيتها ورجعيتها، لكنها ليست بحال سبباً لها. «الطريق الروسي» الذي يريد بوتين أن يفرضه على العالم له منطقه الخاص.

لقد أجبر غزو أوكرانيا العالم على أن يدرك، وإن متأخراً، واقعاً وحشياً جديداً تتعين مجابهته وجهاً لوجه بدل اللجوء إلى المقاربات القديمة، أو ردود الفعل التلقائية، أو ببساطة الميل إلى مساندة طرف محدد. أولئك الذين لا يكنون أي تعاطف مع رأسمالية مفترسة اقتصادياً، مدمرة بيئياً، ومسيطرة جيوسياسياً، لا يمكنهم أن يستخدموا هذه الويلات لإعفاء العدوان الروسي من اللوم أو لعدم أخذ موقف منه حين يواجههم واجب التضامن من الشعب الأوكراني.  

أثناء حروب يوغسلافيا بين 1991 و2001، وقت عادت أصوات المدافع إلى أوروبا لأول مرة [بعد الحرب العالمية الثانية] وقع علينا أن نواجه الواقع الجديد للدول والجيوش التي نهضت من انهيار الاشتراكية، والتي اعتنقت إيديولوجية قومية وعنصرية قاتلة. لقد أدى ذلك إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية كان ضحاياها مسلمو يوغسلافيا السابقة.

يتمثل الخيار المعضل، بالتالي، إما في عدم فعل أي شيء، وغسل المرء يده من المشكلة التي كانت يستحيل تصورها سياسياً وأخلاقياً، وبخاصة بعد الجرائم الجينوسايدية في سربرنيتشا في البوسنة، أو في فعل شيء ما، حتى لو كان ثمة مخاطرة بأن يُنفَّذَ الرد على الجرائم ضمن إطار مُجادَل فيه ومفتوح على النقد، حين اقتضى الأمر أن تقع عملية الناتو في كوسوفو خارج تفويض الأمم المتحدة.

نداء من قبل اليسار الأوكراني والروسي والبولندي

على أنه من السهل الخروج من هذه المعضلة الزائفة: فما على المرء إلا الإصغاء إلى المنخرطين في الصراع اليوم، بخاصة الأصوات الأوكرانية والروسية والبولندية التي تتشاطر الالتزامات الاشتراكية والمناهضة للإمبريالية مع اليسار الأوروبي الجذري. بالنسبة لهؤلاء، مثلما كانت بخصوص التدخل الروسي في سورية (اقرأ مقالة الرأي التي كتبها المؤلف والناشر السوري الفرنسي فاروق مردم بيك في ميديا بارت)، ليس ثمة نقاش، هذا إلا إذا كان المرء يتواطأ مع سيطرة إجرامية وقمعية جديدة.

هذه هي مقاربة الحركة الاجتماعية، وهي منظمة سياسية في أوكرانيا تجمع بين نقابيين ونشطاء من منظمات اليسار السابقة المتنوعة. في سياق تنديدها بـ«انبعاث الإمبريالية الروسية»، أطلقت المنظمة نداء إلى «اليسار الدولي» تدعوه لأن يُدين السياسات الإمبريالية للحكومة الروسية وأن يُظهِرَ التضامن مع الشعب الذي يعاني من حرب دامت لنحو ثماني سنوات، والذي قد يعاني من حرب جديدة. يستطرد النداء: «للأسف، لم يترافق تدهور الإمبريالية الأميركية ببزوغ نظام عالمي أكثر ديمقراطية، بل بصعود ضوارٍ إمبريالية وحركات قومية وأصولية. ضمن هذه الشروط يتعين على اليسار الدولي الذي اعتاد أن يقاتل ضد الإمبريالية الغربية فقط أن يعيد النظر في استراتيجيته… فمثلما كانت الامبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر هي قوات الجندرمة في أوروبا، فإن نظام بوتين هو اليوم الحاجز دون تغيرات اجتماعية وسياسية في الفضاء ما بعد السوفييتي».  

في مقابلة مع اليومية السلوفينية دنيفنيك، أخذ إيليا بودريتسكيس، المؤرخ الروسي الذي يعيش في موسكو والذي يبقى صوتاً لليسار الناقد لنظام بوتين، موقفاً مشابهاً. يقول: «لقد فقد اليسار الأوروبي الاهتمام بالأممية. إنهم يرون العالم صراعاً بين الإمبريالية الأميركية وأولئك الذين يعارضونها». ويضيف: «ومن المفاجئ أن نجد بينهم متعاطفين مع بوتين لأنه يقاوم الإمرة السياسية للولايات المتحدة. على ضوء الصراع في أوكرانيا، يبدو لي أن هناك حاجة ملحة إلى تجديد المقاربة الأممية لليسار الأوروبي فيما يخص السياسة الدولية».        

وبظُرف لطيف، يستطرد بودريتسكيس محذراً: «من شأن ذلك [تجديد المقاربة] أن يكون مفيداً لنا جداً [في روسيا]. فنحن اليوم في وضع أسوأ ممّا أثناء الحرب الباردة». لماذا؟ لأن «أخلاقية المسؤولية3 قد أهدرت من قبل الطرفين كليهما»، بحسبه. ثم لأن روسيا بوتين، خلافاً للاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، «لا يمكنها أن تعرض بديلاً إيديولوجياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً للنظام الأميركي».  

ومن بولندا، ثمة أخيراً هذا الخطاب إلى اليسار في الغرب: «ليس عليكم أن تحبوا الناتو، لكن روسيا ليست الطرف الأضعف أو الواقع تحت التهديد أكثر من غيره». هذه الكلمات جاءت من حزب رازم اليساري الذي يعني اسمه: معاً، والذي تُماثِلُ سياسته سياسة بوديموس في إسبانيا، ومن بعض الأوجه سياسة الحزب اليساري الجذري الفرنسي: فرانس إنسوميز [فرنسا الأبية]. 

كتب أربعة من قادة الحزب البولندي: «طوال عقود صورت روسيا نفسها ضحية قوى معادية تهدد أمنها. الوقائع تناقض ذلك. بجيشها القوي وترسانتها من الرؤوس النووية وطموحاتها الإمبريالية، روسيا هي التي تحاول فرض ما تريد على البلدان المجاورة، وهي من يتعين على اليسار أن يعارض». 

وباختصار، ليس هذا زمن المساومة في مواجهة الإمبريالية الروسية الجديدة. كل موقف يعامل المتخاصمين كمتساوين، كمخاطر متساوية، يَؤول في المحصلة إلى التقليل من شأن الواقع الجديد والمخاطر المعنية. وفي المحصلة، لا يمكن للردّ أن يكون انسحاباً إلى القلعة القومية، أو تبنياً لموقف محايد وهمي بذريعة عدم الانحياز. حين نُواجَه بخطر على هذا المستوى، ليس ثمة رد غير التنسيق مع أمم أخرى، أي الأممية التي مَهَّدَ التخلي عنها الطريق لليسار الأوروبي ليعود إلى قومية تحفزها الهوية ومعاداة الأجانب. وهي القومية التي تمهد بالنتيجة لإمبريالية متسلطة ومحاربة.

علاوة على ذلك، تُظهِر أصول نظام بوتين على ما جرى تبيانها أعلاه كيف أن أي غموض بشأنها ينتهي بإهمال انشغال تحرري أساسي وما يتصل به من صراعات ومطالب: الديمقراطية. يمثل التسامح مع الحكومة الروسية الحالية مؤشراً على اهتمام محدود بقضية الحرية، على ما يدلل داعمو روسيا من اليمين المتطرف. لا بل إن هذا التسامح يدل على افتتان بالحكومات التسلطية.  

مُجادِلاً ضد مثقفي اليسار الذين أحجموا عن الوقوف مع الحكومات التي قاومت النازيين في بدايات الحرب العالمية الثانية في 1941، أقرّ جورج أورويل بسعادة بكل نواقص النظام البريطاني الذي كان امبراطورية حتى ذلك الوقت. صرَّحَ أورويل في مقالته «الثقافة والديمقراطية»، مثلاً، بأنه «بعد كل شيء، إذا كان الألمان قساة مع البولنديين، فسلوكنا نحن [البريطانيين] لم يكن لطيفاً مع الهنود». لكنه قال ذلك من أجل أن يوضح نقطة محددة: في حين أن من المهم تثبيت أن جريمة هي جريمة ولا شيء آخر، سيان ارتكبتها ديمقراطية أم دكتاتورية، فإنه ما من تساوٍ بين النظامين، إذ أن أحدهما يسمح بالاعتراض عليه فيما يحظر ثانيهما ذلك. «في بلد كهذا [انكلترا]، نحن لا نخشى أن ننصب قاماتنا ونقول ما نعتقده»، قال أورويل.     

ليس هناك ما هو أكثر إلحاحاً من دعم أولئك الذين يقاومون عدوان الإمبريالية الروسية الجديدة، ومساعدتهم والدفاع عنهم، بما في ذلك بالسلاح. وهذا من أجل أن يستطيع الشعب الأوكراني اليوم، والشعب الروسي غداً، والشعوب الأخرى من وسط أوروبا وشرقها، نصب قاماتهم وقول ما يفكرون به، أن يختاروا بحرية مصيرهم الخاص.

1.نسبة إلى شخصية في فيلم كوميديا سوداء ظهر في عزّ الحرب الباردة عام 1964، عن حرب نووية أميركية سوفييتية محتملة. يُنظر هنا من أجل المزيد.

2.قد يكون هذا تلميحاً إلى غيرهارد شرودر، مستشار ألمانيا الأسبق الذي كان يرأس مجلس إدارة شركة النفط الروسية الحكومية روسنفت وشركة خطوط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، ويتلقى مئات ألوف اليوروهات سنوياً لخدماته. شرودر نفى مسؤولية روسيا عن تسميم إلكسندر نافالني، ووصف بوتين بالديمقراطي الذي لا تشوبه شائبة.

3.أخلاقية المسؤولية، بحسب ماكس فيبر في كتابه السياسة كمهنة، هي مسؤولية السياسي عن عواقب أفعاله. ويتقابل المفهوم مع أخلاقية الاعتقاد، وهو تصرف الفاعل وفقاً لما تمليه معتقداته.

——————

الغزو الروسي لأوكرانيا أحد أوجه سياسة قوة إمبريالية عدوانية يتعين الوقوف إلى جانب ضحاياها، مثلما هو الحال بخصوص ضحايا أية قوة إمبريالية أخرى. وليس لنا في سورية بخاصة، التي دعمت الإمبرياليةُ الروسيةُ نظامَها الإبادي، وفي عموم المجال العربي، أن نقف إلى جانب المعتدي بذريعة أن القوى الغربية التي عانينا منها الكثير تقف ضده. نُقوّضُ قضيتنا، إن في سورية أو في فلسطين أو غيرهما، بفعل ذلك.

مقالة إدفي بلينل، رئيس تحرير مجلة ميديابارت الفرنسية، نُشرت بالفرنسية والإنكليزية بُعيد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 25 شباط (فبراير) من هذا العام، ونُترجمها إلى العربية لأنها لا تزال راهنة، ثم لأنها تطرح الصراع الجاري في أوروبا في سياق أُممي واسع.

نُشِرَ الأصل الفرنسي كافتتاحية في ميديابارت على هذا الرابط. النسخة الإنكليزية من ترجمة مايكل ستريتر، ومنها جرت الترجمة إلى العربية بموافقة من المؤلف.

https://www.mediapart.fr/journal/international/020322/contre-l-imperialisme-russe-pour-un-sursaut-internationaliste

*****

ترجمة: ياسين الحاج صالح

موقع الجمهورية

—————————–

عن ستالينية بوتين وما يُخفيه تلميحه عن «اغتصاب» أوكرانيا/ سلافوي جيجيك

الترجمة عن الألمانية: سولارا شيحا

علّقَ فلاديمير بوتين في مؤتمر صحافي، في السابع من شباط/فبراير 2022، على عدم رضى الحكومة الأوكرانية عن اتفاقية مينسك بالقول: «سواء أعجبكِ أم لا، إنه واجبكِ يا جميلتي» لهذا التعلّيق دلالات جنسية معروفة: يبدو أن بوتين يُشير إلى مقطع من أغنية «الجميلة النائمة في تابوت» لفرقة البانك روك السوفييتية «العفن الأحمر» Красная Плесень: «الجميلة النائمة في التابوت، تسللت إليها وضاجعتها. سواء أعجبكِ أم لم يُعجبكِ، نامي يا جميلتي».

وعلى الرغم من أن ممثل الكرملين الإعلامي زَعمَ أن التعبير ليس سوى مَثَل فولكلوري قديم، تبقى الإشارة واضحة إلى أوكرانيا، بوصفها موضوعاً لرغبة الاغتصاب ومُجامعة الموتى. وفي معرض ردّه مرّةً على سؤال صحافي غربي، في مؤتمر عُقد عام 2002، قال بوتين: «إن كنتَ تُريد أن تُصبح إسلامياً متطرّفاً، وكنت مستعدّاً للخضوع للختان، فأنا أدعوك إلى موسكو. نحن بلدٌ متعددة المذاهب، ولدينا أخصائيون في هذه المسألة (الختان) سأوصي بتنفيذ العملية، بحيث لا يُمكن لشيء أن ينمو بعدها». تهديد سوقي حقاً بالإخصاء.

وقفة البلطجي:

لا عجب في أن بوتين وترامب كانا رفيقين في السوقية والبذاءة. وكثيراً ما سمعنا الحجة المدافعة عن سلوكهما، والتي ترى أن السياسيين أمثالهما يتحدّثان بصراحة دون نفاق. هُنا يُمكنني القول، إني من صميم قلبي أقف في صفِّ النفاق! إذ أن الشكل (المتمثّل بالنفاق في هذه الحالة) ليس أبداً مجرّد شكل، وإنما هو جزء من المضمون، وعندما يَسقُط الشكل، يتشوّه معه المضمون بشدّة. تجب قراءة تعليق بوتين السّوقي على خلفية الأزمة الأوكرانية، التي يُشار لها في وسائل الإعلام لدينا على أنها تهديدٌ بـ»اغتصاب بلدٍ مسالم». لا تخلو هذه الأزمة من جوانبٍ كوميدية، الأمر الذي إن دلّ على شيء في عالمنا المقلوب، فهو يدل على مدى خطورتها. وقد أشارَ المحلل السياسي السلوفيني بوريس شيبيتج، مطلعَ العام الحالي، إلى الطابع الكوميدي للتوتّر المحيط بأوكرانيا: «ينفي المهاجِمون المُتوَقَّعون (أي روسيا) أيّ نيّة لديهم بالهجوم، ويصرُّ أولئك الذين يريدون تهدئة الوضع على أن الهجوم أمرٌ مؤكد الوقوع».

في الأسابيع القليلة الماضية حذَّرت الولايات المتحدة الأمريكية (حامية أوكرانيا) من إمكانية اندلاع الحرب في أي لحظة، في حين حذَّر الرئيس الأوكراني (الضحية المُحتَملة) من الهيستيريا، ودعا إلى الهدوء والتأنّي. من السهل تشبيه الوضع بالاغتصاب: تدّعي روسيا، الجاهزة لاغتصاب أوكرانيا، أنها لن تفعل، لكنّها بين السطور تهددُ بذلك، في حال رفضِ الأخيرة الجنس (فلنتذكر تعليق بوتين المبتذل) وفي الوقت ذاته تتهمُ روسيا أوكرانيا باستفزازها وإثارتها لتقوم باغتصابها. فيما تدق الولايات المتحدة، التي تريد حماية أوكرانيا، ناقوس الخطر، محذِّرةً من الاغتصاب الوشيك، حتى تتمكن من فرض نفسها مدافعة عن الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق. يُذكّرنا موقفها هذا ببلطجي يعرِضُ الحماية للمتاجر والمطاعم في منطقته ضد السرقة أو التخريب، مع تهديد مستتر بالأذى في حال رفضها. تحاول أوكرانيا المستهدفة بالتهديدات التزام الهدوء، تُقلِقها أيضاً أجراس الإنذار الأمريكية، مدركة أن الاهتياج والجلبة حول الاغتصاب المُفتَرَض قد يدفعان روسيا بالفعل لاقترافه.

عجزُ المُعتدي:

إذن ما الذي يَكمُن وراء هذا الصراع، في كل أخطاره التي لا يُمكن التنبؤ بها؟ ماذا لو أن خطورة الصراع ليست مؤشراً على النفوذ المتزايد للقوتين العُظميين السابقتين، وإنما على العكس، هي دليل على إنكارهما العنيد حقيقةَ أنهما لم تعودا قوى عالمية حقيقية. شَبّهَ ماو تسي تونغ، في ذروة الحرب الباردة، الولاياتَ المتحدة الأمريكية بكل أسلحتها وعتادها بنمرٍ من ورق، إلا أنه نسي أن يُضيف أن النمور الورقية قد تكون أكثر خطورة من تلك الحقيقية الواثقة من جبروتها.

لم يكن الفشل الذريع في الانسحاب من أفغانستان إلا أحدث لطمة في سلسلة لطمات تلقّاها تفوّق السيادة الأمريكية. وليست جهود روسيا لإعادة بناء الإمبراطورية السوفييتية سوى محاولة يائسة للتغطية على واقع ضعفها واضمحلالها. وكما الحال مع المُغتَصِبين الحقيقيين، يكون الاغتصاب دليل عجز المُعتدي. العجز الروسي جليٌّ الآن بعد بدء الاغتصاب، من خلال أول اختراق مباشر للجيش الروسي لأوكرانيا، هذا إن لم نُدخِل في الحسبان الدور القذر لمجموعة فاغنر، الشركة العسكرية الخاصة، التي شارك مقاولوها في نزاعات متعددة، منها الحرب الأهلية السورية، وشبه جزيرة القرم ووسط افريقيا وجمهورية صرب البوسنة. مجموعة جنود المرتزقة المجهولين هذه، التي تشكل ذراعاً طويلة لوزارة الدفاع الروسية، عندما يكون نفي المسؤولية ضرورياً، تعمل منذ سنوات في حوض دونباس، تنظِّم فيه المقاومة العفوية ضد أوكرانيا (كما فعلَتْ سابقاً في جزيرة القرم).

مبادئ ستالين:

الآن وبعد تفجّر الوضع، ناشد مجلس الدوما الروسي بوتين مباشرةً للاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، الخاضعتين للنفوذ الروسي. ردُّ بوتين الأوّلي كان رفض الاعتراف باستقلالية الجمهوريتين سابقتي الذكر، ليبدو الأمر وكأن اعترافه اللاحق باستقلاليتهما ليس إلا استجابةً للضغط الشعبي، أي استجابةً لضغطٍ من الأسفل، وهو بذلك يتَّبِعُ النهج الذي نصّه ستالين ومارسه لعقود. في منتصف عشرينيات القرن الماضي، اقترح ستالين اتخاذ قرار يُعلِنُ ببساطة حكومةَ جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفييتية حكومةً للجمهوريات الخمس الأخرى أيضاً (أوكرانيا، بيلاروسيا، أذربيجان، أرمينيا وجورجيا). «في حال تمّت الموافقة على القرار من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، فلن يُعلَن أو يُنشَر، بل ستتم إحالته إلى اللجان المركزية للجمهوريات، لإحالته من قبلهم إلى أجهزة مجلس السوفييت الأعلى، أو إلى اللجنة التنفيذية المركزية، أو إلى مؤتمرات السوفييتات في الجمهوريات المذكورة، قبل انعقاد المؤتمر السوفييتي لعموم روسيا، الذي ستتم فيه الموافقة على القرار، بناءً على رغبة وطلب تلك الجمهوريات» أي أنه لم يتم إلغاء التفاعل بين السلطة العليا (اللجنة المركزية) وقاعدتها وحسب، بحيث تَفرِضُ السلطة العليا إرادتها ببساطة، بل لجعل الوضع أسوأ، تمَّ ترتيبه لإظهاره على نقيض حقيقته: تُقرِّرُ اللجنة المركزية مطالبَ قواعدها منها، وكأنها فعلاً رغبتهم. لنتذكر الترتيب الأبرز من هذا النوع: في عام 1939، عندما طَلَبت دولُ البلطيق الثلاث الانضمام إلى الاتحاد السوفييتي طواعيةً، ووافق الأخير على رغبتها. ما قام به ستالين في أوائل الثلاثينات كان مجرّد رجعة إلى السياسات الداخلية والخارجية للحكم القيصري السابق للثورة، وهكذا، على سبيل المثال، لم يعد الاستعمار الروسي لسيبيريا وآسيا المسلمة مُداناً باعتباره توسُّعاً إمبريالياً، وإنما محتفىً به، باعتباره فاتحة للتحديث التقدّمي.

عقدَ بوتين، بطريقةٍ مشابهة، مجلسَ الأمن الخاص به، سأل فيه كبار المسؤولين إن كانوا مؤيدين لقرار الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. عندما حان دور رئيس الاستخبارات سيرجي ناريشكين، ويمكن مشاهدة المقطع على يوتيوب، اقترحَ في البداية إعطاء الغرب فرصة أخيرة لاحترام اتفاقيات مينسك، عبر توجيه إنذارٍ أخير له.

قاطعه بوتين بجفاف: «ماذا تقصد؟ هل تريد بدء مفاوضات أم الاعتراف بالاستقلال؟». بدأ عندها ناريشكين بالتلعثم، دون أن يعرف ما يجب قوله، تمتَمَ بعدها: «نعم» ثم «لا» وشَحبَ وجههُ لثوانٍ، بدت وكأنها دامت دهراً. يتدخل بوتين: «تكلّم بوضوح». يقوم رئيس الاستخبارات، شاعراً بالضغط، بعكس المسار، ويذهب خطوة أبعد، مصرحاً بدعم قرار ضم دونيتسك ولوغانسك إلى روسيا الاتحادية! يقاطعه بوتين مرة أخرى: «نحن لا نتحدث عن ذلك. نحن نناقش الاعتراف باستقلالهما». يتراجع ناريشكين القلق عن تصريحه، ويدعم الاعتراف بالاستقلال، وعندها يشكرهُ بوتين: «شكراً، يمكنك الجلوس مجدداً».

على الرغم من مناشدة الحزب الشيوعي الروسي، في كانون الثاني/يناير 2022، بوتين بالاعتراف بالمنطقتين (الأمر الذي رفضَه الأخير، مُمَثِّلاً دور رجل قانون صبور) من المهم جداً أن ننتبه إلى أن الغزو الجاري للدونباس يُشكِّلُ الرفض الأخير والقاطع للإرث اللينيني في روسيا. المرّة الأخيرة التي احتلَّ فيها لينين عناوين الصُّحُف الغربية كانت أثناء الانتفاضة الأوكرانية عام 2014، التي أطاحت بالرئيس يانوكوفيتش الموالي لروسيا. شاهدنا على شاشات التلفزيون أمواج المتظاهرين الغاضبين في كييف يُسقطون تماثيل لينين. يسهل فهم دوافع هذه الهجمات الغاضبة، في حال قُرِأت تماثيل لينين بوصفها رمزاً للقمع السوفييتي، وروسيا بوتين على أنها استمرار للسياسة السوفييتية، التي أخضَعت تحت حكمها الدول غير الروسية.

المُذنب هو لينين:

إلا أنها لمفارقة كبيرة فعلاً أن الأوكرانيين، تعبيراً عن رغبتهم بتحقيق سيادتهم الوطنية، أسقطوا تماثيل لينين، فالعصر الذهبي للهوية الوطنية الأوكرانية لم يكن روسيا القيصرية (وقتها تم إحباط الإرادة الذاتية للأمة الأوكرانية) وإنما كان أثناء العقد الأول للاتحاد السوفييتي، حين أسس الأوكرانيون هويةً وطنية كاملةً، بعد اتباع الاتحاد سياسة «التوطين/التجذير» (Korenisazija)التي أرادت تجنّب نفورَ الشعوبِ غير الروسية في الاتحاد السوفييتي من المُثُل الشيوعية». وصاغ لينين مبادئ سياسة التوطين مطلع عام 1916 بشكلٍ لا لبس فيه: «لا يَسَعُ البروليتاريا إلا أن تكافح ضد الاستبقاء القسري للأمم المضطهَدة ضمن حدود دولة معيّنة، وهذا بالضبط ما يعنيه النضال في سبيل حق تقرير المصير. على البروليتاريا المطالبة بحق الانفصال السياسي للمستعمرات والشُّعوب الواقعة تحت اضطهاد دولتها نفسها. إن لم تقم بذلك، ستبقى الأممية البروليتارية شعاراً فارغاً، إذ سيكون من المستحيل بناء ثقة متبادلة وتضامن طبقي بين عُمَّال الأمم المُضطهِدة والمُضطهَدة». بقي لينين مُخلصاً لهذا الموقف حتى النهاية: في نضاله الأخير ضد مشروع ستالين الهادف لإقامة اتحاد سوفييتي مركزي، دافعَ مرَّةً أخرى عن الحق غير المشروط للدول الصغيرة في الانفصال (جورجيا في هذه الحالة) وأصرَّ على السيادة الكاملة للكيانات الوطنية، التي شكَّلت بمجموعها الدولة السوفييتية. فلا عجب أن قام ستالين باتهام لينين علانيةً بـ»الليبرالية القومية» في رسالةٍ إلى أعضاء المكتب السياسي في 27 أيلول/سبتمبر عام 1922.

سياسة بوتين الخارجية هي استمرارٌ واضح لهذا الخط القيصري ـ الستاليني، فوفقاً لبوتين، جاء دور البلاشفة، بعد الثورة الروسية عام 1917، لمضايقة روسيا: «من الصواب الاسترشاد بأفكاركَ عندما تحكم، لكن فقط في حال أتت أفكارك بالنتائج الصحيحة. ولم تكن الحال كذلك مع فلاديمير أليتش. أدت فكرته هذه في النهاية لانهيار الاتحاد السوفييتي. كانت هنالك أفكار كثيرة من هذا النوع، من قبيل منح مناطق الحكم الذاتي وما شابه، وكانت بمثابة قنبلة ذرية، تم زرعها أسفل البناء المسمّى روسيا، وانفجرت لاحقاً».

«ما العمل؟»:

أي باختصار، لينين هو المُلام، فقد أخذَ على محمل الجد استقلالية الدول المختلفة، التي شكّلت الامبراطورية الروسية، وبالتّالي قوّضَ الهيمنة الروسية (حسب بوتين) لا عجب في أننا نرى صور ستالين من جديد في المسيرات العسكرية والاحتفالات العامة في روسيا اليوم، بينما يتم طمس لينين. في استطلاعٍ للرأي منذ بضع سنوات، تم اعتبار ستالين ثالثَ أعظم روسي في كل العصور، بينما لم نرَ أثراً للينين في اللائحة.

لا يتم الاحتفاء بستالين باعتباره شيوعياً، إنما باعتباره مُنعشَ عظمةِ روسيا بعد ضلال لينين غير الوطني. ولا عجب أيضاً في أن بوتين أثناء إعلانه التدخل العسكري في حوض دونباس في 20 فبراير2022، كرّرَ ادعاءه القديم بأن لينين، الذي اعتلى سدة الحكم بعد الإطاحة بعائلة القيصر رومانوف، هو مُنشئ ومُخترع أوكرانيا، مؤكداً: «دعونا نبدأ من حقيقة أن أوكرانيا المعاصرة تم إنشاؤها بالكامل من قبل روسيا، ولنكن أكثر دقة، تم بناؤها على يد روسيا الشيوعية البلشفية، بعد ثورة 1917مباشرةً».

هل يُمكن لبوتين أن يكون أكثر وضوحاً؟! جميع اليسارين، الميالين لروسيا حتى الآن من منطلق أنها تبقى، على الرغم من كل شيء، خليفة الاتحاد السوفييتي، والديمقراطيات الغربية مزيفة، وأن بوتين يعارض الإمبريالية الأمريكية، إلخ، يجب أن يواجهوا الحقيقة المرّة بأن بوتين ليس سوى قومي مُحافِظ. وروسيا لن تعودَ لأيام الحرب الباردة القديمة، ذات القوانين الثابتة، إنما ما يحدث أكثر جنوناً بكثير: ليست حرباً باردة وإنما سلامٌ ساخن، سلامٌ يرقى إلى حربٍ مستمرّة هجينة (هيبريدية) يتم فيها إعلان التدخلات العسكرية على أنها مهامٌ إنسانية لحفظ السلام، ودرء خطر الإبادة الجماعية: «يُعرب مجلس الدوما عن دعمه الكامل والواثق للتدابير المناسبة المتخذة لأسباب إنسانية».

كي نختتم بسؤال لينين: «ما العمل الآن؟» علينا جميعاً، نحن في البلدان التي تُشاهد مأساة اغتصاب أوكرانيا، إدراك أن الإخصاء الحقيقي هو الرادع الوحيد للاغتصاب. لذا علينا حث المجتمع الدولي على القيام بعملية إخصاء لروسيا (وإلى درجة ما للولايات المتحدة الأمريكية أيضاً) بتجاهلها وتهميشها قدر المستطاع، والحرص على تنفيذ عملية الإخصاء هذه، بحيث لا يمكنُ لنفوذ روسيا العالمي أن ينمو بعدها.

*سولارا شيحا : كاتبة ومترجمة سورية

المقال بالألمانية:

https://www.welt.de/kultur/plus237146261/Slavoj-Zizek-ueber-Wladimir-Putins-Stalinismus.html?icid=search.product.onsitesearch

القدس العربي

—————————-

—————————-

رسالة مفتوحة إلى نعوم تشومسكي (ومثقفين آخرين متشابهين في التفكير) بشأن الحرب الروسية الأوكرانية

بوهدان كوخارسكي ، أناستاسيا فيديك ، يوري جورودنيشينكو ، وإيلونا سولوجوب

بورودينكا ، أوكرانيا ، الأربعاء 6 أبريل 2022. المصدر.

عزيزي البروفيسور تشومسكي ،

نحن مجموعة من الاقتصاديين الأكاديميين الأوكرانيين الذين حزنوا بسبب سلسلة من المقابلات والتعليقات الأخيرة التي أجريتها على الحرب الروسية على أوكرانيا. نعتقد أن رأيك العام في هذه المسألة يأتي بنتائج عكسية لوضع حد للغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا وجميع الوفيات والمعاناة التي جلبها إلى وطننا.

بعد أن تعرفنا على مجموعة المقابلات التي أجريتها حول هذه المسألة ، لاحظنا العديد من المغالطات المتكررة في خط حجتك. فيما يلي ، نود أن نوضح لك هذه الأنماط ، جنبًا إلى جنب مع ردنا المختصر:

النمط رقم 1: إنكار سيادة أوكرانيا

في مقابلتك مع جيريمي سكاهيل في The Intercept في 14 أبريل 2022 زعمت: ‘حقيقة الأمر أن شبه جزيرة القرم غير مطروحة على الطاولة. قد لا نحبه. يبدو أن سكان القرم يحبون ذلك ‘. نود أن نلفت انتباهكم إلى عدة حقائق تاريخية:

أولاً ، انتهك ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 مذكرة بودابست (التي وعدت فيها باحترام وحماية الحدود الأوكرانية ، بما في ذلك شبه جزيرة القرم) ، ومعاهدة الصداقة والشراكة والتعاون (التي وقعتها مع أوكرانيا في عام 1997 بنفس الوعود). ، ووفقًا لأمر محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة ، فقد انتهكت القانون الدولي.

ثانيًا ، ‘القرم’ ليسوا مجموعة عرقية أو مجموعة متماسكة من الناس – لكن تتار القرم كذلك. هؤلاء هم السكان الأصليون لشبه جزيرة القرم ، الذين رحلهم ستالين في عام 1944 (ولم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم إلا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي) ، وأجبروا على الفرار مرة أخرى في عام 2014 عندما احتلت روسيا شبه جزيرة القرم. ومن بين الذين بقوا ، تعرض العشرات للاضطهاد والسجن بتهم باطلة وفقدوا ، وربما ماتوا.

ثالثًا ، إذا أشرت من خلال ‘الإعجاب’ إلى نتيجة ‘استفتاء’ القرم في 16 مارس 2014 ، يرجى ملاحظة أن هذا ‘الاستفتاء’ تم إجراؤه تحت تهديد السلاح وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلانه. في الوقت نفسه ، أيد غالبية الناخبين في شبه جزيرة القرم استقلال أوكرانيا في عام 1991.

النمط رقم 2: معاملة أوكرانيا كبيدق أمريكي على رقعة الشطرنج الجغرافية السياسية

تشير المقابلات التي أجريتها ، سواء عن طيب خاطر أو بغير قصد ، إلى أن الأوكرانيين يقاتلون مع الروس لأن الولايات المتحدة حرضتهم على القيام بذلك ، وأن الميدان الأوروبي حدث لأن الولايات المتحدة حاولت فصل أوكرانيا عن دائرة النفوذ الروسي ، وما إلى ذلك. وهي صفعة على الوجه لملايين الأوكرانيين الذين يخاطرون بحياتهم من أجل الرغبة في العيش في بلد حر. ببساطة ، هل فكرت في احتمال أن الأوكرانيين يرغبون في الانفصال عن دائرة النفوذ الروسي بسبب تاريخ من الإبادة الجماعية والقمع الثقافي والحرمان المستمر من حق تقرير المصير؟

نمط # 3. مما يشير إلى أن روسيا مهددة من قبل الناتو

في المقابلات التي تجريها ، أنت حريص على طرح الوعد المزعوم من قبل [وزير الخارجية الأمريكية] جيمس بيكر والرئيس جورج إتش. وقال بوش لغورباتشوف أنه إذا وافق على السماح لألمانيا الموحدة بالانضمام إلى الناتو ، فإن الولايات المتحدة ستضمن أن الناتو لن يتحرك ‘شبرًا واحدًا باتجاه الشرق’. أولاً ، يرجى ملاحظة أن الطابع التاريخي لهذا الوعد موضع خلاف كبير بين العلماء ، على الرغم من أن روسيا كانت نشطة في الترويج له. الفرضية هي أن توسع الناتو باتجاه الشرق لم يترك لبوتين خيارًا آخر سوى الهجوم. لكن الواقع مختلف. انضمت دول أوروبا الشرقية ، وتطلعت أوكرانيا وجورجيا إلى الانضمام إلى الناتو ، من أجل الدفاع عن نفسيهما من الإمبريالية الروسية. لقد كانوا على حق في تطلعاتهم ، نظرًا لأن روسيا هاجمت جورجيا في عام 2008 وأوكرانيا في عام 2014. علاوة على ذلك ، جاءت الطلبات الحالية من قبل فنلندا والسويد للانضمام إلى الناتو ردًا مباشرًا على الغزو الروسي لأوكرانيا ، بما يتفق مع توسع الناتو الذي كان نتيجة لروسيا. الإمبريالية وليس العكس.

بالإضافة إلى ذلك ، نحن نختلف مع الفكرة القائلة بأن الدول ذات السيادة لا ينبغي أن تقيم تحالفات بناءً على إرادة شعوبها بسبب الوعود الشفوية المتنازع عليها التي قدمها جيمس بيكر وجورج إتش دبليو. بوش إلى جورباتشوف.

نمط # 4. مبيناً أن الولايات المتحدة ليست أفضل من روسيا

بينما تسمي الغزو الروسي لأوكرانيا ‘جريمة حرب’ ، يبدو لنا أنه لا يمكنك فعل ذلك دون تسمية جميع الفظائع الماضية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في الخارج (على سبيل المثال ، في العراق أو أفغانستان) ، في النهاية ، تقضي معظم وقتك في مناقشة الأمر الأخير. كخبراء اقتصاديين ، لسنا في وضع يسمح لنا بتصحيح الاستعارات التاريخية الخاصة بك ، وغني عن القول ، إننا ندين القتل غير المبرر للمدنيين على يد أي قوة في الماضي. ومع ذلك ، فإن عدم طرح بوتين على تهم جرائم الحرب في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لمجرد أن بعض القادة السابقين لم يتلقوا معاملة مماثلة سيكون نتيجة خاطئة يمكن استخلاصها من أي تشبيه تاريخي. في المقابل ، نجادل بأن محاكمة بوتين على جرائم الحرب التي تُرتكب عمداً في أوكرانيا ستشكل سابقة دولية لقادة العالم الذين يحاولون فعل الشيء نفسه في المستقبل.

نمط # 5. تبييض أهداف بوتين لغزو أوكرانيا

في المقابلات التي تجريها ، تبذل قصارى جهدك لتبرير أهداف بوتين المتمثلة في ‘نزع السلاح’ و ‘تحييد’ أوكرانيا. يرجى ملاحظة أن الهدف الحرفي الذي أعلنه بوتين لهذه ‘العملية العسكرية’ في خطابه التليفزيوني في 24 فبراير 2022 ، والذي يمثل بداية الحرب ، هو ‘نزع النازية’ عن أوكرانيا. يعتمد هذا المفهوم على مقالته التاريخية الزائفة من يوليو 2021 ، والتي تنكر وجود أوكرانيا وتزعم أن الأوكرانيين ليسوا أمة. كما تم تفصيله في ‘دليل نزع النازية’ الذي نشرته وكالة الأنباء الروسية الرسمية ريا نوفوستي ، فإن ‘النازي’ هو ببساطة إنسان يعرف نفسه على أنه أوكراني ، وكان إنشاء دولة أوكرانية قبل ثلاثين عامًا بمثابة ‘نازية أوكرانيا ، ‘وأي محاولة لبناء مثل هذه الدولة يجب أن تكون عملاً’ نازيًا ‘. وفقًا لكتيب الإبادة الجماعية هذا ، فإن نزع النازية يعني هزيمة عسكرية ، وتطهيرًا ، و ‘إعادة تثقيف’ على مستوى السكان. ويشير ‘نزع السلاح’ و ‘التحييد’ إلى نفس الهدف – بدون أسلحة لن تكون أوكرانيا قادرة على الدفاع عن نفسها ، وستقوم روسيا تصل إلى هدفها طويل المدى لتدمير أوكرانيا.

نمط # 6. على افتراض أن بوتين مهتم بالحل الدبلوماسي

كنا جميعًا نتمنى بشدة وقف إطلاق النار وتسوية تفاوضية كان من الممكن أن تنقذ أرواحًا كثيرين. ومع ذلك ، نجد أنه من غير المعقول أن تُلقي اللوم مرارًا وتكرارًا على عدم التوصل إلى هذه التسوية لأوكرانيا (لعدم تقديم بوتين بعض ‘فتحة الهروب’) أو الولايات المتحدة (لإصرارها المفترض على الحل العسكري بدلاً من الحل الدبلوماسي) بدلاً من المعتدي الفعلي ، الذي قصف بشكل متكرر ومتعمد المدنيين وأقسام الولادة والمستشفيات والممرات الإنسانية خلال تلك ‘المفاوضات’ ذاتها. نظرًا للخطاب التصعيدي (المذكور أعلاه) لوسائل الإعلام الحكومية الروسية ، فإن هدف روسيا هو محو وقهر أوكرانيا ، وليس ‘حل دبلوماسي’.

نمط # 7. الدعوة إلى أن الرضوخ للمطالب الروسية هو السبيل لتجنب الحرب النووية

منذ الغزو الروسي ، تعيش أوكرانيا في خطر نووي مستمر ، ليس فقط لكونها هدفًا رئيسيًا للصواريخ النووية الروسية ولكن أيضًا بسبب الاحتلال الروسي لمحطات الطاقة النووية الأوكرانية.

لكن ما هي بدائل النضال من أجل الحرية؟ الاستسلام غير المشروط ثم القضاء على الأوكرانيين من على وجه الأرض (انظر أعلاه)؟ هل تساءلت يومًا عن سبب قيام الرئيس زيلينسكي ، بدعم ساحق من الشعب الأوكراني ، بمناشدة القادة الغربيين لتوفير أسلحة ثقيلة على الرغم من التهديد المحتمل بالتصعيد النووي؟ الجواب على هذا السؤال ليس ‘بسبب العم سام’ ، بل يرجع إلى حقيقة أن جرائم الحرب الروسية في بوتشا والعديد من المدن والقرى الأوكرانية الأخرى أظهرت أن العيش تحت الاحتلال الروسي هو ‘جحيم على الأرض’ يحدث بشكل صحيح الآن ، الأمر الذي يتطلب إجراءات فورية.

يمكن القول إن أي تنازلات لروسيا لن تقلل من احتمالية نشوب حرب نووية ولكنها ستؤدي إلى التصعيد. إذا سقطت أوكرانيا ، فقد تهاجم روسيا دولًا أخرى (مولدوفا أو جورجيا أو كازاخستان أو فنلندا أو السويد) ويمكنها أيضًا استخدام ابتزازها النووي لدفع بقية أوروبا للخضوع. وروسيا ليست القوة النووية الوحيدة في العالم. دول أخرى ، مثل الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية تراقب. فقط تخيل ما سيحدث إذا علموا أن القوى النووية يمكنها الحصول على ما تريد باستخدام الابتزاز النووي.

الأستاذ تشومسكي ، نأمل أن تفكر في الحقائق وتعيد تقييم استنتاجاتك. إذا كنت تقدر حقًا حياة الأوكرانيين كما تدعي ، نود أن نطلب منك التفضل بالامتناع عن إضافة المزيد من الوقود إلى آلة الحرب الروسية من خلال نشر وجهات نظر تشبه إلى حد كبير الدعاية الروسية.

إذا كنت ترغب في مزيد من الانخراط في أي من النقاط المذكورة أعلاه ، فنحن دائمًا منفتحون على المناقشة.

أطيب التحيات،

بوهدان كوخارسكي ، جامعة مدينة نيويورك

أناستاسيا فيديك ، جامعة كاليفورنيا ، بيركلي

يوري جورودنيشنكو ، جامعة كاليفورنيا ، بيركلي

إيلونا صوغوب ، فوكس أوكراين

https://www.e-flux.com/notes/470005/open-letter-to-noam-chomsky-and-other-like-minded-intellectuals-on-the-russia-ukraine-war

—————————-

قبل خيرسون وبعدها: خصوصيّات الحالة الأوكرانيّة/ حازم صاغية

حين استقلّت بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة عمّا كان اتّحاداً سوفياتيّاً، بدا أنّنا أمام حدث غير مسبوق في التاريخ؛ ففضلاً على انهيار إمبراطوريّة عظمى، نجحت دزينة من الثورات في أن تحرز هدفها من دون عنف يُذكر. يكفي أن تتداعى الإمبراطوريّة في مركزها حتّى تستقلّ الأطراف بسلاسة فائقة نسبيّاً. هذه بدت القاعدة السائدة يومذاك.

الحلم الكبير هذا ما لبث أن تبيّن أنّه ناقص. ذاك أنّه ما أن تستعيد الإمبراطوريّة بعض قوّتها، من دون أن تشهد مراجعة عميقة لدورها الإمبراطوريّ السابق، حتّى يتفجّر صندوق باندورا مُطلقاً شياطين كثيرة آثرت أن لا تموت.

هذا ما كانه معنى الحرب الأخيرة على أوكرانيا، مضفياً على الحالة الأوكرانيّة خصوصيّة محدّدة: إنّ المسار الاستقلاليّ والديمقراطيّ لشعوب وبلدان عدّة يُرسم حصريّاً هناك. فالحرب تلك أكّدت، بما يكفي من إشاعة التشاؤم التاريخيّ، أنّ الإنجاز السلميّ الكبير لعامي 1989 – 1990 لن يتمّ ولن يكتمل إلاّ في حالة واحدة: أن تغدو الإمبراطوريّة الروسيّة السابقة سلميّة، أي أن تتخلّى فعلاً، مرّةً وإلى الأبد، عن نزوعها الإمبراطوريّ، وأن تقنع بكونها دولة عاديّة مثلها مثل باقي دول العالم. عدم حصول ذلك، في ظلّ زعامة فلاديمير بوتين، هو بالضبط ما يمنح المشروعيّة لمخاوف الأوكرانيّين وسواهم من الشعوب الأوروبيّة، التي جعلتهم بالغي الحماسة للانضمام إلى الناتو والاتّحاد الأوروبيّ. فالنوم على حرير الجوار، طالما أنّ الجار لم يغدُ بلداً ديمقراطيّاً عاديّاً، قد ينقلب في أيّة لحظة نوماً على شوك. وهناك في التاريخ القريب، فضلاً على البعيد، ما يعزّز تلك المخاوف حيال الجبروت الروسيّ. بيد أنّ الحالة الأوكرانيّة، رغم الأكلاف الباهظة، هي التي جعلت العودة إلى الوراء الإمبراطوريّ، في أوكرانيا وفي سواها، أقرب إلى الاستحالة.

وهنا تكمن الخصوصيّة الثانية للحالة والحرب الأوكرانيّتين اللتين يتعلّق بهما وضع روسيا الجديدة ومعناها. ذاك أنّ الحدث الحربيّ الكبير ما كان ليصطبغ بالمأسويّة التي اصطبغ بها لولا اتّصاله بهذين الوضع والمعنى. ففجأةً بدأت تشيع التكهّنات المتضاربة عن استخدام السلاح النوويّ، فضلاً على إنزال خراب هائل بأوكرانيا، لا سيّما ببُناها التحتيّة، وعن سقوط 200 ألف قتيل وفق تقديرات الجنرال الأميركيّ مارك ميلي. ومن يدري فقد تطول المواجهة ويتعاظم وجه العبث والمجانيّة في أعمالها التدميريّة من أجل الحفاظ على معنى بعينه للروسيّة، معنى لا تريد النخبة الحاكمة في موسكو طيّه واستبداله.

هكذا، وفي البال مباشرةُ الانسحاب الروسيّ الأخير من مدينة خيرسون، وارتفاع الأعلام الأوكرانيّة فيها، بدأت تظهر أصوات ليست مخطئة بالضرورة، تؤكّد أنّ النهاية الفعليّة للحرب الأوكرانيّة إنّما هي تغيُّر روسيا نفسها. هذا علماً بأنّ مهمّة تاريخيّة ضخمة كهذه قد لا يحتملها الجسد الروسيّ ذاته، هو الممزّق دائماً بين سلافيّته وأوروبيّته، وبين نازع الاستبداد فيه ونازع الديمقراطيّة.

على أيّ حال بات واضحاً جدّاً أنّ النهج البوتينيّ المعمول به، الذي تصيبه الانتكاسات الحربيّة المتتالية، لن يتمكّن من إنجاز ما عزم ذات مرّة على إنجازه. فلا حطام الإمبراطوريّة القديمة يتيح ذلك، ولا الشوق المهيض الجناح إلى استعادة الإمبراطوريّة من جديد يتيحه. أمّا الرهان على الإصرار الحديديّ وعلى المبادرة الذاتيّة لموسكو فلا يمكنه التغلّب على فارق تقنيّ وعسكريّ باتت تكثر الشواهد الدامغة عليه. وهو، في آخر المطاف، فارق ينمّ عن المسافة الضخمة بين النموذج السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ الغربيّ الداعم لأوكرانيا والنموذج الروسيّ المتهالك على الأصعدة جميعاً.

والحال أنّ انسحاب الولايات المتّحدة من أفغانستان أو وجود خلافات داخل الناتو وداخل الاتّحاد الأوروبيّ لا يكفيان بتاتاً للرهان على «إلحاق الهزيمة بالغرب» و«إنهاء الواحديّة القطبيّة»، قفزاً فوق التفاوت التقنيّ وغير التقنيّ الهائل.

لقد شهد عقدا الستينات والسبعينات، على هامش الحرب الفيتناميّة – الأميركيّة، نظريّة تقول إنّ في وسع الشعوب وتضحياتها إلحاق الهزيمة بجيوش الدول المتقدّمة تقنيّاً. لكنّ الخصوصيّة الأخرى في الحالة الأوكرانيّة حيال الروس أنّ ذاك البلد الصغير هو الذي يحتلّ موقع فيتنام في هذه المواجهة، فضلاً على تمتّعه بالتفوّق التقنيّ الذي يوفّره له السلاح والتدريب الغربيّان.

بلغة أخرى، نادراً جدّاً ما اجتمعت الكفاءة التقنيّة والقضيّة المحقّة في طلب الاستقلال والسيادة وجلاء القوّات الأجنبيّة. إنّها تجتمع في أوكرانيا التي قد تُدمّر إلاّ أنّ من الصعب جدّاً أن تُهزم.

الشرق الأوسط

—————————–

سحر الإمبريالية الغامض/ بكر صدقي

قليل من الناس عندنا اليوم يدركون العلاقة اللغوية بين الإمبريالية والإمبراطورية مع أنهما شيء واحد. تحيل الثانية، في أذهان عموم الجمهور، إلى الماضي الذي شهد صعود امبراطوريات وانحدارها، كالإمبراطورية البريطانية واليابانية والصينية والعثمانية والروسية وغيرها. في حين أن مفهوم الإمبريالية ارتبط، في مئة العام الأخيرة التي تلت الثورة البلشفية، بـ«أعلى مراحل الرأسمالية» وفقاً لتعبير لينين، ليشمل فقط الدول الرأسمالية المتطورة، وبخاصة تلك التي كانت لها مستعمرات قبل الحرب العالمية الثانية، كفرنسا وبريطانيا بصورة رئيسية. ربما لا يعرف أكثر شاتمي الإمبريالية اليوم أن هولندا وبلجيكا واسبانيا والبرتغال والنمسا كانت إمبرياليات تتبعها مستعمرات أيضاً في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكنها اليوم دول عادية صغيرة مساحةً وبعدد السكان.

في حقبة الحرب الباردة طوّر السوفييت مفهوم الإمبريالية بحيث يشمل كل دولة رأسمالية متطورة لها استثمارات في دول ما نسميه «الجنوب» أو تقيم معها علاقات تجارية «غير متكافئة» بما يؤدي إلى «هيمنة إمبريالية» غير مباشرة أي بلا احتلال عسكري مباشر، فأصبح تخلف الجنوب وفقره هو بسبب العلاقة الإمبريالية، في حين أنه من الحصافة عدم استبعاد تحليل معاكس فحواه أن تخلف الجنوب هو ما يؤدي إلى عدم تكافؤ العلاقة مع «الشمال الغني». فقد انتهى عصر الاستعمار المباشر منذ نحو سبعين عاماً وحظيت المستعمرات السابقة بفرصة مديدة للنهوض لكنها أهدرتها لمصلحة الصراع على السلطة في كل بلد، في نوع من السعي إلى استعمار داخلي يحل محل الاستعمار الخارجي الذي ولّى بلا رجعة.

غير أن مفهوم الإمبريالية تحول إلى مجرد مادة للشعارات على أيدي تيارات قومية ويسارية وإسلامية متصارعة على السلطة والثروة في أكثرية بلدان الجنوب، وابتذلها البعثيون بصورة خاصة إلى درجة أنها باتت مجرد شتيمة ضد الخصوم كالقول إن الحزب الفلاني أو النظام الفلاني هو «عميل للإمبريالية» بإطلاق القول. كذلك لعب قيام إسرائيل في قلب المنطقة العربية، والصراع العربي معها المستمر بأشكال مختلفة إلى اليوم، دوراً كبيراً في شيطنة مفهوم الإمبريالية وتحويلها إلى اتهام وشتيمة، وذلك بسبب الدعم الثابت لإسرائيل في هذا الصراع من قبل بريطانيا أولاً ثم الولايات المتحدة. ليس القصد من هذا القول تبرئة الدول الداعمة لقيام إسرائيل وتأمين تفوقها العسكري بثبات، بل وصمها بالإمبريالية وكأن هذه الصفة هي سبب دعمها لإسرائيل، أو العكس أي أن دعمها لإسرائيل هو مبرر وصفها بالإمبريالية.

ولو توقف الأمر عند مستوى التحليل أو الوصف لربما كان أقل أذى، فضلاً عن كونه جديراً بالمناقشة، فالتاريخ الاستعماري لـ«الرجل الأبيض» لا يمكن إهماله كسبب في إفقار وتأخير نهوض البلدان التي تعرضت للغزو. ولكن مع مرور الزمن واستتباب السلطة لأنظمة متوحشة تتعامل مع السكان الواقعين تحت حكمها بفظاعة لم تبلغها أي سلطات احتلال استعمارية، ناهيك عن «الإمبريالية»، أصبحت الشعارات المعادية للإمبريالية مجرد أداة قمع إضافية بأيدي الأنظمة المشار إليها، سلاحاً أيديولوجياً فارغاً من المحتوى لكنه فعال ضد أي خصوم أو منافسين محتملين على السلطة، وإرهاباً استباقياً ضد أي مقاومة اجتماعية محتملة. مع العلم أن معظم الأنظمة الموصوفة هنا مدينة بديمومة حكمها أصلاً لرضى أولئك الإمبرياليين المولعين بـ«الاستقرار». حتى نظام آيات الله في إيران صاحب الصوت الأعلى عالمياً في معاداة «الاستكبار» (مرادف كلمة الإمبريالية في الخطاب الإيراني) مدين اليوم ببقائه لكون الإمبرياليين لا يفعلون شيئاً (ولن يفعلوا) لمساعدة الشعب الإيراني الذي قرر التخلص منه. بل أكثر من ذلك «باض» الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل يومين تصريحاً غبياً يساعد النظام على دعم وصفه للثورة الشعبية بأنها «مؤامرة إمبريالية صهيونية» والذي منه.

غير أن أكثر ما يثير الاستغراب هو أن معظم فرسان معاداة الإمبريالية في منطقتنا يتجاهلون إمبريالية النظامين الروسي والإيراني، وليتهما امبرياليتان من النمط الكلاسيكي الذي ارتبط بالاستعمار الأوروبي، بل هما أقرب إلى النزوع الإمبريالي الألماني الذي وجد ذروة تجليه في الحرب العالمية الثانية بقيادة هتلر. تعزى شراسة النزوع الإمبريالي الألماني إلى كونه قد جاء متأخراً عن الإمبرياليات الاستعمارية الفرنسية والبريطانية للحصول على نصيبها من ثروات الدول الأخرى. فاليوم نشاهد ما يشبه ذلك لدى كل من روسيا وإيران (وتركيا بدرجة ما) أي ذلك النزوع إلى التمدد الإمبراطوري لتلافي تفكك إمبراطورياتها الغابرة.

ما هي الإمبريالية إن لم تكن التمدد الجغرافي بالسيطرة على أراضي دول مجاورة كما تفعل روسيا اليوم، وإن لم تكن الهيمنة من خلال اختراق مجتمعات دول أخرى كما تفعل إيران في دول عربية، وإن لم يكن التدخل العسكري المباشر كما تفعل تركيا في سوريا وليبيا وأذربيجان، بصرف النظر عن تقييم تلك التدخلات من قبل الأطراف في الصراعات المحلية المحتدمة. فما كان لهذه الدول ذات النزوع الإمبريالي المتأخر أن تتمدد في البلدان الأخرى ما لم تكن هناك أطراف محلية تخوض صراعاً على السلطة مع أطراف منافسة، تستقوي على منافسيها بدول ذات منازع إمبريالية. ينطبق هذا على جميع الحالات في سوريا وليبيا واليمن وحتى أوكرانيا حيث المقاطعات الشرقية ذات الغالبية السكانية من أصول روسية.

غير أن المقارنة، بجميع المعاني، بين إمبرياليات الأمس ونظيراتها اليوم تعيد التأكيد على مقولة هيغل الشهيرة بأنه إذا كانت الأولى مأساة فالثانية هي مهزلة، مهزلة دامية طبعاً.

كاتب سوري

القدس العربي

—————————–

سوريّا في روايات غازيها/ حازم صاغية

مع الانتفاضة التي تفجّرت مؤخّراً في إيران، راح يتردّد ذِكر سوريّا في لغة النظام الإيرانيّ وتابعيه على الشكل التالي: إنّهم – أي القوى الغربيّة والأعداء والجواسيس ومن لفّ لفّهم – يريدون تدمير إيران مثلما حاولوا تدمير سوريّا.

قبلذاك، ومع الحرب الروسيّة على أوكرانيا، باتت الرواية الروسيّة، التي يتزايد مُردّدوها، تذكر سوريّا على النحو التالي: إنّ الشرّ سوف يُهزم في أوكرانيا مثلما هُزم في سوريّا.

الروايتان، في آخر المطاف، رواية واحدة بفصلين: الفصل الإيرانيّ يصف المشكلة: إنّها المؤامرة. الفصل الروسيّ يصف الحلّ: إنّه النار المقدّسة. الأرض المحروقة. التطهير بعد دنس.

هكذا يروي القاتل قصّة المقتول، والسارق قصّة المسروق، ومنها يستنتج «العِبَر» الملائمة.

والروايتان، بطبيعة الحال، مسكونتان بقائد مخلّص: في الحالة الإيرانيّة، هو الجنرال المقتول قاسم سليماني. في الحالة الروسيّة، هو «جزّار سوريّا»، الجنرال ألكسندر فلاديميروفيتش دفورنيكوف الذي استعين بكفاءته علّها توقف انتكاسات الحرب على أوكرانيا.

سوريّا، في الحالات جميعاً، كائن صامت، غُزاته يمثّلونه ويمثّلون تجربته متحدّثين هم وحدهم نيابةً عنه. وهم يفعلون هذا خصوصاً لدى مواجهتهم مِحَنهم الخاصّة التي يُستخدم الصمت الإجباريّ السوريّ ليكون شهادة على تعرّضهم، كما أبطال الملاحم، لاستهداف قدريّ دائم. وبطبيعة الحال، لا تسمح روسيا أو إيران بظهور رواية أخرى عن سوريّا إلاّ بقدر ما تسمحان برواية أخرى عن أيّ موضوع آخر!

في هذه الاستعادات لسوريّا، الكاذبة والمتكاثرة، تقيم خلطة يجتمع فيها ميل المجرم إلى تفقّد جريمته، وتأسيس مكان يتمّ فيه تجريب الكذب، بما يوازي تجريب الأسلحة، وطمأنة النفس إلى أنّ الانتصار قد أُنجز وتمّ، وأنّ القتيل السوريّ قد قُتل ولن تقوم له قائمة بعد اليوم.

رواية جلفة كهذه لا يشبهها إلاّ الفعل الجلف الذي «ترويه» في زمن بات كثيرون يصفونه بـ«زمن المعلومات».

والحقّ أنّ وصف العمل وروايته الإيرانيّين – الروسيّين بمصطلح «استعماريّ» أو «إمبرياليّ»، لا يقول الكثير وقد يضلّل قليلاً:

فإذ يراجع المنسوبون إلى الاستعمار تاريخهم الاستعماريّ، نجد أنّ غالبيّتهم الكاسحة ومتنهم العريض باتا يعتمدان لغة اعتذاريّة تعاكس تماماً اللغة الانتصاريّة الإيرانيّة – الروسيّة. وإذ تكثر، أقلّه في البلدان الديمقراطيّة، محاولات بعث الثقافات والهويّات القديمة التي كاد يمحوها الاستعمار المبكر، لا يوجد في الثقافتين السياسيّتين السائدتين لإيران وروسيّا أيّ همّ من هذا النوع. وما النفي المتكرّر للوجود الوطنيّ الأوكرانيّ وحصره بـ«نازيّين جدد» سوى آخر تعابير هذه النزعة وأشدّها إفصاحاً. ثمّ أنّ الارتكاب الاستعماريّ القديم طال هويّات جماعاتيّة مارس القسوة عليها، وربّما حرمها فرص تطوّر يقول البعض إنّ تاريخها كان يحبل بها. أمّا الارتكاب الإيرانيّ – الروسيّ في سوريّا فيطال هويّة وطنيّة مفترضة انقضى أكثر من ثلاثة أرباع القرن على استقلال بلدها ودولتها. وإلى ذلك، تصاحب الارتكاب الاستعماريّ الأوروبيّ، في شراسته وفي استهانته بالسكّان المحلّيّين، مع تطوّرات كبرى، مادّيّة وثقافيّة، مؤسّسيّة وسياسيّة، لا يستطيع أيّ مناهض متحمّس للإمبرياليّة إنكارها وتجاهل فوائدها، خصوصاً متى قيست بالقاع الصفصف الذي تخلّفه روسيا وإيران وراءهما.

وبحسب الأرقام الشائعة، بلغت الأكلاف الإنسانيّة للمواجهات الكبرى بين السوريّين والاحتلال الفرنسيّ على مدى 26 عاماً، 150 قتيلاً في معركة ميسلون (1920) و4213 قتيلاً إبّان قمع «الثورة السوريّة الكبرى» في 7- 1925، و600 قتيل في قصف دمشق عام 1945. وهذه أرقام لم يكن الجنرال سليماني ليرضى بها وجبة فطور سريع فيما هو يتنقّل على نحو متواصل من جبهة عسكريّة إلى أخرى، والشيء نفسه يقال عن الشهيّة المفتوحة للجنرال دفورنيكوف. لقد شهدت لندن في 2003 أكبر تظاهرة في تاريخها اعتراضاً على حرب العراق عامذاك، ولا تزال في الذاكرة حركة الاعتراض الستينيّة العظيمة في الولايات المتّحدة، وأيضاً في باقي البلدان الغربيّة، ضدّ حرب فيتنام. فهل سُمح في طهران أو في موسكو بأيّ حدّ، ولو مجهريّاً، من الاعتراض على سياسة التدمير الإيرانيّ – الروسيّ لسوريّا؟

بمواصفات كهذه تغدو الرواية الإيرانيّة – الروسيّة عن سوريّا رواية توحّش مطلق عن عمل لا اسم له سوى التوحّش المطلق.

أمّا الردّ على هذا العمل فليس في يد أيّ كان، أقلّه في المدى المنظور. لكنّ الردّ على روايته فيبدأ من تطوير رواية سوريّة تجمع بين تجارب الأفراد والجماعات والمضيّ في اكتشاف التاريخ والواقع السوريّين كما هما وكما كانا بلا تزويق ولا مزاعم.

في هذه الغضون يمضي التعاون الإيرانيّ – الروسيّ الذي تأسّس في سوريّا على أشدّه. هديّة المسيّرات الإيرانيّة للروس في أوكرانيا تقول كم أنّ معركة التوحّش واحدة: المتعاونون فيها يقولون أيضاً إنّهم يكافحون الإمبرياليّة، ويتّهمون السوريّين والأوكرانيّين بالعمالة للإمبرياليّة!

رواية سوريّا عن نفسها يُستحسن أن تنجو بنفسها من الوقوع في هذا الفخّ، تماماً كما نجت رواية أوكرانيا.

الشرق الأوسط

—————————–

هل تمكن هزيمة روسيا في أوكرانيا؟/ حسن نافعة

لا تزال الحرب في أوكرانيا مشتعلةً منذ اندلاعها في 24 فبراير/ شباط الماضي، بل وتزداد سعارا بمرور الوقت، من دون أن تلوح في الأفق نقطة ضوء تبشّر بقرب الخروج من نفق مظلم دخل فيه النظام العالمي، وقد لا يستطيع الخروج منه بسهولة، فروسيا لم تحقّق بعد كامل الأهداف التي حدّدتها لنفسها من شن هذه الحرب، وأوكرانيا تصرّ على مواصلة القتال وتحرير كل الأراضي التي احتلتها روسيا، بما فيها شبه جزيرة القرم التي جرى احتلالها وضمها إلى روسيا عام 2014، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة لا تزال تقف بصلابة وراء أوكرانيا، ولم تكتفِ بمدّها بكل أنواع المساعدات الاقتصادية والعسكرية من أجل الصمود في الحرب ومواصلة القتال حتى النصر، وإنما فرضت أيضا حزما متتالية من العقوبات التي تستهدف تركيع روسيا وإجبارها على وقف الحرب والاعتراف بالهزيمة!

يصعب على أي مراقب يتابع تطورات الأزمة الأوكرانية تكوين رؤية موضوعية عن حقيقة ما يدور وراء كواليسها، أو تحديد المسار الذي يمكن أن تتخذه هذه الأزمة في الأمدين، المتوسط والبعيد، فالحرب المشتعلة على الساحة الأوكرانية لا تُدار بالوسائل العسكرية وحدها، وإنما بكل الوسائل المتاحة، بما فيها الوسائل الإعلامية التي كثيرا ما تلجأ إلى استخدام أساليب الخداع والتضليل وتزييف الحقائق للدفاع عن مواقف الأطراف المشاركة في هذه الأزمة أو تبريرها وللتأثير على الحالة المعنوية للخصم، فالخطاب الإعلامي للرئيس الروسي بوتين يسعى جاهدا إلى إقناع العالم بأن بلاده لم تلجأ إلى استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا إلا مضطرّة، ولمواجهة تهديد وجودي تسبّب فيه إصرار حلف الناتو على التوسّع شرقا، وعلى استخدام دولة مجاورة، يشكل الروس أكثر من 20% من سكانها، مخلب قطٍّ يستهدف استنزاف طاقاتها ومنعها من تحقيق الاستقرار اللازم لتقدّمها وازدهارها، ويدافع عن قراره باحتلال إقليم الدومباس وضمّه، مثلما فعل ذلك من قبل مع شبه جزيرة القرم، مؤكّدا أنه لم يكن مدفوعا بالرغبة في التوسّع أو السيطرة، وإنما لحماية سكان روس معرّضين للخطر استغاثوا به ويفضّلون العيش في كنف الوطن الأم. ويلاحظ هنا أن الأهداف الروسية من العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا تغيّرت بتغيّر الأوضاع الميدانية على الساحة، ففي البداية سعى بوتين إلى احتلال العاصمة الأوكرانية وسيلة للضغط على الحكومة، والعمل على إسقاطها وتنصيب حكومة موالية لروسيا، لكن شراسة المقاومة الأوكرانية، من ناحية، وضخامة المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي بدأ الغرب في تقديمها لأوكرانيا، من ناحية أخرى، أجبرتا بوتين على تغيير خططه والاكتفاء باحتلال (وضمّ) الأقاليم المتاخمة التي تقطنها أغلبية روسية. ولأنه اعتبر أن تحقيق هذا الهدف يشكّل الحد الأدنى الضروري لحماية روسيا وردع أوكرانيا عن الانضمام لحلف الناتو، فقد عكس خطابه الإعلامي تصميما على التمسّك به إلى النهاية، حتى لو اضطر لاستخدام الأسلحة النووية، التكتيكية منها والاستراتيجية على السواء.

أما الخطاب الإعلامي للرئيس الأوكراني، فلودومير زيلينسكي، فقد كان متحدّيا منذ البداية، وراحت نبرة التحدّي تتصاعد مع صمود القوات المسلحة الأوكرانية التي تمكّنت من وقف الاجتياح الروسي شمالي أوكرانيا وفك الحصار الذي فرضته القوات الروسية على العاصمة كييف. وحين تبيّن أنه حقق قدرا من التوازن على الأرض، يكفي للشروع في مفاوضات مع روسيا تستهدف وقف إطلاق النار تمهيدا للتوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ للأزمة، لم يمانع في الموافقة على لقاء وزير خارجيته، كوليبا، مع وزير الخارجية الروسي، لافروف، وهو ما تم فعلا في تركيا يوم 10 مارس/ آذار الماضي. ولكن يبدو أن الرئيس الأميركي، بايدن، نجح في إجهاض هذا اللقاء، بعد أن تعهد لزيلينسكي بتقديم أقصى قدر ممكن من الدعمين، السياسي والعسكري. وهكذا، راح زيلينسكي يتشدّد في مواقفه، بالتزامن مع تدفق دعمٍ لامحدود من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وكل القوى الأخرى المتحالفة معهما، بما في ذلك أستراليا واليابان، ويصر على مواصلة القتال إلى أن يتم تحرير كل الأراضي التي احتلتها روسيا، بما فيها جزيرة القرم. بل لقد وصل به التشدّد، خصوصا بعد أن مكّنته المعونات المتدفقة بلا حساب من شنّ هجوم مضاد واسع النطاق على المناطق التي أعلنت روسيا ضمها، إلى حد أنه أصبح يرفض الآن أي نوعٍ من التفاوض المباشر أو غير المباشر مع روسيا، طالما كان بوتين على رأس السلطة في الكرملين، ويؤكّد على أنه لن يتفاوض إلا مع خليفة بوتين وبعد تحرير كل الأراضي الأوكرانية!

لقد أدرك بايدن، منذ اللحظة الأولى لاجتياز القوات الروسية الحدود الأوكرانية، وبصرف النظر عن صحة الرواية التي تدّعي أن الولايات المتحدة لم تكفّ عن التحرّش بروسيا، والسعي إلى استدراجها للتدخل في أوكرانيا، أملا في استنزافها ومنعها من بناء قدراتها، أن بوتين لا يستهدف أوكرانيا فقط، وإنما يستهدف، في الوقت نفسه، تغيير قواعد اللعبة الدولية، وإزاحة الولايات المتحدة من موقع الصدارة المنفردة للنظام الدولي، وهو ما يفسّر تصميمه على العمل بكل الوسائل لمنع روسيا من تحقيق أهدافها، بل ولإلحاق هزيمة كاملة بها على الساحة الأوكرانية. ولأن حرب بوتين على أوكرانيا أتاحت أمامه فرصة ذهبية لإعادة ترميم علاقة الولايات المتحدة بكل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بعد أن كانت قد تدهورت كثيرا في عهد ترامب. وبالتالي، لتمكين الولايات المتحدة من إعادة تأكيد قيادتها العالم الغربي ككل، فقد كان من الطبيعي أن يسعى إلى تحويل هذه الحرب إلى مواجهة شاملة بين روسيا والعالم الغربي كله، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير. من هنا إصراره الشديد ليس على فرض حصار اقتصادي شامل على روسيا فحسب، وإنما أيضا على مدّ أوكرانيا بكل ما تحتاجه من مساعدات عسكرية واقتصادية، مع الحرص، في الوقت نفسه، على ألا تؤدّي هذه المساعدات إلى اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة، لا يستطيع أحد أن يضمن عدم تحوّلها إلى مواجهة نووية.

بعد ما يقرب من تسعة أشهر من اندلاع الحرب في أوكرانيا، تبدو الصورة، في حدود ما هو ظاهر على السطح كالتالي:

أولا: في ما يتعلق بسير العمليات العسكرية الدائرة على الساحة الأوكرانية، بدا واضحا أن أداء الجيش الأوكراني كان أفضل بكثير مما كان متوقعا، وأن أداء الجيش الروسي كان أسوأ بكثير مما كان متوقعا. ومع ذلك لا مؤشّرات موضوعية تسمح بالاعتقاد أن القوات المسلحة الإوكرانية باتت على وشك تحرير أراضيها المحتلة، أو أن القوات الروسية باتت على وشك الانهيار. صحيح أن كل طرف يسعى إلى تحقيق إنجاز مؤثر على الأرض قبل بداية فصل الشتاء، لكن من الواضح تماما أنه لن يكون في وسع أي منهما تحقيق إنجاز حاسم أو مؤثّر يسمح بتعديل المسار السياسي للأزمة. ولا أستبعد أن تكون الدعاية الأميركية قد تعمدت المبالغة كثيرا في تضخيم الإنجازات العسكرية الأوكرانية وفي التسفيه من أداء الجيش الروسي، وذلك لأغراض سياسية واضحة، رغم إدراك الولايات المتحدة يقينا أن بوتين لن يسمح بأن تلحق بجيشه هزيمة عسكرية في أوكرانيا وفي يده سلاح نووي، مهما بلغ حجم الشحنات العسكرية الغربية لأوكرانيا ونوعيتها.

ثانيا: في ما يتعلق بتأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، يبدو واضحا أن نطاق تأثيرها امتدّ ليشمل العالم كله، ولم يقتصر على روسيا وحدها، وكانت لها ارتدادات سلبية على الدول التي فرضتها. أما بالنسبة لروسيا فقد استطاعت أن تحدّ كثيرا من انعكاساتها السلبية على اقتصادها الذي أثبت أنه يملك إمكانات كبيرة تمكّنه من الصمود ومواصلة الحرب. ودول العالم الثالث هي الأكثر تضرّرا من هذه العقوبات، بسبب ما أدّت إليه من تضخّم وارتفاع الأسعار، خصوصا أسعار النفط والحبوب والأسمدة.

ثالثا: في ما يتعلق بالمسار الذي يمكن أن تتخذه الأزمة الأوكرانية مستقبلا، يبدو أن العمليات العسكرية ستدخل مرحلة هدوء مع بداية فصل الشتاء، وستكون روسيا في وضع يمكّنها من استمرار الاحتفاظ بمعظم الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، ومن ثم ليس مستبعدا أن تنشط المحاولات الرامية إلى إيجاد تسوية سلمية للأزمة مع بداية فصل الربيع المقبل، وذلك بسبب تزايد الضعوط في هذا الاتجاه من القوى المتضرّرة من استمرارها، وهي كثيرة. وربما تكون الصين الدولة المرشّحة للقيام بدور حاسم في أي تسوية سياسية محتملة. ولأنه لن يكون بمقدور أيٍّ من الطرفين المتحاربين تحقيق نصر عسكري حاسم في الأفق المنظور، فإن التسوية التي ستنتهي إليها هذه الأزمة، إن آجلا أو عاجلا، ستتيح لروسيا تحقيق بعض المكاسب، أقلها الاعتراف رسميا بحقها في ضم القرم، ومنح الجمهوريات الواقعة في نطاق إقليم الدومباس حكما ذاتيا كاملا، والتعهد بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو.

رابعا: في ما يتعلق بتأثير الأزمة الأوكرانية على بنية النظام الدولي ونمط التحالفات المستقبلية فيه، أكّدت التفاعلات الناجمة عن هذه الأزمة أننا إزاء أزمة عالمية بامتياز، وأن النظام الدولي بعدها سيكون مختلفا عما كان عليه قبلها. ولأنه ليس من المرجّح، في تقديري على الأقل، أن تؤدّي الأزمة إلى سقوط بوتين أو إلى هزيمة روسيا عسكريا، فالأرجح أن تسفر عن دور أكبر لكل من روسيا والصين في النظام الدولي، وربما ينهار تماسك حلف الأطلنطي. وعندها قد يقتنع قادة العالم أن الوقت قد حان للقيام بعملية إصلاح جذري للأمم المتحدة، يهدف إلى تمكينها من إرساء الأسس لقيادة جماعية متعدّدة الأطراف لنظام دولي جديد.

العربي الجديد

——————————-

المواجهة مع روسيا..قاسم مشترك للمعسكرين الاميركيين/ بسام مقداد

أكثر الموضوعات التي تركز عليها إهتمام الإعلام الروسي في الإنتخابات الأميركية الأخيرة، كان موضوع المساعدات الأميركية لأوكرانيا، حيث إعتبر أن المعسكرين الأميركيين المتصارعان متوافقان على السير قدماً في المواجهة مع روسيا. وكان الناطق بإسم الكرملين قد أعلن بأن روسيا اعتادت على الوضع السيء لهذه العلاقات، لدرجة “أننا لم نعد نلاحظها”. لم يكن المسؤول في الكرملين يقلل من أهمية الإنتخابات بذاتها، بل قال بأنهم يحللون المعلومات الواردة عنها، إلا أنه لن يكون لنتائجها أثر في المديين القريب والمتوسط على العلاقات الروسية الأميركية، برأيه. 

في تحليل لوكالة تاس نشرته يوم الإنتخابات، قال كاتب النص بأن نتائج الإنتخابات ستترك تأثيرها على سلوك االبيت الأبيض حيال الدول الأخرى، لكن ليس حيال روسيا، حيث يتفق رأي الحزبين بشأنها. ويشتبه بالرئيس بايدن بأنه يتعمد تخفيض اسعار النفط، وذلك بتقديم تنازلات لكل من إيران وفنزويلا. لكن إذا أصبح الكونغرس بيد الجمهوريين، فمن المستبعد أن يتمكن بايدن من تحقيق ما يسعى إليه.

ويرى الكاتب أن البيت الأبيض، وفي سعيه للتوافق مع إيران وفنزويلا، يهدف لتخفيض أسعار النفط بغية إيذاء روسيا إقتصادياً. ومع أن هذه المحاولة لم تنجح، إلا أنها أثارت حذر الناخبين الأميركيين من أنصار التشدد حيال “البلدان غير الصديقة”، وليس حيال روسيا فقط. وتصر الطائفة الإنجيلية المؤثرة، والتي يقارب حجمها 90 مليون أميركي، على عدم تقديم أية تنازلات لإيران “تحت أي ظرف” . وهي أوصلت إلى السلطة العام 2016 دونالد ترامب الذي انسحب من “الصفقة الإيرانية” العام 2018 وفرض على إيران عقوبات قاسية.

ويعتبر الكاتب أن ترامب والإنجيليين المؤيدين لسلوكه حيال إيران، كانوا يستهدفون الدفاع عن إسرائيل ضد التهديدات الإيرانية. وإيران متهمة بالسعي لإنتاج قنبلة نووية لتهديد إسرائيل وزعزعة أمنها على يد حماس وحزب الله ومنظمة “الجهاد” الفلسطينية. واللهجة التصالحية التي اعتمدها بايدن في المفاوضات مع الإيرانيين ليست مقبولة من قبل الإنجيليين.

ويقول الكاتب أن ديانة الإنجيليين تفرد موقعاً خاصاً للشعب اليهودي، وتعتبر أن عودتهم إلى فلسطين ليست فقط تنفيذاً لإرادة إلهية، بل إحدى المهام الرئيسية للولايات المتحدة في سياستها الخارجية. والسعي لوقف السياسة “الضعيفة” والمهادنة والدفاع عن إسرائيل، يشكلان أحد الدوافع الرئيسية للمؤمنين الأميركيين للتوجه إلى صناديق الإقتراع وإنتخاب الجمهوريين حتى لو كان برنامجهم ليس مقنعاً كلياً بالنسبة لهم.

  مطلع الجاري، وفي مقابلة  حول الإنتخابات الأميركية مع صحيفة ukraina التي تعبر عن النهج الرسمي الروسي وتأسست العام 2014، تساءل مدير المجلس الروسي للعلاقات الدولية  RIAC أندريه كارتونوف عما يمنع بايدن “عملياً” من الإتفاق مع بوتين بشأن أوكرانيا. توقع الرجل فوز الجمهوريين في مجلسي الكونغرس، وقال بأن مثل هذا الوضع طبيعي في أول إنتخابات جزئية في عهد كل رئيس أميركي جديد. وحتى لو أصبح مجلس النواب فقط بيد الجمهوريين، سيكون من الصعب على الرئيس  إتخاذ القرارات المهمة، بما فيها المالية، وقد يتعين عليه إستخدام حق الفيتو.

لم ير أي تغيير جدي يمكن أن يطرأ على الموقف الأميركي من أوكرانيا، وذلك بسبب التوافق الموجود بين الحزبين في هذا الشأن. والعديد من القرارات المهمة بشأن المساعدات لأوكرانيا في السنة القادمة، سوف يقرها المجلس بتركبيته الحالية التي يتمتع فيها الديموقراطيون بالأغلبية. وجميع التغييرات الممكنة بشأن طبيعة وحجم المساعدة المالية لأوكرانيا، والتي إن كانت ستطرأ، فسوف تكون في خريف العام 2024.

ويقول كارتونوف أن الجمهوريين يطرحون مسألة إعادة توزيع المسؤوليات بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين في الناتو، وذلك لكي تتحمل أوروبا التزامات أكثر بشأن مساعدة أوكرانيا. ويعتقد أن الجمهوريين سوف يولون إهتماماً أكبر للمشاكل الداخلية الموجودة الآن في الولايات المتحدة، مما يعني أن الأجندة الخارجية لإدارة بايدن، بما فيها أوكرانيا، سوف تتراجع قليلاً إلى الوراء.

نفى الرجل وجود أية فرصة لعقد مفاوضات بشأن السلام في أوكرانيا “قبل الإنتخابات” وبالشروط الروسية، وقال بأنه ليس هناك ما يحفز الإدارة الأميركية على تغيير موقفها. وعلى إفتراض أن بايدن على إستعداد للتوصل إلى توافق مع موسكو، سوف يستغل الجمهوريون ذلك على الفور لإتهامه بالضعف وتقديم تنازلات غير مبررة للرئيس الروسي. وإذا كانت ستطرأ تغييرات ما تكتيكية وظرفية وبحث عن توافق، فلن تطرأ قبل 8 الجاري بعد إنتهاء إنتخابات مجلس الشيوخ.

ولدى سؤاله عن مستقبل العلاقات الروسية الأميركية، وفي ظل أية ظروف يمكن أن ينخفض التوتر بين البلدين، قال كارتونوف بأن ليس من ظروف مؤاتية لذلك الآن، سيما وأن ليس من سفير أميركي في موسكو، وليس من الواضح متى ستتم الموافقة على السفيرة وتصل إلى هناك. لكن هذا لايعني أن ليس بوسع موسكو وواشنطن القيام بشيء، بل ما بوسعهما القيام به هو إستعادة الحوار حول المسألة النووية وتجديد التواصل بين وزارتي الخارجية. فالطرفان معنيان بتخفيض مخاطر الصدام العسكري المباشر، والذي يمكن أن يتحول إلى صدام نووي في الظروف السيئة.

موقع المجمع الإعلامي الكبير RBK نشر قبل الإنتخابات بأيام نصاً بعنوان “الإنتخابات في الولايات المتحدة. على ماذا يمكن أن يؤثر “الكونغرس الأحمر””. ونقل الموقع عن بروفسور في العلاقات الدولية في جامعة هاملتون قوله أن المرشحين الجمهوريين الخاسرين في عدة مناطق إنتخابية  سيرفضون الخضوع للأمر الواقع، وسيضعون البلاد في حال من الغموض ويرفعون إحتمال عدم الإستقرار السياسي الشامل وحتى العنف. والإنتصارات المتوقعة للمرشحين الجمهوريين في الإنتخابات، سوف تتيح للحزب إمكانية الإشراف على عمليات الإقتراع ونتائجه في سائر البلاد، بغض النظر عن النتيجة، ويهيئون بذلك إحتمال المزيد من عدم الإستقرار في الإنتخابات الرئاسية العام 2024.

يقول الموقع أنه في حال سيطرة الجمهوريين على الكونغرس، سوف يلجأ بايدن إلى إستخدام حق الفيتو للحؤول دون تنفيذ المبادرات الأكثر رجعية التي يمكن أن يتخذها الجمهوريون.  وسيتركز عمل الكونغرس على  المسائل الإقتصادية والدينية وقضايا الهجرة والجريمة. كما ليس من المستبعد تشديد التشريع ضد الإجهاض الذي أصدر الديموقراطيون قانوناً بحظره، بعد أن كانوا يتداولون في الحزب بفكرة حظره بعد الأسبوع الخامس عشر.

سيطرة الجمهوريين المحتملة على مجلس الشيوخ تسمح لهم برفض ترشيحات بايدن للقضاة، بمن فيهم قضاة المحكمة العليا، والضغط على البيت الأبيض لتعيين أشخاص أكثر ولاء لهم. كما تسمح لهم بالإشراف على اللجان ووقف عمل اللجنة المكلفة بالتحقيق بتورط الرئيس السابق ترامب في محاولة الإستيلاء على الكابيتول. وكان الجمهوريون قد صرحوا بإمكانية المبادرة إلى التحقيق في علاقات إبن الرئيس هانتر بايدن وتصويرها بأنها “تهديد للأمن القومي”، مما يعرض للخطر إمكانية إعادة إنتخاب بايدن لرئاسة ثانية.

وبشأن تأثير سيطرة الجمهوريين على الكونغرس على الصراع مع روسيا ودعم أوكرانيا، ينقل الموقع عن رئيس تحرير الدورية الروسية “روسيا في الحياة الدولية” قوله بأنه لن يكون له أي تأثير. فثمة توافق بين الحزبين بشأن روسيا، ” ولا يلاحظ وجود أصوات معتدلة ولو بالحد الأدنى وسط الحزب الجمهوري”. ويقول الرجل أن اصواتاً ترتفع في الحزب الجمهوري تعتبر أنه تم تحويل مبالغ مالية وموارد فائضة لأوكرانيا، وتشكك في فعالية إستخدامها.

المدن

——————————-

ماذا تعني خسارة روسيا خيرسون؟

ارتفعت الأعلام الأوكرانية بكثافة في العاصمة كييف عقب أنباء انسحاب القوات الروسية من منطقة خيرسون جنوبي البلاد، وهي إحدى المناطق الأوكرانية الأربع التي ضمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر/أيلول الماضي.

الهجوم الأوكراني -الذي استمر لأشهر لاستعادة مدينة خيرسون عاصمة المقاطعة الوحيدة التي كانت تحت السيطرة الروسية منذ الأيام الأولى للغزو- يقترب من الذروة، كان سقوط المدينة بمثابة “إذلال” آخر لموسكو بعد سلسلة من الهزائم في ساحة المعركة ونكسات أخرى، فما الذي ما يحدث؟ ولماذا تعتبر خيرسون مدينة إستراتيجية مهمة؟

المدينة الجائزة

مدينة خيرسون هي العاصمة الإقليمية الوحيدة التي استولت عليها القوات الروسية، سقطت المدينة والمناطق المحيطة بها في أيدي موسكو في الأيام الأولى من الحرب، حيث كثفت القوات الروسية وبسرعة هجومها على المنطقة الواقعة شمال شبه جزيرة القرم التي ضمها الكرملين بشكل غير قانوني في عام 2014.

كانت خسارتها ضربة كبيرة لأوكرانيا بسبب موقعها على نهر دنيبرو بالقرب من مصب البحر الأسود، كذلك كونها مركزا صناعيا رئيسيا، وكان عدد سكانها قبل الحرب 280 ألف نسمة، وتحدى مقاتلو المقاومة الأوكرانية القوات الروسية للسيطرة على المدينة، ومنذ ذلك الحين شهدت المدينة أعمال تخريب واغتيال.

موقع خيرسون يجعل باستطاعة أوكرانيا قطع المياه العذبة من نهر دنيبرو إلى شبه جزيرة القرم، ومنعت كييف تلك الإمدادات الحيوية بعد ضم شبه جزيرة القرم، واعتبر بوتين الحاجة إلى استعادتها أحد الأسباب وراء قراره غزو أوكرانيا.

ماذا يحدث الآن؟

وفقا لمعهد دراسة الحرب -ومقره واشنطن- حققت القوات الأوكرانية مكاسب في شمال غرب وغرب وشمال شرق مدينة خيرسون، وتقدمت لمسافة تصل إلى 7 كيلومترات في بعض المناطق، وانتقل الروس إلى مواقع يأملون أن يكون الدفاع عنها أسهل.

وتقول مديرة قسم أوروبا وآسيا الوسطى في مجموعة الأزمات الدولية أولغا أوليكر إنه “سيتعين على أوكرانيا أن تقرر ما إذا كانت ستستمر في الضغط، ومتى وكيف ستستمر، لكن يبدو أن أوكرانيا على وشك الاستعادة، وهذه أخبار جيدة جدا بالنسبة لمدينة ميكولايف الواقعة جنوب أوكرانيا، حيث ستواجه روسيا الآن قصفا أصعب بكثير، إنه تقدم أوكراني خطير”.

ماذا وجدت القوات الأوكرانية؟

يقول سيرغي خلان المسؤول الإقليمي المعين من قبل أوكرانيا في خيرسون “بينما سحبت روسيا قواتها من الضفة الغربية لنهر الذي يقسم المنطقة فقد تركت حطاما ودمرت البنية التحتية الرئيسية، بما في ذلك منشآت الطاقة والجسور”.

وأضاف في إفادة مصورة أمس الجمعة “سيتعين إعادة بناء كل شيء، فالقوات الروسية كانت تفجر كل شيء وكل ما يمكن أن يردع التقدم الأوكراني”، ونصح خلان المدنيين بالبقاء في منازلهم، وقال “إن الوضع الإنساني معقد جدا مع انقطاع التيار الكهربائي والاتصالات المحدودة للغاية”.

ماذا يقول الكرملين؟

ظل الكرملين متحديا أمس الجمعة، وأصر على أن التطورات الميدانية في خيرسون لا تمثل إحراجا لبوتين بأي حال من الأحوال، لكن وخوفا من مثل هذا الهجوم الأوكراني المضاد والكبير ورد أن الإدارة الإقليمية التي نصّبها الكرملين في خيرسون نقلت ما لا يقل عن 70 ألفا من السكان في وقت سابق من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.

ماذا يعني فقدان خيرسون بالنسبة لروسيا؟

من شأن الانسحاب من خيرسون ومناطق أخرى على الضفة الغربية لنهر دنيبرو أن يحطم الآمال الروسية في شن هجوم على ميكولايف وأوديسا لقطع الطريق على وصول أوكرانيا إلى البحر الأسود، إذ كانت موسكو تأمل بناء ممر بري إلى منطقة ترانسنيستريا الانفصالية في مولدوفا، حيث تقع قاعدة عسكرية روسية رئيسية هناك.

يقول المحلل العسكري الأوكراني أوليه جدانوف “إن خسارة خيرسون ستحول كل أحلام الكرملين الجنوبية إلى غبار، فخيرسون هي مفتاح المنطقة الجنوبية بأكملها، مما سيسمح لأوكرانيا باستهداف طرق الإمداد الرئيسية للقوات الروسية، وسيحاول الروس الاحتفاظ بالسيطرة عليها بكل الوسائل”.

ماذا تعني استعادة خيرسون لأوكرانيا؟

يرى جدانوف أنه بالنسبة لأوكرانيا فإن الاستيلاء على خيرسون من شأنه أن يمهد الطريق لاستعادة الجزء الذي تحتله روسيا من منطقة زاباروجيا ومناطق أخرى في الجنوب، وفي النهاية العودة إلى شبه جزيرة القرم.

كما تعني استعادة السيطرة على خيرسون أيضا أن كييف يمكنها مرة أخرى قطع المياه عن شبه جزيرة القرم، وسيعاني الروس مرة أخرى من مشاكل المياه العذبة هناك.

تداعيات داخلية وخارجية

بدوره، يقول رئيس مركز “بنتا” (Penta) المستقل في كييف فولوديمير فيسينكو إن السيطرة على خيرسون ومناطق جنوبية أخرى كانت بمثابة جائزة كبرى لروسيا، ومن ثم فإن خسارتها ستكون لها عواقب وخيمة على بوتين في الداخل والخارج.

ويضيف فيسينكو “إذا غادر الروس خيرسون فإن الكرملين سيواجه موجة أخرى من الانتقادات الشديدة للقيادة العسكرية والسلطات بشكل عام من الدوائر الوطنية المتطرفة”، مضيفا أن “سقوط المدينة سيزيد إضعاف معنويات القوات المسلحة الروسية وربما تأجيج المعارضة لجهود التعبئة”.

كما أشار إلى التداعيات الخارجية قائلا “إن الصين والهند ستعتبران سقوط خيرسون علامة على ضعف الكرملين، وسيواجه بوتين خسائر في سمعته ليس فقط داخل البلاد، ولكن أيضا في أعين الصين، وقد يكون ذلك خطيرا بشكل خاص على الكرملين”.

المصدر : أسوشيتد برس

———————————

“لغز خيرسون”.. ما دوافع الانسحاب الثالث لجيش بوتين؟

تباينت الروايات بشأن انسحاب القوات الروسية من “خيرسون”، على مدى اليومين الماضيين، وبينما اعتبر محللون أن الخطوة تشي بـ”نوع من الهزيمة”، ذهب آخرون للحديث عن دوافع عسكرية من جهة وسياسية من جهة أخرى.

وكانت القوات الأوكرانية قد رفعت علمها في المدينة الواقعة وسط البلاد، أمس الجمعة، فيما أعلن وزير الخارجية الأوكراني، ديميترو كوليبا اليوم السبت أن “الحرب ما تزال مستمرة”.

وأضاف: “أفهم أنّ الجميع يريدون أن تنتهي هذه الحرب في أسرع وقت ممكن، بالتأكيد نحن من يريد ذلك أكثر من أي آخر، لكن الحرب مستمرة”.

وكانت خيرسون العاصمة الإقليمية الأوكرانية الوحيدة التي تمكنت القوات الروسية من الاستيلاء عليها منذ بدء الغزو في 24 فبراير/شباط الماضي.

وقد أدى التخلي عن المدينة إلى كييف إلى “تحطيم وهم السيطرة الذي حاول بوتين خلقه من خلال إجراء استفتاءات وإعلان خيرسون وثلاث مناطق أخرى بشكل غير قانوني بأنها أراض روسية”، حسب تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست“.

واعتبرت الصحيفة، اليوم، أن “الانسحاب الروسي يمثل ضربة قوية بعد التصريحات المتكررة والصاخبة من قبل شخصيات مؤيدة للكرملين بأن روسيا ستبقى في خيرسون إلى الأبد”.

وهذا الانسحاب هو الثالث من حيث الحجم منذ بدء الغزو الروسي على أوكرانيا، إذ اضطرت روسيا للتراجع في الربيع خلال محاولتها السيطرة على كييف في مواجهة مقاومة أوكرانية شرسة، قبل طردها من منطقة خاركيف (شمال شرق) بشكل شبه كامل في شهر سبتمبر.

ويمثل الاستيلاء على المدينة الجنوبية “جائزة رمزية واستراتيجية كبيرة وضربة قاسية لبوتين والجيش الروسي المنسحب”، وفقا لتقرير لصحيفة “نيويورك تايمز“، نشرته السبت.

واجتاحت القوات الأوكرانية خيرسون، بعد أن أكملت القوات الروسية انسحابها من العاصمة الإقليمية في واحدة من أكبر الهزائم الاستراتيجية والرمزية للكرملين منذ أن بدء غزو أوكرانيا، وفقا لتقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال“.

لماذا انقلبت المعادلة؟

وفي نهاية سبتمبر، كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين قد أعلن خلال احتفال في الكرملين ثم في احتفال آخر في الساحة الحمراء ضم أربع مناطق أوكرانية، من بينها خيرسون.

وبعد أسابيع فقط من إعلان بوتين منطقة خيرسون جزءاً من روسيا إلى الأبد أُجبرت قواته على التخلي عنها، وأضرت النكسة بسمعة الجيش الروسي الذي أساء إدارة الخدمات اللوجستية وأرسل جنوداً غير مستعدين وغير متحمسين إلى المعركة، حسب “نيويورك تايمز”.

وقبل دخول قوات كييف المدينة، أعلن الجيش الروسي انسحاب أكثر من 30 ألف جندي روسي من منطقة خيرسون، تاركين الضفة اليمنى لنهر دنيبرو للانتشار على ضفته اليسرى.

وأشارت وزارة الدفاع الروسية في بيان، إلى “سحب أكثر من 30 ألف جندي روسي وحوالي خمسة آلاف وحدة تسليح ومركبة عسكرية” من الضفة الغربية لنهر دنيبرو.

ويرى مدير الدراسات الروسية في معهد أبحاث “سي أن إيه” في أرلينغتون بولاية فيرجينيا، مايكل كوفمان، أن “تحرير خيرسون قضى على احتمال شن حملة روسية على طول الساحل الجنوبي لأوكرانيا”.

وقال محللون عسكريون إن السيطرة على خيرسون يضع قوات كييف في وضع أفضل لضرب مناطق أعمق تحتلها موسكو من أوكرانيا، وفقا لـ”وول ستريت جورنال”.

وقال أحد رجال الأعمال المؤثرين في موسكو، والذي رفض ذكر اسمه بسبب العواقب المحتملة، “أعتقد أن هذا سيعقد بشكل خطير كيفية النظر إلى الوضع داخل البلاد”، مضيفا “إنها خسارة فادحة”.

وأضاف رجل الأعمال: “بالنسبة لروسيا، فإن هذه الخسائر ضربة كبيرة لصورة بوتين”، وفقا لتصريحاته لـ”واشنطن بوست”.

وستعزز استعادة خيرسون حجة الحكومة الأوكرانية بـ”ضرورة الضغط عسكرياً على القوات الروسية الهاربة وعدم العودة للمفاوضات”، وفقا لـ”نيويورك تايمز”.

وتريد أوكرانيا المضي قدما وتحرير المزيد من الأراضي، بما في ذلك شبه جزيرة القرم والتي استولت عليها روسيا في عام 2014، وأراض محتلة أخرى في الشرق والجنوب، حسب “وول ستريت جورنال”.

ويمكن لأوكرانيا الآن إعادة نشر الآلاف من القوات التي كانت متراوحة حول خيرسون، لكن يمكن لروسيا أيضاً أن ترسل ما يقرب من 20 ألف جندي تم إجلاؤهم من المدينة في أماكن أخرى، ومن المرجح أن تحاول توسيع سيطرتها في الشرق، حسب “وول ستريت جورنال”.

ما تقييم موسكو؟

وقال الناطق باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، الجمعة، إن منطقة خيرسون ستبقى “تابعة لروسيا الاتحادية”، مضيفاً “لا يُمكن أن يكون هناك تغيير”.

وأشار إلى أن الرئاسة الروسية “غير نادمة” على الاحتفال الكبير الذي أعلن خلاله بوتين في سبتمبر ضم أربع مناطق أوكرانية إلى روسيا، وبينها خيرسون.

بدوره قال ألكسندر فومين، المتحدث باسم نائب رئيس حكومة مقاطعة خيرسون أن مدينة غينيتشيسك ستصبح مؤقتاً العاصمة الإدارية للمقاطعة.

وأضاف فومين في تصريح لوكالة “نوفوستي”، اليوم السبت، أن “جميع السلطات الرئيسية تتركز في غينيتشيسك”.

——————————

—————————-

لماذا انسحب بوتين من خيرسون؟/ يمان دابقي

لم يكن قرار روسيا انسحابها من مدينة خيرسون في أوكرانيا متوقّعاً، حتى في ظل الانكسارات التي مُنيت بها خلال شهور الحرب الماضية. فمن الناحية الاستراتيجية، لا يمكن تخيّل استغناء بوتين عنها، لما تحملُه من أهمية حيوية، فهي الممرّ البري الوحيد والمصب المائي لشبه جزيرة القرم، وحلقة وصل لسواحل البحر الأسود مع أوديسا. من ناحية أخرى، خيرسون من المدن الأربع التي شملها الاستفتاء في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، وأصبحت بموجبه أراضي روسية خالصة، تطبَّق عليها القوانين الروسية، وكذا العقيدة الروسية في استخدام كلّ الإمكانات للدفاع عنها، بما فيها القدرات النووية التكتيكية. مع ذلك، فوجئ بعضهم بقرار وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، تنفيذ قرار انسحاب قواته من الضفة الجنوبية لنهر دنيبر إلى الجهة اليسرى، مستنداً إلى توصية من قائد العمليات الجديد، سيرغي سيروفيكين، الذي ادّعى، عبر وسائل الإعلام الروسية، ضرورة حماية القوات الروسية بعد تقديره أنَّ بقاءها في الضفة الجنوبية لم يعد مجدياً، بعد صعوبة وصول الإمدادات إليها. هكذا، وبشكلٍ مخالفٍ للتفكير الروسي، يُروَّج للانسحاب ويُعطى صبغة شرعية، وكأنَّهم يقولون للعالم إنّنا خسرنا معركة خيرسون، وسننسحب منها ونتركها لأوكرانيا.

من الناحية الشكليّة، يُمثل قرار التخلّي عن خيرسون نكسة أخرى، تُضاف إلى سجل نكسات بوتين في أوكرانيا منذ تاريخ الحرب، 24 فبراير/ شباط الماضي، كذلك يعدّ تحوّلاً في مسار الصراع ومنعطفاً جديداً سيكون له ما بعده. من الناحية العملية، يبدو الأمر مختلفاً، هذه المرّة، عن كلّ مراحل الصراع. فالتكتيك والأسلوب الروسيان المتّبعان حالياً في خيرسون يختلفان تماماً عمّا قامت به في العاصمة كييف وخاركيف، فالانسحاب هناك كان اضطرارياً، أما في خيرسون فقد جاء كيفياً، وهو ما دعا الجانب الأوكراني إلى التشكيك في الرواية الروسية، ووصفها “بالفخّ”، أو احتمالية تدبير لخديعة جديدة. فالرئيس زيلينسكي لم يعد يثق بنيّات بوتين، وقال إنّ موسكو لا تقدّم إلى بلاده هدايا أو شيئاً بالمجان. من هنا، جاءت التساؤلات والتحليلات عن خطوة بوتين في خيرسون، ولا سيما أنّ التوقيت ترك إشارات استفهامٍ ما زالت قيد البحث.

توجد عدة دوافع واحتمالات، ربما كان أحدها سبباً لإقدام روسيا على هذا الإجراء. الأول: أنّ بوتين أدرك فعلاً استحالة تحقيق نصر كامل في خيرسون، بعدما حقّق الجنود الأوكرانيون نجاحاتٍ كبيرة منذ شنّهم هجوماً مضادّاً في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، واستردادهم 14 منطقة شماليّ خيرسون، مستفيدين من كل القدرات والدعم الغربي من صواريخ ومنظومات “هيمارس”، وهو الأمر الذي قاد، في نهاية المطاف، إلى إعلان الرئيس الأوكراني إنشاء أربع مناطق عسكرية تتسلم مهمة الدفاع واسترداد خيرسون. من هنا، بدا لبعضهم أنّ روسيا أعادت تقييم وضع العمليات العسكرية، وقررت الانسحاب لتجنب خسائر عسكرية جديدة في العتاد والقوات، فهي لا تريد تكرار ما حدث في خاركيف والعاصمة كييف. بالتالي، قرّرت فعلاً حماية القوات وتأمينها لاستخدامها في ما بعد بمعارك هجومية. مع ذلك، يبدو هذا الاحتمال غير واقعي. فرغم حقيقة دخول روسيا في استنزاف عسكري واقتصادي، فإنّها غير مضطرّة إلى أن تنفذ انسحاباً بشكل معلن، وإعطاء زمام المبادرة لأوكرانيا للتغنّي بنصر جديد، ذلك أنّ روسيا عودتنا، في حالات الانكسار، اللجوء إلى رواية التكذيب والتقليل من الخسائر أو التكّتم عليها.

الاحتمال الثاني مفاده أنّ روسيا، عبر قائد عمليات قواتها الجديد، سيرغي سيروفيكين، تريد أن تُغيّر من تكتيكها القديم إلى آخر جديد متعلّق بتنفيذ خطط عسكرية تعتمد على المكر ونصب الكمائن للعدو، بهدف التقليل من خسائرها، ورفع احتمالية تحقيق المكاسب من جهة أخرى. من هنا، يكون سحب القوات إلى يسار نهر دنيبر أشبه بمسرحيةٍ مفضوحة، يُترَك فيها الميدان لدخول القوات الأوكرانية بهدف الإطباق عليها بهجوم روسي. هذا الاحتمال أيضاً غير وارد، فعدا عن أنه بدائي في العمليات العسكرية، هو أيضاً سيناريو فاشل، فاليد الطولى في خيرسون هي لأوكرانيا، وهي تقرأ من كثب كلّ تفصيل صغير يحدث على الأرض، بالتعاون مع الخبراء والضباط الغربيين.

يبقى الاحتمال الثالث، وهو الأقرب والأكثر واقعية، يتمحور حول رغبة بوتين في أخذ الأنفاس وإعطاء فرصة لعودة المفاوضات مع أوكرانيا، والسبب هو التحوّل في الموقف الغربي الداعم لأوكرانيا. وقد تداولت، أواخر الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) مصادر وصحف غربية قصة المحادثات السرّية بين الجانبين، الأميركي والروسي، قيل حينها إنّ قنواتٍ خلفية ما زالت تتواصل مع الروس، لحثهم على وقف الحرب، وعدم استخدام السلاح النووي. وفي 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، نشرت صحيفة واشنطن بوست كواليس ضغوط أميركية مورست من الرئيس بايدن على الرئيس زيلينسكي، لإقناعه بالتفاوض مع الروس، وقد جاءت هذه الضغوط لكسر قناعة أوكرانيا بأنّ الغرب سيستمر في دعمها حتى دحر آخر جندي روسي من بلاده، كذلك جاءت لإزالة الفيتو من عدم التفاوض مع بوتين، بموجب قرارٍ وقعه الرئيس الأوكراني في وقت سابق. في الوقت نفسه، جاءت الضغوط لتحجيم الشروط الأوكرانية وتمييعها لعودة أوكرانيا إلى التفاوض، حيث حدّدت الأخيرة شروطاً باتت مبالغاً فيها من الولايات المتحدة، في انسحاب كل القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية، ودفع تعويضاتٍ ماليةٍ عن خسائر الحرب وتدمير المدن، وبند المحاكمة للجنود الروس والقادة، وحتى الرئيس بوتين.

قد تختفي كلّ هذه الشروط في الأيام المقبلة أو تخفَّض إلى الحدود الدنيا، في سبيل العودة إلى طاولة المفاوضات. المهم الآن أنّ حالة تغيير حدثت في الولايات المتحدة، جاءت على أعتاب صعود الجمهوريين، الرافضين دعم أوكرانيا إلى الأبد، وغير راضين أن تكون هذه الحرب طويلة، بالتالي، تحوّل المحدّد الأميركي من دعم أوكراني لتحقيق نصر كامل إلى دعم مشروط ينتهي بموقف أوكراني قوي على طاولة المفاوضات. ما يعزّز هذا الكلام تطابق عدة مصادر عن وجود لوبي ضاغط داخل الولايات المتحدة محسوب على الجمهوريين، باتوا يُمارسون أقصى أنواع الضغط على الديمقراطيين، بخصوص حرب أوكرانيا، كذلك لا يخفى على كثيرين معارضة بعض دول أوروبا حرباً طويلة الأمد، فالخسائر باتت كبيرة، وبرد الشتاء قادم بشكلٍ قد يُجمد معه اقتصاديات بعض الدول، ويضعها في ميزان الخسائر والتآكل الداخلي.

من هنا، ربما اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إفساح المجال وإعطاء الفرصة لعودة المفاوضات، وجاء قول المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، واضحاً، قبل أيام، عن رغبة بلادها في عودة التفاوض مع أوكرانيا. بالتالي، جاءت خطوة انسحاب القوات الروسية من خيرسون بمثابة جسّ نبض وتجسير لقنوات التواصل مع أوكرانيا، في انتظار نتائج هذه الفرصة، هذا بالإضافة إلى محاولة بوتين الاستفادة من عوامل الوقت، فهو يعلم جيداً أنّ العمليات العسكرية ستدخل في مرحلة جمود بعد أسابيع مع حلول الثلوج في أوروبا. وعليه، يكون الانسحاب فرصة له أيضاً في إعادة رصّ صفوف قواته، وتدريب قوات التعبئة الجديدة، كذلك ترقّب مصير التحولات في الداخل الأميركي وحجمها بعد نتائج الانتخابات.

على هذا المنوال، يكون الانسحاب من خيرسون من أشكال “استراحة محارب”، وليس عجزاً عسكرياً عن حماية المناطق التي يُسيطر عليها، ولا سيما أنّها تُشرف على تأمين الطريق البرّي للقرم التي تعد الخط الأحمر الأول بالنسبة إلى بوتين، فكيف يقبل اليوم التخلي عنها وإعلانه أمام العالم فشله في صدّ هجوم أوكرانيا المضاد.

أخيراً: مهما كانت الظروف التي دفعت بوتين إلى تنفيذ خطوة الانسحاب من خيرسون، المؤكد أنّ ذلك مؤقتٌ في انتظار روسيٍ لحدوث أمرٍ ما، لكن الثابت أنّ بوتين ما دام على رأس السلطة، فلن يتخلى عن خيرسون التي ضمّها رسمياً إلى الاتحاد الروسي، وهذا ما يفسّر قول بوتين: “إنّ انسحابنا من خيرسون لا يعني أبداً التخلي عنها، فهي ستبقى ضمن الأراضي الروسية”.

العربي الجديد،

—————————

الانسحاب الروسي من خيرسون… صفقة أم هزيمة؟/ أحمد رحّال

لم يكن إعلان وزارة الدفاع الروسية الانسحاب من مدينة خيرسون أمراً اعتيادياً، بعد أن اعتبرها المشرّع الروسي، إضافة إلى ثلاث مقاطعات أخرى، أراضي روسية، ينطبق عليها ما تتطلبه السيادة الروسية على أراضيها. ومبرّرات الانسحاب التي وضعها القائد العام للقوات الروسية في أوكرانيا، الجنرال سيرغي سوروفوكين، ووافق عليها وزير الدفاع، سيرغي شويغو، بعد تنسيق مع القيادة السياسية والقائد العام للجيش الروسي الرئيس فلاديمير بوتين، لم تكن مقنعة للداخل الروسي قبل إقناع الخارج، فقد قال سوروفوكين إن وجود قوات بلاده في منطقة منبسطة ومكشوفة داخل خيرسون يجعلها عرضة للاستهداف ويصعب الدفاع عنها، وهي منطقة بحدود 10 آلاف كم2، وفيها ما بين 20 – 25 ألف مقاتل روسي، والخسائر، إذا ما رُفض قرار الانسحاب، ستكون كبيرة. ومن وجهة نظره العسكرية لا تستحق خيرسون تلك الخسارات الباهظة. وجاء في عرض الجنرال أمام القيادة العسكرية الروسية أن الانسحاب تحتّمه ضرورات عملياتية فرضتها أجواء المعركة وتغيرات موازين القوى، وهي خطوة إلى الخلف تهدف إلى تأمين الحفاظ على 18 ألف كم2 على الضفة اليسرى لنهر دينيبرو مع وجود ساتر طبيعي (عرض النهر من 400 إلى 2000 متر) سيبقي خيرسون ضمن دائرة الاستهداف، وسيسمح للجيش الروسي ببناء نظام دفاعي ثابت ومتماسك، عوضاً عن تكتيك القتال التقهقري الذي قد يتسبّب بخسائر فادحة، لا قدرة للقيادة الروسية على تحمّلها. وقال سوروفوكين إن الانتقال إلى الضفة اليسرى لنهر دينيبرو ليس فقط لتأمين الدفاع عما تبقى من أراضي مقاطعة خيرسون وكامل شبه جزيرة القرم، بل سيقوّي الدفاعات الأخرى من ربط وتشابك أقواس النيران مع المجنبات اليسرى لجبهات القتال في مقاطعتي زابورجيا ودونتسيك، وسيمنع حصار قواته في المدينة، خصوصاً إذا ما نفذ الأوكرانيون تهديدهم بتفجير جسر كاخوفكا على نهر دينيبرو.

وقد عكست تلك المبرّرات، مرّة أخرى، الأخطاء العملياتية، وحتى الاستراتيجية التي وقع فيها الجيش الروسي في مسارح القتال الأوكرانية، ولم يجرِ بعد تجاوزها أو التخلص من تبعاتها، وإلا كيف يمكن تبرير عدم وجود بنية دفاع صلبة في جبهات خيرسون، وهي المدينة الأولى التي سيطر عليها الجيش الروسي قبل قرابة تسعة أشهر؟ وهل اكتشف صانع القرار العسكري الروسي فجأة أن مدينة خيرسون تقع في منطقة سهلية مكشوفة؟ والتبرير هو أن جبهات خيرسون كانت تعتمد تكتيك الهجوم لتجاوز مدينة ميكولاييف والوصول إلى مدينة أوديسا، وبالتالي لم تكن هناك تكتيكات وخطط دفاعية لتلحظ بناء خط دفاعي، وهذا العذر غير مبرّر عسكرياً وغير مقنع بمفردات حروب الجيوش المتطوّرة.

مرّة أخرى، يظهر للعيان ضعف التخطيط العملياتي وضعف الأداء القتالي للجيش الروسي، ويؤكّد أن هناك ضعفاً واضحاً بإيجاد مخارج ناجعة للتعامل مع منظومات الصواريخ الغربية “هيمارس”، ومنظومات المدفعية (إم 777)، إضافة إلى الطائرات التركية المسيرة “بيرقدار” التي لم تقدّر غرف عمليات الجيش الروسي خطورتها، بعد أن شكّلت ضربة قاصمة للجيش الروسي، وجعلته يضطرّ للانسحاب من خيرسون، كما حصل قبلها على جبهات خاركيف ومحيطها.

يقول قادة الجيش الأوكراني إن المهمة الآن تنحصر بتطهير خيرسون من فلول الجيش الروسي، وإن هناك خشية من أن تكون بعض المواقع ملغّمة، وإن وجهتهم المقبلة ستكون جبهات زابورجيا، وليس ملاحقة الروس إلى ما بعد النهر، وأن هناك ضرورة قتالية وحيوية تحتّم جعل أهداف الجيش الأوكراني في المرحلة المقبلة هي الوصول إلى بريديانتسك وميلوتوبول، والاستيلاء على محطة زابوريجيا، وتلك أهدافٌ إذا ما تحققت ستشكل ضربة قاصمة أخرى لظهر موسكو.

تقول المحللة السياسية والاستراتيجية، إيلينا سوبونينا، وهي المقرّبة من الكرملين ووزارة الدفاع الروسية، إن الانسحاب من خيرسون لا يُلغي أنها جزء من الأراضي الروسية، والانسحاب من ضفة إلى أخرى ليس سحقاً استراتيجياً للجيش الروسي، كما يصوّره الغرب، وأن عملية الانسحاب ستكون استراحة مقاتل يعقبها هجومٌ معاكس ومضاد لاستعادة ما تم الانسحاب منه، ومن ثم تطوير الهجوم بالعمق الأوكراني وصولاً إلى الأهداف التي رسمها بوتين، والمتمثلة جنوباً بإتمام السيطرة على كامل شواطئ بحري آزوف والأسود، ما يعني السيطرة على ميكولاييف، ومن ثم الوصول إلى عاصمة أوكرانيا البحرية في أوديسا.

ولكن سيبوتينا تتشارك الاستغراب مع معظم الشعب الروسي بشأن ما يحصل على جبهات القتال، وتقول إن الشعب الروسي يشعر بالقلق من أن هناك شيئاً غير طبيعي يجري تحت الطاولة، وأن هناك انتقادات، حتى لبوتين، بما يحصل، خصوصاً بعد إعلانه عن التعبئة الجزئية التي قيل حينها إنها ستقلب موازين القوى العسكرية على جبهات القتال، وإن معلومات من داخل روسيا قالت إن الانسحاب كان مقرّراً قبل ذلك زمنياً، لكنه تأخر فقط لعدم منح الديمقراطيين انتصاراً قبل الانتخابات البرلمانية النصفية في الولايات المتحدة. ولا تستبعد “سيبوتينا” أن ما يحصل صفقة سياسية بين واشنطن وموسكو والاتحاد الأوروبي، وأن أصحاب رؤوس الأموال التي تحيط بالرئيس بوتين يريدون صفقة، بعكس بقية الساسة والعسكر… وإلا ما تفسير التساهل الغربي مع شراء الهند النفط الروسي وبأسعار عادية، أو بتخفيف الغرب بعض العقوبات عن موسكو بما يخص تصدير الحبوب؟ وتسأل هل هناك ذوبان لجليد العلاقة المتأزمة بين الغرب وروسيا؟

بالعودة إلى مبرّرات الجنرال سوروفوكين، نجد أن في التاريخ الروسي تجارب سابقة وكانت ناجحة، فمع تقدّم جحافل هتلر في الحرب العالمية الثانية على جبهات الاتحاد السوفييتي، ومع ضعف دفاعات الجيش الأحمر، قرر جوزيف ستالين الانسحاب من بعض المدن الكبرى، ومنها ستالينغراد، والحفاظ على لينينغراد وموسكو، ومن ثم بناء دفاعات قوية والانطلاق بهجوم معاكس، لم يتوقف حينها حتى عاصمة الفوهرر في برلين. وما فعله القائد السوفييتي الميداني، غيورغي جوكوف، في جبهات هتلر قد يكرّره سيرغي سوروفوكين في ميادين أوكرانيا، لأن أهمية خيرسون للروس لا تتمثل فقط في مساحة إضافية يجب السيطرة عليها، بل هي أيضا قيمة دفاعية واقتصادية وموارد طبيعية لشبه جزيرة القرم لا يمكن تعويضها، وخصوصاً في موضوع المياه الصالحة للشرب.

يشكّل تماسك الجبهات الداخلية في الحروب أحد العوامل الأساسية لتماسك جبهات القتال والانتصار فيها، لكن جبهات الروس الداخلية باتت شبه مفكّكة بعد فرار كثيرين من الشباب والعقول إلى الخارج خشية جرّهم إلى ميادين الحرب. وهناك آلاف الرسائل الصوتية، باتت تنتشر داخل المجتمع الروسي، من جنود إلى أمهاتهم يطالبونهن فيها بمحاولة إعادتهم من الموت المحتّم في ساحات القتال. يضاف أيضاً أن هناك من يتساءل كيف لدولة تصنّف نفسها دولة عظمى، وتحاول أن تقارع الولايات المتحدة على الزعامة، غير قادرة على تأمين مستلزمات الحرب، فتضطرّ تارة لاستيراد الطائرات المسيّرة من إيران التي تقبع تحت عقوبات غربية منذ 40 عاماً، أو تستجدي كوريا الشمالية ببعض الصواريخ. وفي الوقت نفسه، هي غير قادرة على مواجهة منظومات الصواريخ والمدفعية الغربية التي تُقدّم للجيش الأوكراني، رغم أنها تصنّف أسلحة تقليدية عملياتية وليست استراتيجية.

تبقى حتمية القول إن ما حصل مع مفردات الانسحاب من خيرسون، سواء جرى بخطط مسبقة خدمة لصفقة ما مع الغرب، أو اضطرارياً نتيجة ضغط الجيش الأوكراني، فكلاهما هزيمة لموسكو ونصر لكييف. ولكن يبقى أيضاً أن الحرب طالت، ويجب أن تنتهي، وأن صفقة في أوكرانيا قد ينعكس صداها على ملفات عالقة في طهران ودمشق ومواقع أخرى، وأن خسارة تكتيكية للروس في خيرسون قد تكون سلّماً يُنزِل بوتين عن الشجرة التي علق فوقها، وأنه مع الانسحاب، ومع تنازلات متبادلة مطلوبة من الجانبين، قد تنتهي فصول حرب مدمّرة طالت شظاياها كل ساحات الشرق والغرب.

العربي الجديد

————————-

بعد خيرسون..هل اقتربت مفاوضات اوكرانيا؟/ بسام مقداد

بقي الأوكران أكثر من يوم متحفظين في وصف الإنسحاب الروسي من خيرسون، وكانوا يجيبون على التهنئة بتحرير خيرسون “إن شاء الله”. وبعد يوم من الإنسحاب الروسي نشر الموقع الأوكراني visitukraine نصاً عن الحدث بعنوان “روسيا تنسحب من خيرسون. خطة بوتين الماكرة أو إنتصار أوكرانيا”. وقد تكون المرة الأولى التي يُكشف فيها عن خيانة أوكرانية محتملة وقفت وراء النجاح الأولي للقوات الروسية في إحتلال منطقة خيرسون، وليس مهارة القوات الروسية. فقد قال الموقع بأن إحتلال المنطقة كان “ضربة مؤلمة” لأوكرانيا، وذلك لأن الجيش الأوكراني كان ينتظر حرب بوتين الخاطفة على الجناح الجنوبي للجبهة بالذات. ولهذا قام الأوكران بتلغيم البرزخ بين القرم وخيرسون، وكان يجب أن تنفجر جميع الجسور أثناء عبور القوات الروسية، “إلا أن هذا لم يحدث”.

ويقول الموقع أن الأوكران يفترضون أن حرب بوتين المفاجئة مرتبطة بخيانة أحد ما “منا”. فالعسكريون يقولون أنه لم يكن بوسع الروس التقدم بسرعة على الجسر الواصل بين القرم وخيرسون لو كان قد تم تفجيره، كما كان مخططاً له في حال الهجوم الروسي. وموضوعة الخيانة لا تزال متداولة في أوكرانيا حتى اليوم، ويعدون بالتحقيق بها “بعد النصر في الحرب”.

موقع kapital الروسي في حقل الأعمال نشر نصاً بعنوان “هذه ستكون النهاية له شخصياً”. النخبة الروسية تنتظر مفاوضات مع أوكرانيا بعد إستسلام خيرسون”. وقال الموقع بأن مسؤولين في الحكومة الروسية ونخبة البيزنس الروسي ينتظرون بدء مفاوضات سلام مع أوكرانيا بعد إنسحاب القوات الروسية من خيرسون. وحسب الموقع، نقلت the Washington Post عن أحد كبار رجال الأعمال في موسكو قوله بأن الإنسحاب “خسارة كبيرة”، ويعتقد بأنه سيكون من الصعب تقبلها داخل روسيا. وأضاف بأن هذه الخسائر توجه ضربة كبيرة لصورة بوتين.

يرى الموقع أن الإنسحاب من خيرسون هو هزيمة أخرى، بعد إنسحاب القوات الروسية من كييف، ومن قرب خاركوف وليمان. بعد المشاكل قرب خاركوف أعلن بوتين التعبئة لتحسين الوضع على الجبهة، وقام بضم خيرسون، معلناً أنها ستبقى مع روسيا “إلى الأبد”. لكن هذا لم يوقف الجيش الأوكراني الذي يواصل الهجوم في منطقتي خيرسون ولوغانسك، ويعد لهجوم في زاباروجيه.

ويقول الموقع بأن المسؤولين الروس والأوليغارشيين  يعتبرون أن “العملية العسكرية الخاصة” ليست ضرورية، وهي مؤذية لروسيا. والنصر لا يلوح في الأفق، وتكاليفها باهظة للبلد، بما فيها خسائر القدرات الإقتصادية والديموغرافية لعشرات السنين القادمة.

وينقل عن بوليتولوغ موالٍ للكرملين قوله بأن إستسلام خيرسون هو “أكبر هزيمة لروسيا منذ سقوط الإتحاد السوفياتي. ويعتبره “ضربة كبيرة للمشاعر العامة للروس، ضربة كبيرة للجيش ولمعنوياته القتالية، ضربة للرئيس بوتين، وضربة للتفاؤل”.

ويقول بأن أحد المتحدثين في الحكومة إعتبر بأن قرار الإنسحاب يعني بأنه لا يزال لدى القيادة “تفكير عقلاني”. وإذا كان الرئيس مشاركاً في القرار، فالأمل، حتى ولو ضعيف، بأنه مستعد للمفاوضات. إلا أنه من المستبعد أن يقبل الشرط الأوكراني بإنسحاب القوات الروسية من أوكرانيا، لأن هذا سيكون “ضربة سياسية هائلة” تنهي وجوده رئيساً. لكن الإنقسام قد وقع في الأوساط الروسية الحاكمة بين مجموعة صغيرة تريد مواصلة الحرب، وأولئك الذين يأملون بنهايتها وإستعادة الحياة الطبيعية في روسيا.

يقول البوليتولوغ أن رهان بوتين الأخير هو إضعاف مقاومة أوكرانيا خلال الشتاء بسبب تدمير 40% من البنية التحتية للطاقة، كما ينتظر أن تنخفض شدة المعارك في الشتاء أيضاً. ويقول رجل أعمال روسي كبير بأن بوتين يريد من  إدارة بايدن أن تضغط على كييف لجعلها تبدأ المفاوضات التي سبق أن تحدث عنها قائد الأركان الأميركي مارك ميللي. ويعتقد رجل أعمال كبير آخر بأن بوتين مستعد “لصفقة ما”، ويقول بأنه قد أدرك النصر أن العسكري الحاسم في الحرب مستحيل. ووصف وضع بوتين نفسه بأنه “على حافة كارثة”، فإذا خسر المزيد من الأراضي، ستكون هذه “وصمة عار عليه”، وتنهيه سياسياً.

ويرى البوليتولوغ أن الإنسحاب إلى حدود 24 شباط/فبراير سوف يعتبر خسارة جدية، لكن ليس إستسلاماً، وسيخلق ظروفاً قاسية، “لكنه ممكن”.

موقع Meduza الروسي المعارض نشر نصاً بعنوان “إستسلام خيرسون ــــــ أكبر هزيمة لروسيا خلال الحرب”. يقول الموقع بأن الإنسحاب الروسي من خيرسون ليس مرتبطاً بالوضع على الجبهة، إذ تدور في الشهر الأخير معارك محلية الطابع. المصادر الروسية تسمي هذه المعارك “هجوماً” للجيش الأوكراني. لكن الأوكران يخوضون عمليات حربية نشطة، وليس هجوماً، وقواتهم تتفوق عدداً على الروس في المنطقة، لكنها لم تحقق نجاحات في الشهر الأخير. وليس بوسع القيادة الروسية أن تتخطى صعوبات التموين التي تمنعها من زيادة عديد القوات.

ويقول الموقع أن عدم جدوى وجود القوات الروسية على الضفة اليمنى لنهر دنيبر هو السبب الحقيقي للإنسحاب من خيرسون. فالدفاع عن هذه الضفة يتطلب الكثير من القوات القادرة على القتال، لكن مصادرها محدودة ولا تستطيع القتال بكامل قوتها، ويمكن إستخدامها بفعالية أكثر على الاتجاهات الأخرى للجبهة.

.يصف الموقع الإنسحاب الروسي من مدينة خيرسون، عاصمة المنطقة التي إحتلتها روسيا الشهر المنصرم وضمتها منذ شهر، بأنه “الهزيمة الأكبر للجيش الروسي خلال الحرب كلها”. 

موقع الخدمة الروسية في راديو “الحرة” الأميركي نشر نصاً بعنوان “لماذا إنسحب جيش بوتين من خيرسون. ماذا بعد؟”. النص كان حلقة من برنامج “حصاد الأسبوع”، إستضاف يها القائد السايق لقوات لاتفيا البرية، مؤرخ وأستاذة في كلية الإقتصاد بجامعة أميركية. يقول العسكري أن ليس من الواضح كلياً لماذا أخذ قائد القوات الروسية في أوكرانيا على عاتقه قرار إنسحاب القوات من خيرسون، والقرار ليس مبادرة روسية، بل من الواضح أن أوكرانيا أرغمت هذه القوات على الإنسحاب. وهي إشارة سيئة أن يظهر لدى الروس قائد أخذ يتحمل “بطريقة ما” مسؤولية القرارات المتخذة، ويستطيع تفسيرها. وحقيقة أنه يتستر على بوتين أمر مفهوم، فهو لهذه الغاية تم تعيينه. لكن الجانب السلبي هو ما يعنيه ذلك: بوتين يثق به. ويعتبر أن كل ما نراه في  حرب بوتين على أوكرانيا، عدا عن الطائرات المسيّرة وبعض الوسائل الأخرى، لا يمكن أن نسميه حرباً في القرن الحادي والعشرين. بل هو، في الحقيقة، من الحرب العالمية الأولى، وليس من العالمية الثانية فقط.

المؤرخ يقول بأن بوتين يبدل أهداف الحرب ومهامها وفقاً لتبدل الوضع على الجبهة. لكن “الحرب مع الناتو”، لا يزال أحد ثوابت خطاباته الأولى منذ إعلان حربه. أما الكلام عن نزع نازية أوكرانيا وهويتها القومية فقد إختفى منذ أواسط الصيف. ويعتقد أنهم سيقولون الآن في روسيا “لقد بدأنا الحرب من أجل أمر ما، فلننها من أجل أمر ما”، ويرى أن هذا القول يعني إعداد المنصة للإعتراف بنتيجة الحرب ليس بالشكل الذي بدأته.

أما استاذة الإقتصاد فتقول أنه لخوض الحرب على القيادة العسكرية أن تحل الآن مسألتين. الأولى النقص في الذخيرة والآليات، والثانية النقص في عديد المقاتلين. المصانع الحربية تعمل الآن في ثلاث ورديات، وهي تحاول إنتاج الذخيرة لتعويض الجبهة خسائرها. كثيرون من الكادرات العسكرية قتلوا أو جرحوا في الحرب، والبعض تمكن من إنهاء العقد والخروج من القوات المسلحة، ولتعويض الجبهة خسائرها البشرية أعلنت التعبئة العامة “الجزئية”.

المدن

————————–

قبل خيرسون وبعدها: خصوصيّات الحالة الأوكرانيّة/ حازم صاغية

حين استقلّت بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة عمّا كان اتّحاداً سوفياتيّاً، بدا أنّنا أمام حدث غير مسبوق في التاريخ؛ ففضلاً على انهيار إمبراطوريّة عظمى، نجحت دزينة من الثورات في أن تحرز هدفها من دون عنف يُذكر. يكفي أن تتداعى الإمبراطوريّة في مركزها حتّى تستقلّ الأطراف بسلاسة فائقة نسبيّاً. هذه بدت القاعدة السائدة يومذاك.

الحلم الكبير هذا ما لبث أن تبيّن أنّه ناقص. ذاك أنّه ما أن تستعيد الإمبراطوريّة بعض قوّتها، من دون أن تشهد مراجعة عميقة لدورها الإمبراطوريّ السابق، حتّى يتفجّر صندوق باندورا مُطلقاً شياطين كثيرة آثرت أن لا تموت.

هذا ما كانه معنى الحرب الأخيرة على أوكرانيا، مضفياً على الحالة الأوكرانيّة خصوصيّة محدّدة: إنّ المسار الاستقلاليّ والديمقراطيّ لشعوب وبلدان عدّة يُرسم حصريّاً هناك. فالحرب تلك أكّدت، بما يكفي من إشاعة التشاؤم التاريخيّ، أنّ الإنجاز السلميّ الكبير لعامي 1989 – 1990 لن يتمّ ولن يكتمل إلاّ في حالة واحدة: أن تغدو الإمبراطوريّة الروسيّة السابقة سلميّة، أي أن تتخلّى فعلاً، مرّةً وإلى الأبد، عن نزوعها الإمبراطوريّ، وأن تقنع بكونها دولة عاديّة مثلها مثل باقي دول العالم. عدم حصول ذلك، في ظلّ زعامة فلاديمير بوتين، هو بالضبط ما يمنح المشروعيّة لمخاوف الأوكرانيّين وسواهم من الشعوب الأوروبيّة، التي جعلتهم بالغي الحماسة للانضمام إلى الناتو والاتّحاد الأوروبيّ. فالنوم على حرير الجوار، طالما أنّ الجار لم يغدُ بلداً ديمقراطيّاً عاديّاً، قد ينقلب في أيّة لحظة نوماً على شوك. وهناك في التاريخ القريب، فضلاً على البعيد، ما يعزّز تلك المخاوف حيال الجبروت الروسيّ. بيد أنّ الحالة الأوكرانيّة، رغم الأكلاف الباهظة، هي التي جعلت العودة إلى الوراء الإمبراطوريّ، في أوكرانيا وفي سواها، أقرب إلى الاستحالة.

وهنا تكمن الخصوصيّة الثانية للحالة والحرب الأوكرانيّتين اللتين يتعلّق بهما وضع روسيا الجديدة ومعناها. ذاك أنّ الحدث الحربيّ الكبير ما كان ليصطبغ بالمأسويّة التي اصطبغ بها لولا اتّصاله بهذين الوضع والمعنى. ففجأةً بدأت تشيع التكهّنات المتضاربة عن استخدام السلاح النوويّ، فضلاً على إنزال خراب هائل بأوكرانيا، لا سيّما ببُناها التحتيّة، وعن سقوط 200 ألف قتيل وفق تقديرات الجنرال الأميركيّ مارك ميلي. ومن يدري فقد تطول المواجهة ويتعاظم وجه العبث والمجانيّة في أعمالها التدميريّة من أجل الحفاظ على معنى بعينه للروسيّة، معنى لا تريد النخبة الحاكمة في موسكو طيّه واستبداله.

هكذا، وفي البال مباشرةُ الانسحاب الروسيّ الأخير من مدينة خيرسون، وارتفاع الأعلام الأوكرانيّة فيها، بدأت تظهر أصوات ليست مخطئة بالضرورة، تؤكّد أنّ النهاية الفعليّة للحرب الأوكرانيّة إنّما هي تغيُّر روسيا نفسها. هذا علماً بأنّ مهمّة تاريخيّة ضخمة كهذه قد لا يحتملها الجسد الروسيّ ذاته، هو الممزّق دائماً بين سلافيّته وأوروبيّته، وبين نازع الاستبداد فيه ونازع الديمقراطيّة.

على أيّ حال بات واضحاً جدّاً أنّ النهج البوتينيّ المعمول به، الذي تصيبه الانتكاسات الحربيّة المتتالية، لن يتمكّن من إنجاز ما عزم ذات مرّة على إنجازه. فلا حطام الإمبراطوريّة القديمة يتيح ذلك، ولا الشوق المهيض الجناح إلى استعادة الإمبراطوريّة من جديد يتيحه. أمّا الرهان على الإصرار الحديديّ وعلى المبادرة الذاتيّة لموسكو فلا يمكنه التغلّب على فارق تقنيّ وعسكريّ باتت تكثر الشواهد الدامغة عليه. وهو، في آخر المطاف، فارق ينمّ عن المسافة الضخمة بين النموذج السياسيّ والثقافيّ والاقتصاديّ الغربيّ الداعم لأوكرانيا والنموذج الروسيّ المتهالك على الأصعدة جميعاً.

والحال أنّ انسحاب الولايات المتّحدة من أفغانستان أو وجود خلافات داخل الناتو وداخل الاتّحاد الأوروبيّ لا يكفيان بتاتاً للرهان على «إلحاق الهزيمة بالغرب» و«إنهاء الواحديّة القطبيّة»، قفزاً فوق التفاوت التقنيّ وغير التقنيّ الهائل.

لقد شهد عقدا الستينات والسبعينات، على هامش الحرب الفيتناميّة – الأميركيّة، نظريّة تقول إنّ في وسع الشعوب وتضحياتها إلحاق الهزيمة بجيوش الدول المتقدّمة تقنيّاً. لكنّ الخصوصيّة الأخرى في الحالة الأوكرانيّة حيال الروس أنّ ذاك البلد الصغير هو الذي يحتلّ موقع فيتنام في هذه المواجهة، فضلاً على تمتّعه بالتفوّق التقنيّ الذي يوفّره له السلاح والتدريب الغربيّان.

بلغة أخرى، نادراً جدّاً ما اجتمعت الكفاءة التقنيّة والقضيّة المحقّة في طلب الاستقلال والسيادة وجلاء القوّات الأجنبيّة. إنّها تجتمع في أوكرانيا التي قد تُدمّر إلاّ أنّ من الصعب جدّاً أن تُهزم.

الشرق الأوسط

———————–

هزيمة بوتين.. بقعة ضوء في نهاية النفق السوري/ عبد القادر المنلا

رغم الهزيمة الموصوفة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، والمتمثلة في استعادة الجيش الأوكراني للكثير من مدنه وبلداته وأهمها منطقة “خيرسون” التي استردها في الأيام القليلة السابقة ورفع عليها علم أوكرانيا من جديد، إلا أن الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين ما زالوا لا يتجرؤون على التورط في وصف الانسحاب الروسي من تلك المدينة بالهزيمة خوفاً من سقوط توصيفاتهم في فخ السذاجة السياسية، فلربما يكون ذلك الانسحاب مجرد تكتيك عسكري سيمكّن بوتين من القيام بعمل أكبر ضد المدينة ويحول هزيمته إلى نصر ساحق، ثمة بالتأكيد ما يخطط له لاستعادة زمام المبادرة، وربما لإيقاع هزيمة كبرى ونهائية ومؤلمة تجعل الأوكرانيين يندمون على تجرئهم في استعادة المدينة، وربما يكون انسحابه من تلك المدينة جزءاً من خطة مرتقبة تعيد قلب الموازين من جديد، وبالتالي لا مصلحة للمحللين السياسيين بالتسرع في الاستنتاجات التي قد تضرب سمعتهم وقدراتهم التحليلية إن حدث ذلك السيناريو.

وبحساب الفارق النوعي في القوة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، فإن بوتين لا يمكن أن يهزم  بهذه البساطة، يبدو ذلك منطقياً، فلا يمكن لقوة عظمى أن تسمح لدولة مثل أوكرانيا أن تلطخ سمعتها بالهزيمة، ولكن بالرجوع إلى شخصية بوتين وتاريخ حروبه منذ استلامه زمام الأمور في روسيا وحتى الآن ستبدو الهزيمة واقعاً غير قابل للتأويلات الكثيرة.

بدءاً من الشيشان وجورجيا، مروراً بالقرم وسوريا، لم يخضْ بوتين حرباً حقيقية، بل اعتداءات واحتلالات وإبادة، لم يقف بوتين وجهاً لوجه مع قوة عسكرية مكافئة أو شبه مكافئة، أو حتى مع دولة ذات جيش قادر على الدفاع عن بلده في الحدود الدنيا، فقد خاض بوتين حروبه ضد دول شديدة الضعف وليس لديها القدرة على الرد عليه كما حصل في الشيشان، أو ضد شعب أعزل أو ثورة مسلحة بأسلحة غير نوعية كما حصل في سوريا، وكانت استراتيجيته الوحيدة هي الاعتماد على سياسة الأرض المحروقة ضد قوى لا تمتلك مضادات طيران، وقام بضم القرم في غفلة عن المجتمع الدولي أو بتواطئ منه، ليخرج في كل مرة معلناً انتصار المخرز على العين ولتزداد عنجهيته وغروره اعتماداً على انتصارات لا مواجهة فيها مع طرف آخر، بل هي مجرد حروب غدر وإجرام وإبادة.

المرة الأولى التي يدخل فيها بوتين حرباً مع دولة تمتلك الحدود الدنيا من مؤهلات الدفاع عن نفسها كانت في أوكرانيا، قاد بوتين حملته العسكرية على أوكرانيا وفق المنطق ذاته الذي اتبعه في غزواته القديمة، وفق منطق النتائج المحسومة سلفاً بحكم الفارق النوعي في القوة، غزا بوتين أوكرانيا وهو يعتقد أنه يقوم بنزهة في الجبهة، ولذلك رفض أن يسميها حرباً بل عملية عسكرية، وهذا يعني أن القصة ستحتاج إلى ساعات أو أيام، أو أسابيع على أقصى تقدير، ولكن تلك العملية أنهت شهرها التاسع ليتضح أن حمل بوتين كان كاذباً، وأن الولادة لن تتم حتى بعملية قيصرية يقوم بها قيصر عسكري أعجزه أول امتحان وأحاله إلى التقاعد، ويكفي دليلاً على خسارة بوتين أن يطول مدى تلك العملية العسكرية المحدودة كل ذلك الزمن دون مؤشرات على أنه يقترب من تحقيق أهدافه، بل إن فشل العملية وعجزها عن تحقيق أهدافها بات هو الحقيقة المسيطرة، فضلاً عن الخسائر البشرية والعسكرية والاستراتيجية التي تكبدها صاحب العملية..

بقليل من الدعم الغربي، استطاعت أوكرانيا هزيمة القوة العظمى، الأمر الذي يكشف عن هشاشة الفكر الروسي الاستراتيجي، وتخلف منظومة الأسلحة التقليدية الروسية، وقد فضح بوتين نفسه بنفسه حينما دان الدعم الغربي لأوكرانيا فأكد من حيث لا يدري أنه يبحث دائماً عن خصم ضعيف ويفضل الخصم الأعزل ليقوم الوحش بالتهامه ثم ينتشي بانتصاراته وقوته التي لا تقاوم..

يخشى المحللون السياسيون والعسكريون أن يغير بوتين قواعد اللعبة ويستعمل السلاح النووي، ولربما يكون خروجه من “خيرسون” تمهيداً لضربها بذلك السلاح، ولذلك فمن المبكر أن يتجرأ المحلل السياسي على الحديث عن نصر أوكراني، ولكن اختيار بوتين دائماً لخصوم ضعفاء هو دلالة واضحة على جبنه وبالتالي فهو لن يتجرأ على استخدام النووي لأنه سيجبر القوى العظمى على الرد عليه وسيكون ذلك انتحاراً، وبوتين شخصية لا تنتحر، فالقادة الذين انتحروا فعلوا ذلك نتيجة هزيمة مشروعهم، بصرف النظر عن نبل أهدافهم أو دناءتها، أما الساعون للمجد الشخصي فهم يتمسكون بالحياة إلى آخر رمق حتى لو تعرضوا للذل والمهانة، وبوتين يفضل أن يبقى حياً مهما كان مهاناً ومهزوماً.

وبالاعتماد على طبيعة الحروب التي خاضها بوتين، لن يكون ثمة سبب للتريث في قراءة ما حصل في “خيرسون” على أنه هزيمة وليس مجرد انسحاب تكتيكي وفق خطة عسكرية ممنهجة تتضمن أهدافاً استراتيجية كبرى..

لقد انهزم بوتين عسكرياً، بات ذلك واقعاً لا يمكن التشكيك فيه، بل إن كل المؤشرات تدل على تتابع الهزيمة وتكريس خسارة روسيا في المستقبل القريب، كما أنه انهزم سياسياً، حيث تم عزله وحصر علاقاته في الدول القمعية مثل الصين وكوريا الشمالية وإيران والنظام السوري وغيرهم.

والخسارة الأكبر التي تعرض لها بوتين تتمثل في الخسارة الاقتصادية، حيث تنبهت أوروبا إلى خطورة التعامل معه في مجال الطاقة وراحت تبحث عن مصادر بديلة تفقد بوتين مصادر دخله الأعلى والأهم الناتجة عن عقود الغاز مع أوروبا.

لقد استطاعت روسيا أن تستعيد عافيتها لأول مرة بعد البيروسترويكا، وبدأت تقف على قدميها من جديد، ولكن عنجهية بوتين وبلطجته وغروره وغباءه أيضاً، كل ذلك جعله يقع في الفخ الأميركي من جديد والذي يستخدم انتفاخ القيصر الروسي كوسيلة تفجير تعيد روسيا ثانية إلى التفكك والاهتراء..

ربما تكون هزيمة بوتين في أوكرانيا بارقة الأمل في تغيير جذري في المشهد السياسي الدولي والذي قد ينعكس إيجاباً على القضية السورية حينما يخسر الأسد أقوى داعميه، ربما تكون هزيمة بوتين هي بقعة الضوء التي تلوح في نهاية النفق السوري الذي كنا نعتقد ألا نهاية له..

تلفزيون سوريا،

———————-

المتبقي من خيارات روسيا الأوكرانية/ سمير صالحة

أنهى هجوم شباط الروسي باتجاه الأراضي الأوكرانية شهره الثامن في عملية عسكرية واسعة، تجاوزت ارتداداتها السياسية والاقتصادية جغرافيا القرم، ووصلت إلى عمق التوازنات الإقليمية والدولية، لتقود نحو خلط أوراق واصطفافات جديدة بين المعسكرات والتحالفات الغربية والشرقية.

 حققت موسكو جزءا من أهدافها، لكن خسائر الحرب في الجانبين وصلت إلى عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ومليارات الدولارات من الإنفاق العسكري ودمار يحتاج إلى موازنات بالمليارات وسنوات طويلة من العمل الشاق لإعادة بناء ما تهدم. هذا إذا ما جلس الفرقاء حول طاولة التفاوض وتوقفت المعارك قريبا وهو الاحتمال المستبعد اليوم.

هل سيدفع الانقسام الغربي في موضوع الحرب القيادة الأوكرانية للأخذ بما تقوله بعض العواصم الأوروبية؟ أم هي ستمضي وراء السياسة الأميركية التصعيدية ضد روسيا ميدانيا وسياسيا حتى النهاية؟ وهل ستقنع التحليلات والأبحاث العالمية واشنطن بأن المستفيد الأكبر من الحرب قد لا يكون تركيا بالضرورة، بل الصين وإيران قبل غيرهما مع الأخذ بعين الاعتبار حجم الأضرار والخسائر الاستراتيجية التي تتعرض لها روسيا والعواصم الأوروبية؟ مفتاح الإجابات على السؤالين معا هو هل سيكون هناك لقاء قمة روسي أميركي سري أو علني يحول دون اتساع رقعة المعارك والخلافات أكثر من ذلك أم أن الحسم لا بد أن يكون بالضربة القاضية بحسب بوتين أو وبايدن؟

وصفت كييف خطوة الانسحاب العسكري الروسي من إقليم خيرسون في القرم، بأنه قد يكون مناورة لعدم ترك القوات الروسية مكشوفة على الضفة الغربية لنهر دنيبرو الاستراتيجي في القرم. ستحاول روسيا من جانبها ربط قرار الانسحاب من الإقليم الذي ضمته إلى أراضيها قبل أسبوعين، بمتطلبات سياسية واقتصادية عاجلة توازن من خلالها هذا التراجع الميداني والعسكري على الأرض. لكن انسحاب القوات الروسية من خيرسون لن يكفي الرئيس الأميركي، لأنه متمسك بشرط عدم توقف القتال على الجبهات في أوكرانيا قبل انسحاب روسي كامل من هناك. هل سنرى قريبا مفاجأة عسكرية روسية جديدة وتخلياً آخر عن أحد الأقاليم الأوكرانية التي ضمتها روسيا إلى أراضيها، لتشجيع واشنطن أكثر على الذهاب إلى طاولة الحوار مع موسكو؟

تقول الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا سنعلن في قمة الدول العشرين المرتقبة عن خطوات جديدة في ملف نقل الحبوب الأوكرانية إلى الخارج وموسكو ستأخذ بعين الاعتبار مسألة عدم الالتزام بتنفيذ الوعود المقدمة لها في موضوع تسهيل خروج المواد الغذائية الروسية المحاصرة بمئات الأطنان.

ويقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن الثقة المتبادلة بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين فتحت الأبواب أمام المساهمة في تسوية العديد من الأزمات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها جهود التهدئة التركية بين موسكو وكييف ما الذي يعول عليه أردوغان في الأيام القليلة المقبلة خصوصا أن أصواتاً روسية عديدة تعلن عن مفاجآت في الملف الأوكراني بعد اللقاءات التركية الروسية على هامش أعمال مجموعة العشرين في بالي؟ وهل سيفتح بايدن الطريق أمام المزيد من التفاهمات وتبادل الهدايا التركية الروسية؟

بين الفرص الثمينة التي قدمتها الأزمة الأوكرانية لأنقرة دخولها الفوري والسريع على خط الوساطة بين دولتين تولي للعلاقات معهما أهمية بالغة. من الجهود الدبلوماسية على خط أنقرة -كييف – موسكو، إلى الوساطة في ملف الحبوب الأوكرانية وتسهيل نقلها من مستودعاتها إلى العالم الخارجي. وبعدها النجاح في ملف تبادل الأسرى بالمئات بين البلدين بتكتم وحذر. أنقرة تعد نفسها الآن وبالتنسيق مع الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش لتمديد أو تجديد اتفاقية إسطنبول للحبوب التي ينتهي مفعولها بعد أسبوع. ماراتون سياسي ودبلوماسي جديد ينتظرها كما يبدو في المرحلة المقبلة.

بوتين من جانبه لم يتأخر في عرض المزيد من الهدايا الاستراتيجية لأنقرة تقديرا لدورها وجهودها. “تركيا تستحق أن تكون مخزن الغاز الروسي ومستودع الحبوب التي تنوي موسكو تصديرها إلى الخارج”. هل بين أهداف بوتين عبر خطوات من هذا النوع فتح الطريق أمام أردوغان لتسريع وساطته والعمل على إعادة إحياء طاولة التفاوض السياسي بين طرفي النزاع بحضور الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش بعدما وجد أن بايدن لن يعطيه ما يريده أمام طاولة تفاوض ثنائية تنتظر منذ أشهر؟

لم يعد خافيا على أحد أن مناورة موسكو من خلال تجميد مشاركتها في اتفاقية إسطنبول للحبوب والعودة عن قرارها خلال 3 أيام فقط، كان بهدف تحضير الأجواء السياسية والعسكرية لنقاشات جديدة في التعامل مع ملف الأزمة الأوكرانية. هل يمكن الربط بين القرارين الروسيين في التجميد والإلغاء وبين قرار الانسحاب العسكري من مدينة خيرسون الأوكرانية؟ الإجابة قد تكون عند أنقرة التي قدمت ضمانات شفهية كما يبدو لطمأنة روسيا أن مطالبها في الإفراج عن حبوبها ستدرس بجدية مع الأمين العام للأمم المتحدة، طالما أنه والآخر ينظر بحماس وتفهم للمطلب الروسي بهذا الخصوص. الحراك التركي كان يهدف أيضا لإقناع بوتين بالتريث حتى انتهاء فترة اتفاقية إسطنبول والتحضير ربما لاتفاقية جديدة أو معدلة تتعامل بإيجابية مع المطالب الروسية. وربما لهذا السبب سمعنا الرئيس الروسي يقول إنه لم ينسحب من اتفاقية إسطنبول بل جمد مؤقتا المشاركة فيها، متجاهلا استمرار تنفيذ عمليات شحن الحبوب الأوكرانية في البحرالأسود على مسمع ومرأى موسكو.

بوتين وفريق عمله يريدان:

-لعب الأوراق التركية حتى النهاية للاستثمار في الخدمات التي تقدمها أنقرة لتخفيف اعباء وارتدادات الحظر والمقاطعة والعقوبات الغربية ضد روسيا أولا.

-ثم تشتيت وحدة الصف الأطلسي الهادف لتنسيق المواقف العسكرية ضد روسيا عبر محاولة تحييد تركيا نتيجة التداخل الجغرافي خصوصا في منطقة البحر الأسود وخط العبور الاستراتيجي الذي تحتاجه روسيا في منطقة المضائق ثانيا.

-وبعد ذلك الاستفادة من الفرص الاقتصادية التركية في ملفات الطاقة وتصدير المواد الغذائية الروسية إلى الخارج حتى ولو كانت بالمجان باتجاه فقراء آسيا وأفريقيا كما أعلنت موسكو ثالثا.

بقي التذكير بالمحاولات الروسية الواضحة للعب أوراق تركية وإيرانية في حربها مع أوكرانيا. لكن اللافت أكثر هو نجاح كلا الدولتين في لعبة موازنة الوقوف إلى جانب موسكو في ملفات سياسية وأمنية واقتصادية تتطلب حماية مصالحهما معها من جهة. وفي الوقت نفسه التنديد بخطوة التوغل الروسي في الأراضي الأوكرانية والأقدام على عملية ضم الأقاليم من جهة ثانية. هل ستنجح أنقرة وطهران في مواصلة تبني هذا الخط؟ وهل ستسمح موسكو والعواصم الغربية بمواصلته كما هو اليوم خصوصا أنه يفك قيود العزلة والمحاصرة الروسية ويتعارض مع قرارات المقاطعة الغربية في أكثر من مكان؟

بدأت القوات الروسية الانسحاب من إقليم خيرسون قبل أيام. بقيت ثلاثة أقاليم أوكرانية في القرم تحت الاحتلال.. من سيعيد لأوكرانيا أراضيها؟ القانون الدولي والأمم المتحدة أم الاصطفاف الغربي الداعم لكييف على كل الأصعدة؟ أم جهود الوساطة التي تبذلها بعض العواصم وفي مقدمتها أنقرة باتجاه إيجاد مخرج سياسي يرضي الطرفين؟

تلتفت موسكو بعين نحو فتح الطريق أمام أنقرة لتفعيل جهوده حراكها بين طرفي النزاع. لكن العين الروسية الأخرى هي باتجاه طاولة مفاوضات ثنائية وإقليمية مع واشنطن التي ما زالت تبحث عن فرص استنزاف روسيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا ولتجمع المزيد من أوراق القوة قبل الذهاب إلى طاولة التفاوض.

في لغة الدبلوماسية المعاصرة تتجاهل الدول استفزازات دول أخرى معها بالقول هي حادثة وقعت بالمصادفة. في المرة الثانية يقال أخطاء سيتم تلافيها. في المرة الثالثة تنتهي التبريرات والذرائع.. هو ترجيح وعليه تحمل النتائج.

———————————-

الانسحاب الجزئي الروسي من الأراضي السورية.. دلالاته وانعكاساته الميدانية/ فايز الأسمر

قبل أيام عدة دخلت المواجهات الدامية في الحرب الأوكرانية عمليا شهرها التاسع، حرباً بدأها الرئيس بوتين بشكل مفاجئ ومن دون مقدمات، وأعلن انطلاق أولى جولاتها بتاريخ 24/2 مع إطلاق اسم العملية الخاصة عليها رغم كل هذا الخراب والدمار الذي ألحقته بالمدن والبلدات الأوكرانية وبناها التحتية..؟!

عمليا فإن العملية الخاصة هذه، ومن خلال المتابعة والتحليل لأحداثها، وقراءة خريطتها الميدانية، وتبدلات المواقف القتالية والطارئة فيها، وإمكانية أن يجر العالم من خلالها إلى أتون حرب نووية أو عالمية ثالثة،  وعليه فإننا نستطيع القول بأن استراتيجيات هذه العملية وتكتيكاتها وأهدافها، بدأت تأخذ مساراتٍ أكثر دموية وعنفا، ودخول العمليات فيها مفترقات ومنعطفات خطيرة، وخاصة في الأسابيع والأيام الأخيرة، يأتي كل هذا بعد استهداف وتدمير جسر كيريتش (القرم)، هذا الجسر الاستراتيجي الهام الذي وكما نعلم أنه يربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم، ناهيك عن ترافق ذلك الاستهداف مع الخسائر الجسيمة التي مُنِيَ بها الجيش الروسي بالعدة والعتاد على جبهات عدة، واضطراره تحت الضغط للقيام بالتراجعات والانسحابات التكتيكية من مناطق استراتيجية كثيرة، وخسرانه لمساحات واسعة كان مسيطرا عليها مند بدايات العمليات، ويأتي على رأس تلك المساحات التي تم خسارتها مناطق في محيط “خاركييف” و إقليم “الدونباس”، شرقا و”خيرسون” على البحر الأسود جنوبا.، يقابل ذلك تمكن الجيش الأوكراني من استعادة آلاف الكيلومترات، ومئات المناطق والمواقع من خلال القيام بالعديد من الهجمات المعاكسة الخاطفة والناجحة، طبعا مستفيدا من إصراره والروح القتالية العالية لجنوده والإمدادات والأعتدة والأسلحة المتنوعة الحديثة، والمعلومات الاستطلاعية والاستخباراتية  المقدمة له ومن دون انقطاع من دول حلف الناتو.

حقيقة فإن انعكاسات الحرب ونتائجها السلبية المفاجئة وغير المتوقعة من قبل الجانب الروسي قد بدأت تظهر آثارها وتطفو ملامحها على السطح من خلال قراءة وتحليل المعطيات الآتية:

أولا: الخسائر الفادحة وغير المسبوقة بالأرواح والمعدات التي تكبدتها القوات الروسية الغازية والتي لم تعرف مثيلا لها منذ نهايات الحرب العالمية الثانية. 

ثانيا: اضطرار القيادة الروسية وهي القوة النووية الثانية في العالم للجوء إلى إيران والطلب منها شراء مئات من الطائرات المسيرة ذات الاتجاه الواحد من نوع شاهد 136 وصواريخ أرض أرض بأنواع وتسميات مختلفة لاستخدامها في حربها التي باتت تأكل نيرانها مخزونها الاستراتيجي..!؟.

ثالثا: إعلان الرئيس “فلاديمير بوتين” للمرة الأولى عن القيام بالتعبئة الجزئية، التي شملت في مرحلتها الأولى ما يقارب 300 ألف جندي للزج بهم في جحيم المعارك الدائرة.

رابعا: الاعتماد على مجموعات ومرتزقة “فاغنر” في بعض الجبهات والخطوط الأمامية، وخاصة في مناطق خاركييف، الدونباس باخموت، خيرسون. بعد أن تم سحبهم من مناطق الصراع في سوريا وليبيا ومناطق أخرى ينتشرون ويقاتلون فيها.

خامسا: حالة التخبط ومسلسل التغيير الدائم لقادة الجبهات و القطاعات، والذي بدأه الرئيس “بوتين” بتعيين الجنرال “ألكسندر دفورنيكوف” المعروف بـلقب “جزار سوريا” قائدا للعمليات في أوكرانيا، والذي انتهى به المطاف لاحقا للعزل، وتعيين الجنرال “سيرغي سوروفكين”، والمعروف باسم جنرال “هرمغدون” بديلا عنه في قيادة القوات الروسية في أوكرانيا، ومن الجدير ذكره وبحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش” غير الحكومية، فإن هذا الجنرال متورط في سوريا بعدة هجمات على مناطق سكنية وقصفه أخرى بالقنابل الكيميائية مع استهدافه الإجرامي للأسواق والمستشفيات.

سادسا: تشكيل القيادة الروسية ميليشيات مناطقية عديدة أو ما أطلق عليها “قوات الدفاع الإقليمي”، وذلك لمشاركة الجيش بالقتال والدفاع عن المناطق التي تم احتلالها.

سابعا: إعلان الأحكام العرفية في المناطق الأوكرانية الأربعة التي ضمها “بوتين” بالقوة للاتحاد الروسي وهي مناطق خيرسون، زباروجيا، لوغانسك، دونيتسك. واعتبار أن أي اعتداء على هذه المناطق يعد اعتداء على الأراضي الروسية ويتطلب الرد بكل أنواع الأسلحة.

ثامنا: اضطرار القوات الروسية لسحب ضباط وجنود من سوريا، حيث قدر عددهم بكتيبتين أي أكثر من 2000 جندي، إضافة للعديد من العتاد المدرع والسيار ومنظومات للدفاع الجوي من طراز S400 و S300 وعشرات الطائرات من طراز سو 34، سو29 وعدد من مروحيات كاموف 52 التمساح وذلك بعد تجميع كل هذه الكتل في قاعدتي حميميم وطرطوس لنقلهم جوا وبحرا إلى أوكرانيا.

في الواقع فإن سحب هذا العدد من القوات والعتاد من القواعد الروسية المنتشرة في سوريا وخاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، والخسائر الروسية الكبيرة فيها لم يكن مفاجئا للمتابعين والمهتمين بهذا الملف، لذلك فإن هذا الانسحاب الجزئي للقوات الروسية من الناحية العسكرية والتكتيكية لا أتصور أن يؤثر إلا بشكل لا يكاد يذكر على العمليات العسكرية الروسية في سوريا، فمن المعروف أن موسكو بالأساس لم تعتمد على أي قوات برية تتبع لها في العمليات التي قامت وتقوم بها، بل اعتمدت ومنذ تدخلها في سوريا في نهاية أيلول 2015 على سطوة سلاح  أسطولها الجوي في تنفيذ عمليات التدمير الممنهج وسياسة الأرض المحروقة التي مكنت قوات النظام الأسدي المجرم، وميليشيات إيران من استعادة غالبية المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة والفصائل، فكيف الآن وقد انحصر وانحسر نشاط الطيران الروسي على مناطق محدودة في إدلب والريف الشمالي لحلب فقط، والذي يكفيه عمليا سرب أو أكثر بقليل من الطائرات القاذفة والمقاتلة للقيام بالمهام التدميرية ذاتها.

إسرائيل من جهتها وكما أعلنت مرارا وتكرارا بأنها لن تسمح بـالتمدد الإيراني في سوريا، وأنها تعتبر هذا الوجود تهديدا مباشرا وخطيرا لأمنها القومي، كما أنها لن تسمح لإيران في توظيف واستخدام الأراضي السورية كجغرافيا عبور لتهريب الصواريخ الدقيقة والمسيرات إلى حزب الله في لبنان، ولذلك تابعنا ورغم الوجود الروسي قيام تل أبيب خلال السنوات الماضية ولاتزال بشن مئات الغارات الجوية والصاروخية على الأهداف الإيرانية المنتشرة في سوريا. أما الآن فإسرائيل ترى أن الانسحاب الجزئي الروسي من سوريا هو “فرصة وتهديد” في الوقت ذاته، أما “الفرصة” فهي التي ستسمح لتل أبيب بزيادة وتكثيف استهدافاتها للميليشيات الإيرانية من دون حسيب أو رقيب أو الدخول في أية حسابات أخرى، وأما “التهديد” فتخشى “إسرائيل” من أن تغتنم أذرع وميليشيات إيران فرصة الغياب الجزئي الروسي لزيادة نشاطاتها والتمدد العلني على الحدود الأردنية وحدود الجولان المحتل واقترابها من خطوط إسرائيل الحمراء.

إيران من جهتها تنتظر هذه الفرصة لملء الفراغ الذي خلفه انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا، ولذلك بدأت ميليشياتها ومنذ فترة بالسعي للتمدد أكثر وأكثر في مناطق جديدة أخلتها القوات الروسية، مثل مناطق عدة في الساحل السوري، ودرعا والقنيطرة وحدود الأردن، وشرقي الفرات في مدينتي الحسكة والقامشلي، ومحيطهما وقرب الحدود التركية بعد أن كانت ممنوعة عنهم في ظل الوجود الروسي القوي فيها.

ختاما.. لاشك أن الانسحاب الجزئي والتدريجي الروسي من الأراضي السورية في هذا الوقت سيخلط أوراقا كثيرة، وسيزيد من تعقيدات الصراع، وسيحدث فراغا أمنيا خاصة على الحدود الجنوبية الاردنية وهذا الأمر ولاعتبارات وأسباب عدة ما تخشاه الأردن حكومة وشعبا، ناهيك عن أن هذا الانسحاب سيعني بشكل أو آخر زيادة في النفوذ الإيراني وزيادة أخرى في الاستهدافات الإسرائيلية كماً ونوعاً. 

—————————–

هذه الخطوط العريضة لصفقة تستطيع إنهاء حرب أوكرانيا/ جورج فريدمان

طلبت الولايات المتحدة من أوكرانيا الانفتاح على المفاوضات مع روسيا، وفقًا لتقرير سربه المسؤولون الأمريكيون بعناية على الأرجح.

ونظرًا لأنه لا يوجد أحد في الإدارة الأمريكية ينكر التقرير، فمن المفترض أن يؤخذ الأمر على محمل الجد من قبل الأوكرانيين (لا تطلب الولايات المتحدة منهم التفاوض ولكن فقط الانفتاح على التفاوض).

يشار إلى أنه تمت دعوة الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لحضور قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا لكن الكرملين أكد أنه لن يحضر لأن جدول أعماله يحول دون ذلك، ولا يعتزم توجيه رسالة عبر الفيديو خلال القمة.

ويرسم رفض الحضور صورة لـ”بوتين” باعتباره غير مرن ومسؤولا عن التوتر، وكان الحضور وإبداء الاستعداد للقاء مع خصومه سيخلق توقعًا لبعض التقدم. وإذا لم يرغب أي من الجانبين في حرق الجسور، فسيتم إصدار إعلان مقتضب بشكل ودي.

ويبدو أن التسريب حول أوكرانيا كان محاولة لتشجيع “بوتين” على حضور القمة. ويبقى السؤال هو ما إذا كان سيغير رأيه ويحاول إنهاء الحرب على أوكرانيا.

ولن يقبل الأوكرانيون عن طيب خاطر اتفاقًا إلا إذا انسحبت روسيا من جميع أنحاء أوكرانيا ودفعت تعويضات. وهذا لن يحدث. لكن بدون الولايات المتحدة، سيكون من الصعب عليهم مواصلة الحرب. والمشكلة في هذه الحرب أنها لن تذهب إلى أي مكان ولن تنتهي.

وبالرغم من تراجع روسيا في ساحة المعركة، فإنها بعيدة بعيد كل البعد عن الاستسلام. وكانت الرسالة الموجهة إلى أوكرانيا هي: يمكنك تحقيق المزيد من الانتصارات أو قد لا تحقيقها، لكن فرصك في هزيمة الروس بشكل كامل منخفضة للغاية بحيث لا يمكنك المراهنة عليها.

في الوقت نفسه، تحولت هذه الحرب إلى كابوس روسي، ولن تسير على الإطلاق كما كانت موسكو تأمل، لكن روسيا تريد خروجاً لا يبدو كأنه هزيمة.

ويجعل كل ذلك التوصل إلى اتفاق أمرا شديد الصعوبة، لكن هناك صفقة قد تنجح، وهي تشمل ما يلي:

1. تسحب روسيا كل القوات.

2. تسحب الولايات المتحدة كل دعمها العسكري لأوكرانيا.

3. يضمن الناتو عدم قبول أوكرانيا كعضو.

4. إنشاء صندوق لإعادة بناء أوكرانيا تحت إشراف الأمم المتحدة باستخدام تبرعات من الناتو وروسيا.

لكن ذلك لن يمنع هذا روسيا من غزو أوكرانيا مرة أخرى في وقت لاحق، ولكن سيمر بعض الوقت قبل أن يكون لديها الرغبة في القيام بذلك. ولا أعرف على وجه التحديد ما هي الصفقات التي تريد واشنطن أن تنظر فيها كييف، لكن هذا احتمال.

وكان حضور “بوتين” قمة مجموعة العشرين سيشير إلى استعداده للتجاوب مع صفقات من هذا النوع من أجل إنهاء الحرب، لكن يبدو أن الطريق إلى بدء التفاوض ما يزال بعيدا.

ويبدو أن “بوتين” يرى أن القمة ليست المكان المناسب لتقديم التنازلات أو حتى الحديث حول الصفقات المتعلقة بإنهاء الحرب. لكن في كل الأحوال يجب أن ندرك جيدا أن “بوتين” لن يقبل الخروج بمظهر المهزوم.

وقد تستعيد أوكرانيا معظم الأراضي التي سيطر عليها الروس لكنها ستظل تخشى من تعرضها لغزو روسي واسع مرة أخرى. في غضون ذلك سيواصل الأمريكيون فعل الشيء المعتاد: إثارة العداءات بين الطرفين.

المصدر | جورج فريدمان | جيوبوليتكال فيوتشرز – ترجمة وتحرير الخليج الجديد

——————————

أوكرانيا تشعل خلافاً داخل أجنحة الإدارة الأميركية/ عيسى نهاري

يرى مراقبون أن الرسائل المتضاربة التي تبعث بها واشنطن عبر المحادثات السرية مع موسكو ودعم كييف عسكرياً تدل على أن حكومة بايدن في مرحلة تجهيز طاولة المفاوضات تمهيداً للجلوس إليها

دخلت الحرب الروسية – الأوكرانية شهرها التاسع وما زالت الولايات المتحدة تحشد قوتها الدبلوماسية والعسكرية لمساعدة كييف في حربها على روسيا، في دعم لافت حظي بتوافق نادر بين الجمهوريين والديمقراطيين، إلا أن أصواتاً من الحزبين تعالت في الآونة الأخيرة تطالب بعدم إهمال الدبلوماسية في المقاربة الأميركية لمنع نشوب صراع أوسع في أوروبا.

تلك الأصوات المنادية بالدبلوماسية حلاً للحرب التي يخشى العالم توسعها لاقت صدى لدى رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة مارك ميلي، الذي أبدى خلال اجتماعات داخلية دعمه المساعي الدبلوماسية لإنهاء الحرب، والضغط على أوكرانيا لتعزيز مكاسبها على أرض المعركة من خلال التفاوض مع الروس.

وبحسب “نيويورك تايمز” برز الجنرال ميلي كأحد أكثر الداعمين للحل السياسي خلال نقاشات البيت الأبيض، ودافع عن رؤيته موضحاً بأن هدوء القتال المتوقع في الأشهر المقبلة مع قدوم الشتاء يمثل فرصة للمحادثات بين طرفي الحرب. وحذر ميلي من أن صور الأقمار الاصطناعية تظهر أن الروس يحفرون الخنادق ويؤسسون لخطوط ثابتة عبر معظم الأراضي التي سيطروا عليها استعداداً لفصل الشتاء، مما يعكس أن الانسحاب الروسي من خيرسون، إحدى المدن الأوكرانية الأربع التي احتفل فلاديمير بوتين بضمها، كان تكتيكياً لإقامة موقف دفاعي أقوى.

بين رؤيتين

لكن مقاربة كبير الجنرالات الأميركيين لإنهاء الحرب لم تلق تأييداً لدى مستشاري الرئيس جو بايدن، الذين يرون أن الجانبين غير مستعدين للتفاوض، وأن توقف القتال سيمنح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة لإعادة تنظيم صفوفه. ولا يرى مساعدو الرئيس الأميركي ترددهم حيال المفاوضات متعارضاً مع دعمهم المعلن لإنهاء الحرب عبر القنوات الدبلوماسية، فهم يقولون إن الحرب ستنتهي في نهاية المطاف عبر المفاوضات، إلا أن اللحظة لم تحن بعد، ولذلك يجب ألا تظهر الولايات المتحدة وكأنها تضغط على الأوكرانيين للتراجع.

وتجنب ميلي الإعلان عن آرائه حتى لا يظهر وكأنه يضعف موقف الحكومة الأوكرانية التي ترفض المفاوضات قبل تحرير أراضيها من القوات الروسية، إلا أن آراءه لم تبق حبيسة الغرف المغلقة في البيت الأبيض، إذ خرج الخلاف بين أجنحة الحكومة الأميركية إلى العلن في الأيام الماضية بعد أن أطل الجنرال المخضرم من نيويورك الأربعاء الماضي، وقال “اغتنموا اللحظة”، في إشارة إلى الانتصارات العسكرية الأوكرانية والانتكاسات الروسية المتتابعة بعد قرابة تسعة أشهر من اندلاع الحرب بين البلدين.

وأتبع ميلي دعوته للتفاوض بين الأوكرانيين والروس بالتأكيد أن القتال وصل إلى طريق مسدود. وأوضح في مقابلة يوم الخميس الماضي على قناة “سي أن بي سي” بأن ما يحمله المستقبل مجهول ولا يمكن التنبؤ به، إلا أن هناك فرصاً للتوصل إلى حلول دبلوماسية للصراع.

واستشهد ميلي خلال خطابه في النادي الاقتصادي في نيويورك بالحرب العالمية الأولى عندما انخرط الطرفان في حرب خنادق امتدت لسنوات، قتل خلالها الملايين من الضحايا من دون تغيير كبير على الأرض. ووصف مسؤولون أميركيون وجهة نظر الجنرال قائلين “إن الهدف ليس مكافأة السيد بوتين، لكن ربما يكون هذا هو الوقت الذي يمكن فيه لأوكرانيا وحلفائها العمل على حل سياسي، لأن الحل العسكري قد لا يكون ممكناً في المستقبل القريب”.

على رغم أن مستشار الأمن القومي جيك سوليفان عقد محادثات سرية مع كبار مساعدي الرئيس الروسي لاحتواء الأزمة بحسب تقارير أخيرة، فإن كبار مساعدي الرئيس الأميركي ومنهم سوليفان لا يبدو عليهم الرغبة في الضغط على كييف. قال سوليفان في وقت سابق إن “الولايات المتحدة لا تمارس ضغوطاً على أوكرانيا”، مشيراً إلى أن ما تفعله بلاده هو التشاور معها كشركاء، وإظهار الدعم لكييف ليس عبر الخطابات العامة فحسب، ولكن من خلال الدعم الملموس كالمساعدات العسكرية.

وترجمت واشنطن دعمها المستمر لأوكرانيا بإرسال مساعدات عسكرية كان آخرها حزمة سلاح بقيمة 400 مليون دولار، تشمل أنظمة دفاع جوي من طراز “أفينجر”، ومدرعات همفي، وذخائر لأنظمة صواريخ “هيمارس” التي أثبتت فعاليتها في صد الروس، وتعتبر هذه الحزمة الـ25 التي تقدمها الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، لكن الدعم الأميركي لأوكرانيا ليس على إطلاقه، إذ رفض “البنتاغون” طلبات أوكرانية للحصول على طائرات “درون” المتطورة من نوع “غراي إيغل”، خشية استخدامها لقصف الأراضي الروسية، مما يهدد بتصعيد الحرب.

رسائل متضاربة

ويزيد الخلاف الحالي داخل الحكومة الأميركية الغموض حول موقف واشنطن من المفاوضات بين الروس والأوكرانيين، وسط رسائل واشنطن المتضاربة بين تأكيدها الحل السلمي ونفيها ممارسة أي ضغوط على أوكرانيا للجلوس إلى طاولة المفاوضات.

وذكرت “نيويورك تايمز” بأن زيارة سوليفان إلى كييف الأسبوع الماضي تركت لدى البعض انطباعاً بأن إدارة بايدن حاولت حث الرئيس زيلينسكي على إظهار استعداده للتفاوض، لكن المسؤولين الأميركيين نفوا ذلك، مشيرين إلى أنه في نهاية الاجتماع اكتفى سوليفان بدعوة الرئيس الأوكراني إلى التفكير في ما قد يبدو عليه “السلام العادل” بين طرفي الحرب عندما يحين الوقت للمفاوضات.

الغموض حول موقف واشنطن عززته تصريحات الرئيس بايدن الأربعاء الماضي، عندما أجاب عن سؤال حول ما إذا كان يعتقد أن على أوكرانيا الدخول في مفاوضات مع روسيا، قائلاً إن إدارته لا تزال تنظر في ما “إذا كانت تستطيع الفصل في مسألة استعداد أوكرانيا للتسوية مع روسيا من عدمه”. ولدى سؤاله عما إذا كان يقترح على أوكرانيا التنازل عن بعض أراضيها، سارع بايدن بالرفض، قائلاً إن “الأمر متروك للأوكرانيين”. وأكد أن واشنطن “لن تملي عليهم ما يتعين عليهم فعله”.

إدارة بايدن تجهز الطاولة

لكن بالنسبة إلى تشارلز كوبشان الأستاذ بجامعة “جورج تاون”، مستشار باراك أوباما للشؤون الأوروبية سابقاً، فإن رسائل إدارة بايدن المتضاربة تدل على أنها تختبر إمكانية إدخال الدبلوماسية في نهجها، من دون أن تملي على الأوكرانيين ما يجب فعله. وأضاف واصفاً المرحلة الحالية “إنها تجهيز للطاولة، لا الجلوس إليها”.

ويعد كوبشان من الداعين إلى المسارعة في إنهاء الحرب الأوكرانية حتى لا تتوسع إلى صراع عسكري بين روسيا و”الناتو”، إذ حذر المسؤول السابق في مقالة أخيرة من تصاعد الحرب، وتقدم أوكرانيا في ساحة المعركة وإصرارها المتزايد على إخراج القوات الروسية من أراضيها، في الوقت الذي يعزز فيه الكرملين قواته المحاصرة في شرق أوكرانيا، ويضرب المدن الأوكرانية والبنية التحتية الحيوية، ويلمح إلى استخدام الأسلحة النووية.

واعتبر كوبشان دفاع أوكرانيا بمساعدة الغرب عن سيادتها “ملهماً”، إلا أنه حذر من أن أخطار اندلاع حرب أوسع بين “الناتو” وروسيا وحدوث انتكاسة اقتصادية قد تقوض الديمقراطية الغربية تتزايد يوماً بعد يوم، داعياً الولايات المتحدة وحلفاءها إلى “مشاركة بشكل مباشر في تشكيل الأهداف الاستراتيجية لأوكرانيا وإدارة الصراع والسعي إلى حل دبلوماسي يضمن نهاية الحرب”.

وقال “تتطلب الأخطار المتزايدة التي يواجهها الغرب في أوكرانيا مشاركة الولايات المتحدة وشركائها في الناتو بشكل أكبر في إدارة الحرب وتجهيز طاولة (المفاوضات)”. وأضاف “مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها تستحق جهداً كبيراً، لكن يجب ألا يقود ذلك إلى حرب عالمية ثالثة أو تمزق الديمقراطية الغربية”.

دعوة للثقة في أوكرانيا

في الضفة الأخرى، ينتقد مراقبون ومسؤولون سابقون المطالب المتزايدة بإجراء محادثات بين موسكو وكييف، إذ يرفض بعضهم المراهنة على فشل أوكرانيا في استعادة مزيد من أراضيها من الروس.

وحث دانييل فرايد وهو دبلوماسي أميركي سابق يعمل حالياً في المجلس الأطلسي الولايات المتحدة وشركاءها الأوروبيين على عدم الاستعجال في منع أوكرانيا من تحقيق مزيد من الانتصارات العسكرية، من خلال الإصرار على وقف إطلاق النار أو عبر الافتراض أن تحرير أوكرانيا لدونباس أو حتى شبه جزيرة القرم مستحيل.

وتتسق وجهة النظر هذه مع تصريحات الرئيس زيلينسكي ومساعديه الذين أكدوا مرة أخرى هذا الأسبوع أن محادثات السلام مع روسيا لا يمكن أن تبدأ حتى تنسحب القوات الروسية وتعيد الأراضي التي احتلتها.

إلا أن بعض المراقبين لفتوا إلى تغير في نبرة الرئيس الأوكراني على نحو قد يعزز من فرص الانخراط في المفاوضات، مشيرين إلى أن زيلينسكي لم يكرر التصريحات السابقة التي مفادها أن المحادثات غير ممكنة طالما كان بوتين يحكم روسيا.

وتلقى الهجمات الأوكرانية المستمرة ضد المواقع الروسية دعماً في أوساط الأوكرانيين، وقد قوبل بحسب “نيويورك تايمز” كل إعلان عن انتكاسات روسية بفيض من الحماس العام. وحتى قبل التقدم العسكري الأوكراني الأخير يتعرض زيلينسكي لضغوط سياسية شديدة لرفض أي تنازل عن الأراضي الأوكرانية.

تحذير من تدخل واشنطن

وفيما تطفو الخلافات داخل الحكومة الأميركية إلى السطح، قال مسؤولون أميركيون إن بايدن وسوليفان لا يشاركان رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة مقاربته لحل الحرب بين موسكو وكييف، مبررين ذلك بعدم إظهار بوتين استعداده للتفاوض، إضافة إلى النجاح الأوكراني في ساحة المعركة الذي جعل الأوكرانيين مترددين في شأن التفاوض على التخلي عن أراضيهم.

ويرى سوليفان بحسب مصادر “نيويورك تايمز” أنه لو دفعت الولايات المتحدة أوكرانيا إلى التفاوض في هذه المرحلة، فإن ذلك سيرسل رسالة إلى بوتين مفادها أن “كل ما عليه فعله هو إطالة أمد الحرب قليلاً، وفي النهاية سيقوم الأميركيون بعمله نيابة عنه”.

وفي سياق متصل، حذر ستيفن بيفر السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا من أن تضغط واشنطن على الرئيس الأوكراني للتفاوض مع روسيا. وقال إن القرار يجب أن يكون متروكاً لزيلينسكي وحكومته، مشيراً إلى أن “واشنطن حتى الآن تتفهم ذلك كما يبدو”.

اندبندنت عربية

——————————-

سلاح أميركي ساهم في حسم معركة خيرسون… ماهو؟

أفاد تقرير صحفي بأن الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، نقلت سلاحاً ثميناً إلى ساحة المعركة الروسية – الأوكرانية منذ 3 أشهر، ولعب هذا السلاح دوراً حاسماً في الأيام الأخيرة، خلال معركة استعادة مدينة خيرسون من القوات الروسية.

وقالت صحيفة “نيويورك تايمز” إن هذا السلاح لم يكن قاذفة صواريخ أو مدفعاً أو أي نوع آخر من الأسلحة الثقيلة، التي سلّمها الغرب لأوكرانيا، بل كان برنامجاً ذكياً أو نظاماً معلوماتياً، لتتبع تحركات الجيش الروسي، يُعرف باسم “دلتا”.

وأكدت الصحيفة، نقلاً عن مسؤولين عسكريين، أن هذا البرنامج لم يستعمل بفاعلية كاسحة إلا قبل أيام، خلال تقدم الجيش الأوكراني نحو مدينة خيرسون. وفتح استخدام هذا السلاح الأعين على أهميته، وعلى إمكانية أن يؤدي إلى رسم شكل الحروب المستقبلية على الأرجح.

وأضاف تقرير الصحيفة أن الحرب في أوكرانيا تحولت إلى ساحة اختبار لأسلحة جديدة، بعضها ذكي ومتطور، من بينها قوارب سطحية مسيّرة أميركية، ونظام دفاع جوي مضاد للطائرات من دون طيار، يُعرف باسم “سكاي ويبرز”، وهو نسخة محدَّثة من نظام دفاع جوي تبنيه ألمانيا، لم يستخدمه الجيش الألماني نفسه بعد.

ورغم عدم معرفة عدد تلك الأنظمة التي أُرسلت إلى أوكرانيا، أعلنت ليتوانيا أنها أرسلت 50 منها في آب (أغسطس) الماضي. وبدا واضحاً أن الدول المعنية، خصوصاً دول حلف الـ”ناتو”، تحاول الاستفادة من الحرب الأوكرانية لتطوير ترسانتها العسكرية، علماً بأن بعض الأسلحة التي سُلِّمت إلى أوكرانيا تضمنت في معظمها إصدارات محدثة ومتطورة من الأسلحة القديمة من الصواريخ الموجهة متوسطة المدى ومنصات إطلاق الصواريخ، من بينها منظومة “إيريس – تي” الألمانية، المضادة للهجمات الصاروخية الروسية. وطوِّرت هذه المنظومة عام 2015 لكن الجيش الألماني لم يستخدم النسخة المحدثة منها، والتي شُحنت الشهر الماضي إلى أوكرانيا.

تجديد المخزونات الصاروخية

وحذّر مسؤول السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، اليوم الثلثاء، من أن أوروبا قد تدخل في سباق تنافسي لتجديد مخزونات الأسلحة بعد تقديم الكثير منها إلى أوكرانيا العام الماضي.

وقال بوريل من بروكسل: “الأمر المهم هو أن نتكاتف، ونتجنب انقسام السوق، ونتفادى المنافسة”. وأضاف أنه يتعين تحاشي الوصول إلى وضع مماثل لما كان عليه الحال خلال جائحة “كوفيد – 19″، حينما تسابقت دول الاتحاد الأوروبي لشراء اللقاحات لصالحها، دون الآخرين. وأضاف “الجميع معاً، جميعاً نتيح أسعاراً أفضل وجودة أفضل ووقتاً أفضل”.

وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية أن الجيش الأميركي منح بداية الشهر الجاري خيارات عقود متعددة بقيمة 521 مليون دولار تقريباً لشركة “لوكهيد مارتن”، لإنتاج أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة الموجهة “جي إم إل آر إس”، من أجل “تجديد المخزونات” التي قدّمها إلى أوكرانيا.

وفيما أكد البنتاغون أن توقيع عقد شراء تلك المنظومات الصاروخية، يعد جزءاً من الاعتماد التكميلي لأوكرانيا”، قال وكيل وزارة الدفاع للاستحواذ والاستدامة ويليام لابالانت: “تُظهر هذه المنظومات التأثير الكبير الذي تُحدثه في ساحة المعركة كقدرة قتالية حيوية لشركائنا الدوليين”.

وبدوره قال مساعد وزير الجيش للمقتنيات واللوجيستيات والتكنولوجيا دوغلاس بوش،  إن هذا العقد “يتيح لنا تجديد مخزوننا مع توفير القدرات الحيوية لحلفائنا وشركائنا الدوليين، ويؤكد التزامنا بإبرام العقود في أسرع وقت ممكن لضمان تجديد مخزوننا بسرعة”.

وتعتزم بريطانيا، تخصيص 4.2 مليار جنيه إسترليني (4.9 مليارات دولار) لشراء خمس فرقاطات جديدة من مجموعة “بي إيه إي سيستمز” البريطانية العملاقة، سعياً لتعزيز الأمن “في مواجهة تزايد التهديدات الروسية”، حسبما أعلن رئيس الوزراء ريشي سوناك . وأكد سوناك في بيان صادر عن “داونينغ ستريت” أن “المملكة المتحدة وحلفاءها يتخذون الخطوات لتعزيز أمنهم في مواجهة تهديدات روسية متزايدة”. وأضاف أن “أفعال روسيا تضعنا جميعاً في خطر، وبينما نقدّم للشعب الأوكراني الدعم الذي يحتاج إليه، فنحن نسخّر أيضاً اتساع وعمق خبرة المملكة المتحدة لحماية أنفسنا وحلفائنا. وهذا يشمل بناء الجيل المقبل من السفن الحربية البريطانية”.

ويمثّل هذا المبلغ المرحلة التالية من برنامج يجري بموجبه حالياً بناء ثلاث سفن. ويُتوقع الانتهاء من بناء الفرقاطات الثماني بحلول منتصف 2030، وأكدت مجموعة “بي إيه إي سيستمز” في بيان منفصل طلبية شراء خمس فرقاطات إضافية طراز “سيتي كلاس تايب 26”. وأضافت أن الطلبية ستوفر أربعة آلاف وظيفة في كل أقسام الشركة وسلسلة الإمداد.

النهار العربي

——————————

استعداداً لإغراق أوروبا باللاجئين.. بوتين يتيح دخول روسيا بلا تأشيرة

إسطنبول- تلفزيون سوريا

منذ غزوها الأراضي الأوكرانية في الـ24 من شباط الماضي، وجّهت روسيا العديد من التهديدات إلى دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة بعد شعورها المتنامي باستحالة نصرها “السريع” الذي كانت تسعى إلى تحقيقه، وخساراتها المتلاحقة على جبهات شرقي وجنوبي أوكرانيا.

وبعد إدراكه التعقيدات المرتبطة بتهديدات قطع إمداد الغاز الروسي أو استخدام الترسانة النووية الروسية وغيرها، نتيجة انعكاس آثارها السلبية والمدمّرة على روسيا أيضاً، يركّز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم على التهديد الأكثر قلقاً بالنسبة للغرب الأوروبي، والمتمثل بموجات اللاجئين.

فبعد التقرير الذي أوردته صحيفة “بيلد” الألمانية قبل عدة أيام، وكشفت فيه عن خطة بوتين التي تقضي بدفع موجة جديدة من اللاجئين باتجاه دول الاتحاد الأوروبي عبر الأراضي الروسية؛ ذكرت المصادر الروسية أن بوتين أوعز للحكومة ووزارتي الخارجية والداخلية وجهاز الأمن الفيدرالي بإعداد مقترحات لإنشاء نظام لدخول الأجانب إلى روسيا من دون تأشيرات.

لجوء

هل يفتح بوتين طريق لجوء جديداً للسوريين انطلاقاً من روسيا؟

وبحسب وكالة “تاس

” الروسية، فقد ورد في قائمة التعليمات التي أعقبت اجتماع هيئة رئاسة مجلس الدولة أمس الأربعاء: “إعداد وتقديم مقترحات لإنشاء نظام لدخول مواطنين أجانب من دون تأشيرة إلى روسيا للسياحة والأعمال التجارية والأغراض التعليمية، وكذلك للمشاركة في الألعاب الرياضية والأحداث الثقافية (بصرف النظر عن مبدأ المعاملة بالمثل)”.

وجاء في القائمة أيضاً أن الرئيس الروسي أمر “بإعداد وتقديم مقترحات لتجديد التأشيرة الإلكترونية لمواطني الدول الأجنبية غير المدرجة في قائمة الدول غير الصديقة التي ترتكب أعمالاً غير ودية ضد روسيا والكيانات القانونية والأفراد الروس”.

وأضافت الوكالة الروسية أن بوتين أوعز للحكومة أيضاً، إلى جانب وزارة الخارجية ووزارة الداخلية وجهاز الأمن الفيدرالي، بالنظر في زيادة حركة الطيران مع الدول غير المدرجة في قائمة الدول غير الصديقة.

خطة دفع اللاجئين باتجاه أوروبا عبر “كالينينغراد”

وعلى غرار ما فعله نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو قبل نحو عام، حين دفع بآلاف الأشخاص القادمين من الشرق الأوسط نحو دول أوروبا الغربية؛ قالت صحيفة “بيلد”

 الألمانية في تقريرها المنشور في الـ 21 من تشرين الأول الفائت، إن بوتين بصدد تشكيل موجة جديدة من اللاجئين ودفعهم نحو أوروبا عبر مدينة كالينينغراد في شمال غربي روسيا، تلك المدينة التابعة للاتحاد الروسي بالرغم من عدم وجود حدود واضحة تربطها مع الأراضي الروسية، وتحيط بها كل من بولندا ولتوانيا وبحر البلطيق.

وبحسب التقرير، فقد تم بالفعل فتح مطار (خرابروفو) في المدينة المذكورة أمام الرحلات الجوية من جميع أنحاء العالم منذ مطلع تشرين الأول الجاري، وفقًا لهيئة الطيران الروسية.

روسيا تهدد أوروبا بموجة لاجئين سوريين جديدة

روسيا تهدد أوروبا بموجة جديدة من اللاجئين السوريين

ورأت الصحيفة الألمانية أن فتح المطار يعني السماح للطيران من دول “صديقة” مثل تركيا وسوريا وبيلاروسيا بالهبوط الآن في كالينينغراد الملاصقة لغربي أوروبا.

الضغط الروسي بموجة اللاجئين

ونقل التقرير عن الخبير الروسي في مركز الأبحاث البولندي “الاستراتيجية والمستقبل”، ماريك بودزيس، قوله إن “روسيا تحضّر العديد من الأدوات التي يمكن استخدامها ضد الاتحاد الأوروبي”.

وأوضح أن الخطوة الأولى تتمثل بالتهديد الصاروخي الحالي ضد المواطنين الأوكرانيين، بهدف إطلاق موجة جديدة من الهجرة من أوكرانيا إلى بولندا. وأضاف: “إذا تمكنا من إطلاق موجة أخرى من كالينينغراد إلى بولندا في الوقت نفسه، فإن روسيا يمكنها أن تزيد الضغط”.

من جهته، قال خبير الأمن البولندي وخبير كالينينغراد في جامعة (وارميا-ماسوريا) في أولشتين، البروفيسور كرزيستوف أوغوتا: “أمرت هيئة الطيران الروسية بفتحات إضافية للرحلات الجوية إلى كالينينغراد من الشرق الأوسط وأفريقيا، مثل إثيوبيا أو السودان”.

وأضاف: “كالينينغراد لا يمكن أن تكون جذابة للسياح من هذه البلدان. لذلك ليس لدي أدنى شك في أن روسيا تستعد لحركة هجرة جديدة من كالينينغراد إلى الاتحاد الأوروبي”، وفق التقرير.

ما مدى استعداد بولندا؟

ويحذر بودزيس من أن “الحدود بين بولندا وكالينينغراد طويلة وسهلة العبور، حيث يتمركز معظم حرس الحدود البولنديين على الحدود البيلاروسية. هناك حفرة مفتوحة على الحدود مع كالينينغراد”.

وقال إن معظم اللاجئين يرجح أن يأتوا من سوريا وتركيا، التي تعمل كمركز لجميع لاجئي البحر الأبيض المتوسط.

ويصف البروفيسور أوغوتا بأن “الحدود الروسية البولندية طبيعية جداًَ وقليلة الغابات”، مضيفاً: “يمكننا أن نلاحظ الظروف الجيدة للهجرة غير الشرعية هناك. السياج على الحدود البولندية الروسية ليس بجودة السياج الجديد على الحدود البولندية البيلاروسية”.

النظام وروسيا يحذران الاتحاد الأوروبي من أزمة لجوء جديدة

وكانت المتحدثة باسم حرس الحدود البولندي الملازم آنا ميشالسكا قد صرحت في وقت سابق للمنصة الإخبارية البولندية (WP) بأنه “في الوقت الحالي لا نلاحظ أي حوادث تتعلق بعبور غير قانوني للحدود على الحدود البولندية الروسية إلى منطقة كالينينغراد”

وتابعت: “لكن، وبعد تجربة أزمة الهجرة على الحدود مع بيلاروسيا، نحن مستعدون لكل السيناريوهات”، بحسب ما نقلت الصحيفة الألمانية.

المدن

———————–

====================

تحديث 17 تشرين الثاني 2022

———————————

الأفول الروسي الخطير: لن يسقط الكرملين من دون قتال/ أندريا كيندال- تايلور و مايكل كوفمان

في احتفال أقيم في البيت الأبيض في 9 أغسطس (آب) بعد أيام من مصادقة مجلس الشيوخ في تصويت كاد يكون بالإجماع على توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليشمل فنلندا والسويد، سلط الرئيس الأميركي جو بايدن الضوء على الكيفية التي يؤدي بها الغزو الروسي لأوكرانيا إلى نتائج معاكسة لما أراده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وأعلن بايدن “أنه يحقق تماماً ما لا يريده”. وأضاف “أراد فنلدنة [جعلها محايدة مثل فنلندا] الناتو، لكنه يرى الآن أن الناتو هو الذي صبغ فنلندا بصبغته، إلى جانب السويد”. والحق أن غزو روسيا لأوكرانيا كان خطأ استراتيجياً فادحاً أدى إلى إضعاف روسيا عسكرياً واقتصادياً وعلى المستوى الجيوسياسي.

والهجوم الأوكراني المضاد في خاركيف في سبتمبر (أيلول)، أدى إلى إبراز حجم الخطأ الذي ارتكبه بوتين. فتفاقم إنهاك القوات الروسية واستنزفت طاقتها، وفقدت الزخم في المعركة، وانتزعت أوكرانيا زمام المبادرة، ووجهت ضربة حاسمة للجيش الروسي.

وكشفت نجاحات أوكرانيا في الميدان مدى التعفن في جيش بوتين. فالروح المعنوية في الحضيض، والروح القتالية متردية، ونوعية القوات هزيلة. ومع ذلك، بدلاً من التخلي عن غزو أوكرانيا، كان رد بوتين إصدار الأمر بتعبئة عسكرية جزئية أي زج المزيد من الجنود في أتون الحرب، وفرض عقوبات أشد صرامة على الجنود الذين يفرون أو يستسلمون، والمضي في عملية الضم غير القانوني لأربع مناطق أوكرانية.

أما جوابه عن تراجع حظوظه في أوكرانيا فكان شبيهاً بما فعله حيال تقلص دوره على المسرح الدولي. فهو كان نصيبه ضئيلاً في بادئ الأمر، وعلى رغم ذلك ضاعف رهانه المحفوف بالأخطار [وبدلاً من محاولة تقليص خسارته الأولى ضاعفها]. ووقع وقع المفاجأة على بوتين تسريع الحرب ظواهر بادية منذ وقت طويل تفاقم تراجع روسيا وتنذر بتعاظم  أفولها. فأوروبا تنزع إلى تقليل اعتمادها على روسيا، ما يؤدي إلى اضمحلال نفوذ روسيا في القارة وتناقص إيراداتها الحكومية التي تعتمد بشكل كبير على صادرات الطاقة.

والعقوبات الدولية غير المسبوقة والقيود على التصدير تقلص وصول روسيا إلى رأس المال والتكنولوجيا، ويؤدي هذا بدوره إلى تخلف موسكو أكثر في مجال الابتكار. وجادلنا قبل عام، في هذه الصفحات، بأن التقارير التي تفيد بتراجع روسيا مبالغ فيها، وأن روسيا تملك مقومات البقاء قوة ثابتة، أي للاستمرار دولة تواجه تحديات هيكلية لكنها لا تتخلى عن هدفها تهديد الولايات المتحدة وحلفائها، ولا تفتقر إلى القدرات اللازمة لتنفيذ هذا التهديد. وسلط غزو بوتين الكارثي الضوء على أخطار استبعاد تهديد من جانب روسيا، لكنه سرع تدهور البلاد. واليوم، تبدو التوقعات البعيدة المدى في شأن روسيا أكثر قتامة بالتأكيد.

وفي ضوء هذه العوامل، ثمة إغراء قوي بالتقليل من خطر التهديد الذي تمثله روسيا. وهذا موقف خاطئ، ليس فقط لأن الحرب لم تنته بالنصر بعد. وكلما أدركت موسكو أنها أكثر عرضة للخطر في أوكرانيا، وأماكن أخرى، حاولت التعويض عن نقاط ضعفها بواسطة التوسل بأدوات غير تقليدية، بما في ذلك الأسلحة النووية.

وفي عبارة أخرى، قد تضمحل قوة روسيا ونفوذها، بيد أن ذلك لن يؤدي إلى تقليص تهديدها كثيراً. وعوض ذلك، قد تتفاقم بعض عناصر هذا التهديد. واعتراف الغرب بهذا الواقع يعني تخليه عن الأمل في تخلص روسيا، على المدى القريب، من رعونتها، واضطراره إلى مواصلة تقديم الدعم لمن تستهدفهم روسيا. وينبغي أن يبدأ هذا الجهد في أوكرانيا. وعلى الولايات المتحدة وحلفائها تقديم دعم مستدام لكييف في سبيل ضمان إلحاق الهزيمة بروسيا. وإذا خسر بوتين، فالمشكلة التي تمثلها روسيا لن تحل، بل سوف تزداد حدة، ومن نواح كثيرة. وعليه، على المعالجة أن تكافئ المشكلة.

دفع فاتورة الحرب

وجهت الحرب في أوكرانيا ضربة إلى نفوذ روسيا الاقتصادي العالمي. ومن الثابت أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الروسي بنسبة ستة في المئة في العام الحالي، وفقاً لصندوق النقد الدولي. وقد تكون هذه مجرد بداية، فالعبء الكامل المترتب على الإجراءات الغربية لم يبلغ مداه بعد.

وستحد القيود الغربية من قدرة موسكو على الوصول إلى تقنيات ومكونات رئيسة، وهذا يكبل اقتصادها الذي يعتمد على المدخلات والخبرات الأجنبية اعتماداً حاداً. وثمة من قبل علامات على صعوبات تعانيها صناعة السيارات والقطاعات التجارية الرئيسة الأخرى التي يتجلى فيها جلياً اعتماد روسيا على المكونات والعناصر الأجنبية.

إلى ذلك، باتت مكانة روسيا، كقوة رئيسة في مجال الطاقة، على كف عفريت. ولا شك في أن أوروبا ستواجه، في العقد المقبل، تحديات تأمين بدائل لإمدادات الطاقة التي كانت تستوردها من روسيا. وعلى المدى الطويل، ينبغي أن يتضاءل النفوذ السياسي الذي كان يعود على الكرملين من صادرات الطاقة، وأن تؤدي العقوبات الغربية، ومن المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في نهاية عام 2022، إلى حظر إصدار تأمين تجاري على ناقلات الشحن الروسية، ما يزيد خطورة المعاملات النفطية الروسية ويرفع كلفتها.

وفي غضون ذلك، تفرض دول مجموعة السبع سقفاً لسعر النفط الروسي. ومع الوقت، قد يضيق الخناق، ويجبر روسيا على عرض بيع نفطها بأسعار بخسة. وثمة دلائل متواترة على تراجع الصادرات الروسية، بالتالي تقلص إيراداتها. فاضطرت الحكومة الروسية إلى تقليص ميزانيات عدة وزارات بنسبة 10 في المئة. وستخفض أوروبا تدريجاً وارداتها من الطاقة الروسية، وبذلك يضيق هامش مناورة روسيا على التفاوض مع مستهلكين آخرين، مثل الصين والهند. وتعرضت روسيا إلى نزيف في المواهب أفقدها بعض أفضل العاملين فيها من مبرمجي الكمبيوتر والمهندسين والمتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، ولا بد من أن يحد من قدراتها التنافسية في المستقبل.

وعلى رغم أن هذه العوامل تعود بخسائر جسيمة على روسيا، فإن المدى الكامل للانكماش الاقتصادي الذي يلوح في الأفق وتأثيره، لا يزالان غير واضحين. ويتوقف مدى تأثير العقوبات وقيود التصدير، إلى حد بعيد، على نجاح الغرب في إنفاذ العقوبات والقيود، وعلى تمكن أوروبا من تقليل اعتمادها على الطاقة الروسية.

وسيعمل الكرملين، من جانبه، على الالتفاف على القيود، والعثور على حلول بديلة تقلل أضرارها. وستلجأ موسكو إلى المتاجرة بالسلع بشكل غير قانوني من طريق الشبكات التي تعبر بلداناً صديقة، مثل دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والعمل مع بلدان مثل الصين من أجل تطوير التقنيات بشكل مشترك. وسيكون من الصعب على روسيا الوصول إلى الكمية الكبيرة من المكونات المطلوبة التي تحتاج إليها قطاعات رئيسة من اقتصادها، مثل صناعة السيارات، لكنها قد تكون قادرة على تأمين التقنيات الضرورية للاستمرار في إنجاز برامج أسلحة مختارة.

وتجنباً لمواجهة انهيار كامل، سيتجه الاقتصاد الروسي على الغالب نحو التكيف مع ندرة الأشياء التي يحتاج إليها والاكتفاء الذاتي، والانفصال المطرد عن الاقتصاد العالمي. ومع تفاقم الظروف، سيستميت الكرملين أكثر، ويلجأ إلى وسائل غامضة أو غير مشروعة لتجنب [الخضوع] للقواعد التي تحكم التجارة العالمية ولم تعد تؤاتي مصلحته، وانتهاكها. وكلما زاد تهميش الكرملين وتهديده، تعاظمت صعوبة التكهن بسلوكه وكبحه.

وتجدر الإشارة إلى أن روسيا قبل الحرب، قوة عظمى ضعيفة نسبياً، تدين بتأثيرها العالمي إلى عوامل اقتصادية ضعيفة. إلا أن قدرتها على منافسة المصالح الأميركية كانت، في أحيان كثيرة، تفوق ما توحي به المؤشرات الاقتصادية الأولية.

وتميل روسيا إلى التصرف على نحو يتخطى حجمها، وما تسمح لها به قدراتها. وعلى رغم افتقارها إلى الحيوية، فهي لا شك تتمتع بالمرونة. ونزول الخسارة العسكرية بروسيا في بعض حروبها، لم يحل بينها وبين اضطلاعها بدور أساسي في ميدان الأمن الأوروبي. وسجل من هذا الصنف يقتضي ألا يفترض أن روسيا أضعف اقتصادياً هي حتماً أقل قدرة على تهديد مصالح الولايات المتحدة في الأعوام المقبلة.

نقص في العدد والعتاد

تعرض الجيش الروسي إلى ضربات عنيفة في أوكرانيا. واستهلكت الحرب الملايين من قذائف المدفعية وأتلفت كمية هائلة من المعدات الروسية، من براميل المدفعية إلى محركات الدبابات. وسقط أكثر من 80 ألف جندي روسي بين قتيل وجريح في المعارك. ونصيب الأفراد الذين جندوا في الأراضي الأوكرانية الخاضعة للسيطرة الروسية في دونيتسك ولوغانسك، والمقاتلين المتطوعين، من الخسائر البشرية التي تكبدتها قوات موسكو أخيراً كبير.

إلا أن الأيام المبكرة في الحرب شهدت سقوط كثير من أفضل العسكريين الروس. وفي الوقت الذي يواجه فيه الجيش الروسي نقصاً في العديد، يضطر بشكل متزايد إلى إخراج المزيد من المعدات القديمة من المخازن لتجهيز وحدات المجندين الجديدة. وعالجت موسكو هذه المشكلات بصورة تدريجية، ما سمح لقواتها أن تتدبر الأمر ببعض النجاح، لكن ذلك لن يحل المشكلات الأساسية في نهاية المطاف بينما تتردى جودة القوات.

وقد تعزز التعبئة قدرة روسيا على الاستمرار في الحرب، وتغذي إحساساً بعدم اليقين بما قد يحصل على المديين المتوسط والطويل، غير أن ذلك لا يعالج على الأرجح المشكلات الهيكلية التي يعانيها أداء روسيا العسكري. وبينما تحرم قيود التصدير روسيا من مكونات رئيسة، من مثل رقائق الكمبيوتر وعناصر الآلات الغربية، أرجئت برامج التسليح، وأجبرت موسكو على الأخذ بحلول بديلة باهظة الثمن. وتقلل هذه الإجراءات من جودة القطع التي تدخل في تركيب أنظمة الأسلحة، وتؤدي إلى تدني الثقة فيها وإلى إضعاف صناعة روسيا الدفاعية، مع مرور الوقت والحط بها.

ومع هذا، فعلى الغرب ألا يفترض أن الجيش الروسي سيصير منزوع الأذى في أعقاب حرب أوكرانيا. فالأرجح أن تجد روسيا طرقاً تتفادى بواسطتها القيود الغربية، نظراً إلى صعوبة تنفيذها. وقد لا تفلح موسكو في إنتاج بدائلها الخاصة للواردات، لكنها تتمتع بموهبة الالتفاف على قيود التصدير الغربية. فبعد ضمها غير القانوني شبه جزيرة القرم في عام 2014، وسعت روسيا الحصول على قطع غيار غربية الصنع لكثير من أسلحتها. وقد تتولى الصين تخفيف الضغط عنها.

وعلى رغم أن بكين كانت، ولا تزال، تتردد في تقوية التعاون العسكري الدفاعي مع روسيا، خوفاً من أن يعرضها ذلك إلى عقوبات أميركية جراء انتهاك العقوبات، فالغالب أنها ستعثر على طرق لدعم موسكو حين تخبو الأضواء الدولية المسلطة حالياً على أوكرانيا. وقد يشتمل هذا الدعم على توفير رقائق الكمبيوتر وغيرها من المكونات البالغة الأهمية.

وإلى هذا، لم تؤثر الحرب في جملة قدرات روسية تثير، أكثر من غيرها، قلق الولايات وحلف شمال الأطلسي (الناتو). فروسيا تبقى رائدة في مجال الدفاع الجوي المتكامل، والحرب الإلكترونية، والأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية، والغواصات، وغيرها من النظم المتقدمة. وعلى رغم أن روسيا، على ما بدا أولاً، لم تنفذ عمليات عسكرية سيبرانية خلال هجومها على أوكرانيا، فطبقاً لتحليل أجرته مايكروسوفت، قامت روسيا فعلاً بشن 40 هجوماً سيبرانياً مدمراً إلى حد ما على أوكرانيا في الأشهر الثلاثة الأولى من الغزو، بما في ذلك حملة إلكترونية عنيفة للغاية في أنحاء أوروبا من أجل منعها من الوصول إلى الأقمار الاصطناعية التجارية. ويبدو أن روسيا مارست بعض ضبط النفس على الجبهة [السيبرانية] تلك، وهي فعلت ذلك، على الغالب، جراء تصور بوتين أنه موشك على إحراز انتصار سريع يمكنه من احتلال البلاد في أعقاب ذلك.

أخيراً وليس آخراً، لا تزال روسيا تملك ترسانة نووية كبيرة، تفيد بعض التقديرات أنها من 4477 رأساً حربياً. وتبقى هذه الترسانة عنصراً مهماً في رسم معالم صناعة القرار [بشأن كيفية التعامل مع روسيا] لدى الولايات المتحدة وحلف الناتو.

ومع أن الجيش الروسي استثمر معظم موارده في الأسلحة التقليدية، فهو حافظ على ترسانة نووية تكتيكية فاعلة، وأنفق مليارات الروبل على تحديث قوته النووية الاستراتيجية. وعلى رغم الخسائر في الأسلحة التقليدية التي تكبدتها روسيا في أوكرانيا، تعتبر ترسانتها النووية تعويضاً منطقياً عن ضعفها في الأسلحة التقليدية وتشكل تهديداً معقولاً. فلا ينبغي لصناع السياسة الغربيين الافتراض أن روسيا كفت عن كونها خطراً على الأمن الأوروبي، ولا تخيل أنه لا يمكنها استعادة القدرات العسكرية التي فقدتها. فهي تحتفظ بقوة كامنة كبيرة، وبمرونة، وإمكان حشد الطاقات والجنود، وإن كان النظام الحالي تنقصه الكفاءة لاستغلال كل هذه الموارد. وهناك سبب يبرر بروز روسيا بهذا الشكل الواضح للغاية في الحروب على مدى قرون ماضية، فهي بلاد غالباً ما استعملت، أو أساءت استعمال القوة العسكرية القاطعة [المدمرة والحاسمة]، ثم تمكنت في آخر الأمر من استعادة قوتها هذه.

ما بعد بوتين

والحق أن الكرملين نفخ في شكل معتم وبغيض من “الوطنية” داخل روسيا، من أجل تبرير الحرب. وبث بوتين، وخبراء دعايته، رسالة مفادها أن الحرب في أوكرانيا هي في الواقع صراع حضاري مع الغرب الذي يسعى إلى إبقاء روسيا ضعيفة. وزعم هؤلاء أن روسيا تقاتل حلف الناتو في أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة وأوروبا تعملان على تفكيك روسيا. وعلى رغم أن استعمال خطاب معاد لأميركا من هذا النوع ليس جديداً، فتصوير الولايات المتحدة في صورة عدو تكتيك توسل به بوتين منذ وقت طويل، تتعاظم عدوانية هذا الخطاب والغضب الذي يضمره. وستستمر النبرة الصدامية والمعادية للغرب هذه طالما بقي بوتين في السلطة.

وتثار اليوم تساؤلات متجددة عن المدة التي قد يبقى بوتين في أثنائها في منصبه، وعلى الخصوص في أعقاب قرار التعبئة الجزئية في سبتمبر. وكان بوتين بذل جهوداً كبيرة، قبل الإعلان عن التعبئة، رمت إلى إبعاد ذوي الشأن الروس عن حربه في أوكرانيا. فرفع النظام الرواتب التقاعدية من أجل كسب ود ملايين المتقاعدين في البلاد، وأصر على أن “العملية العسكرية الخاصة” مستمرة “وفقاً للخطة” [المرسومة]. وجند أشخاصاً من المناطق الأكثر فقراً في روسيا، وفاقت حصة هذه المناطق من المجندين حصة مناطق أخرى. وسعى بوتين إلى الحصول على موافقة الروس السلبية، فيما استمرت الحياة كالمعتاد بالنسبة إلى كثيرين. ولكن، بإعلانه عن التعبئة الجزئية، فتح بوتين عيني المجتمع الروسي على الحقائق المروعة للحرب. وباتت قبضته على السلطة أضعف مما كانت عليه قبل قراره، ودعوته الروس إلى قبول حرب مديدة وعدوانية.

إلا أن التنبؤ بما يخلف غياب بوتين أكثر صعوبة [من رصد وضعه حالياً]. وقد حذر بعض المعلقين من أن زعيم روسيا المقبل قد تكون سياسته حيال الغرب أسوأ من سياسة سلفه. وهذا جائز من غير شك، لكنه قد يكون أقل احتمالاً مما يعتقد كثيرون. فبيانات أنظمة استبدادية شبيهة بالنظام الروسي توحي بأن خروج بوتين من منصبه، نتيجة للديناميكيات المحلية، يرجح أن يحصل بسبب انقلاب، أو احتجاج، أو وفاة طبيعية. ويستبعد أن يتجه المسار السياسي في روسيا اتجاها أكثر سوءاً من حيث الاستقرار والقمع، بل قد يشهد تحسناً.

وقد خلصت البحوث التي أجراها أحدنا (كيندال تايلور) مع إيريكا فرانتز، وهي متخصصة في العلوم السياسية، إلى أن وقوع الانقلابات والاحتجاجات الواسعة النطاق، والأشكال الأشد عنفاً من الصراع، في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ليس مرجحاً في السنوات التي تلي تواري زعماء من هذا النوع عن المشهد، ولا يفوق رجاحته وهم لا يزالون في مناصبهم. والحق أن القمع يميل إلى الانحسار في أعقاب التغيير.

لكن على رغم أن الديناميكيات المحلية قد لا تتحمل الانفجار أكثر من احتمالها إياه من قبل، فمن المرجح أن يكون الاستبداد في روسيا أطول عمراً من عهد بوتين وأبقى. واستمر الاستبداد في حقبة ما بعد الحرب الباردة، بعد خروج قادة حكموا لوقت طويل، وذلك في نحو 75 في المئة من الأحوال، على تقدير كيندال- تايلور وفرانتز.

وعلاوة على ذلك، فهناك فرصة قوية لأن تبقى النخب التي تتبنى آراء مناهضة للغرب في السلطة. وحسب البحوث نفسها، يظل النظام على الأرجح على حاله بعد خروج زعيم ظل في منصبه مدة طويلة. وهذا احتمال يتحقق أكثر إذا غادر بوتين منصبه إما بسبب وفاة طبيعية أو انقلاب تقوم به النخبة. ومنذ غزو بوتين أوكرانيا، تعاظمت قوة المؤسسات الأمنية الروسية، ولا سيما جهاز الأمن الفيدرالي، خليفة جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي)، وازداد رسوخها. وكلما ازداد اعتماد بوتين على القمع للاحتفاظ بسيطرته على الوضع، اضطر إلى منح هذه الأجهزة مزيداً من الصلاحيات. وعليه، فالأجهزة الأمنية التي تغذت تاريخياً بأفكار معادية للولايات المتحدة والغرب، مهيأة للحفاظ على نفوذها بعد بوتين. وما لم يحصل تغير كبير في أوساط النخبة الحاكمة، بالتزامن مع رحيل بوتين، بقيت روسيا على موقفها الصدامي هذا.

مجروح ولكنه خطير

قد تواجه روسيا تحديات متزايدة، بيد أن الكرملين سيحاول أن يتأقلم مع هذا الوضع. وعلى وجه الخصوص، كلما زاد شعور بوتين بالضعف، نظراً إلى انكماش قوات روسيا التقليدية في أوكرانيا، رجحت كفة الاعتماد على الطرق غير التقليدية من أجل تحقيق أهدافه. ووقوع الكرملين في ورطة عسيرة تحد من خياراته، لا تشعره بالندم على محاولته زعزعة استقرار أعدائه بوسائل خارجة عن المألوف أحياناً، وفي مجالات مثل الأسلحة البيولوجية أو الكيماوية أو السيبرانية أو الذكاء الاصطناعي، وليس من اليسير فهم الطرق التي أدت إليها.

ومن المؤكد تقريباً أن الكرملين سيعمد إلى تنظيم حملات تضليل إعلامي، في المرتبة الأولى. وقد لمست روسيا مدى فاعلية حملات من هذا النوع. فهي أسهمت في القرارات التي اتخذها قادة في أفريقيا وفي أميركا اللاتينية والشرق الأوسط بالبقاء على الحياد في أعقاب غزو موسكو لأوكرانيا. ونجح اتهام موسكو أوكرانيا بارتكاب فظائع ارتكبها فعلاً الجنود الروس في الحرب، وإلقاء مسؤولية ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة على العقوبات الغربية وليس على الغزو الروسي، والإصرار على أن روسيا تخوض حرباً دفاعية ضد حلف الناتو المتمدد على الدوام، في تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إلى عدوانها العسكري.

وينتظر أن تتعاظم أهمية الهجمات السيبرانية في تعطيل الاتصالات والإدارة، كما توحي الحوادث الأخيرة في إستونيا وليتوانيا. ففي أغسطس، ورداً على إعلان تالين إزالة النصب السوفياتية من الأماكن العامة، استهدفت مجموعة قراصنة روسية ما يزيد على 200 مؤسسة حكومية، وخصوصاً في إستونيا، وذلك في أكبر موجة هجمات سيبرانية على إستونيا خلال أكثر من عشر سنوات.

وعلى النحو نفسه، استهدفت مجموعة القراصنة ذاتها مؤسسات حكومية، في ليتوانيا على الخصوص، في يونيو (حزيران)، بعد أن فرضت حكومتها على عبور البضائع إلى كاليننغراد قيوداً كان الاتحاد الأوروبي أقرها، علماً بأن هذه منطقة روسية تقع بين ليتوانيا وبولندا، وتعتمد على السكك الحديدية والطرق الليتوانية للحصول على ما تحتاج إليه من إمدادات.

غير أن الأمر الأشد خطورة هو احتمال أن يؤدي تعاظم الأضرار التي تصيب الجيش الروسي في أوكرانيا إلى ترجيح اللجوء إلى تصعيد نووي، والتعويض عن تفوق حلف الناتو في أوروبا. ويبدو الجيش الروسي أكثر قبولاً لفكرة استخدام أسلحة نووية تكتيكية، مقارنة بنظرائه الغربيين.

ولا شك في أن استخدام الأسلحة النووية قرار سياسي، لكن معظم القرائن تدل على أن القيادة السياسية الروسية قد تفكر في استخدام سلاح نووي تكتيكي إذا لحقت بها هزيمة قد تهدد النظام أو الدولة. ومن شأن أزمة أو صراع في المستقبل مع حلف الناتو أن يتيحا لموسكو خيارات تقليدية قليلة قبل أن تلوح باستعمال أسلحة نووية، أو تلوح باحتمال استعمالها، فتقلص الطريق إلى حرب نووية.

وتعاظم أهمية الأسلحة النووية غير الاستراتيجية (أو التكتيكية) في نظر الجيش الروسي يعني أن روسيا أقل قبولاً اليوم منها في أي وقت مضى [لفرض] حدود على ترسانتها النووية بواسطة التفاوض. وهذا موقف مشكل في صورة استثنائية لأن روسيا تملك ترسانة نووية أكثر تنوعاً من تلك التي تملكها الولايات المتحدة، وتضم نماذج مختلفة لأسلحة غير استراتيجية.

والظاهر أن عقيدتها العسكرية تجعلها أكثر استعداداً لاستخدام هذه الأسلحة في نزاع محتمل. والعداء القائم، في مجلس الكونغرس الأميركي، حيال روسيا وسجلها في مجال انتهاكات المعاهدات التي توقعها، يقلل من إمكانات التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا على بديل يحل محل معاهدة ستارت الجديدة، حين تنتهي صلاحيتها في عام 2026.

وفي غياب اتفاق ما، لن يكون هناك من رادع لطاقة روسيا على إنتاج أسلحة نووية استراتيجية ونشر أنظمة جديدة. وستفقد الولايات المتحدة إجراءات مراقبة ترسانة روسيا النووية الاستراتيجية. ويذكر أن الصين تحدث ترسانتها النووية كذلك. وعليه، تجد الولايات المتحدة نفسها تتعامل مع قوتين نوويتين، كلاهما أفلتت من عقالها، واصطفت الولايات المتحدة تهديداً أساسياً لها.

خطر الرضا عن النفس

وينبغي أن يبدأ في كييف أي جهد معقول لمواجهة موسكو. والحق أن الدعم الذي قدمته، إلى اليوم، الولايات المتحدة والدول الأوروبية لأوكرانيا كان رائعاً. فالولايات المتحدة وحدها قدمت مساعدات تفوق قيمتها 45 مليار دولار (نحو 39.55 مليار جنيه استرليني). وساعد هذا الدعم أوكرانيا ليس على الدفاع عن نفسها وحسب، بل على شن هجوم مضاد لاستعادة أراض احتلتها القوات الروسية. ومع ميل الزخم إلى صف كييف، حان الوقت لزيادة المساندة، وتوفير الأسلحة التي تحتاج إليها أوكرانيا، في الأقل لعودتها إلى حدودها قبل الغزو. وكل ما دون هذا من شأنه أن يرجح احتمال اندلاع حرب أخرى في وقت لاحق.

ونجاح أوكرانيا والغربيين الذين يدعمونها، نجاحاً ساطعاً، لا يبدد بقاء روسيا تحدياً دائماً للأمن الأوروبي. وحرب روسيا هي في صميمها، محاولة إمبريالية تضرب بجذورها في تداعي الاتحاد السوفياتي، وانهياره الذي لا يزال مستمراً.

ويشير بعض المؤرخين، محقين، إلى أن من الصواب النظر إلى تفكك الاتحاد السوفياتي على شاكلة عملية متواصلة، على وجوه مختلفة، إلى اليوم، عوض حمله على حادثة ماضية تامة. وليست الحرب في أوكرانيا غير حلقة في سلسلة نزاعات رافقت عملية التفكك هذه. والافتراض أن هذه الحرب هي أشبه بنزع موت الإمبريالية الروسية المحتضرة الأخير، أو الظن أن روسيا سرعان ما ستتخلى، في ظل زعيم آخر، عن الرغبة في الانتقام وتنخرط انخراط صاحب مصلحة في الأمن الأوروبي، الافتراض والظن هذان متفائلان وفي غير محلهما.

وتترتب على حرب موسكو تداعيات مضاعفة تتفتق عن أخطار جديدة تتهدد سياق العلاقات الغربية مع روسيا. وعلى سبيل المثال، سيؤدي انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وهو نتيجة مباشرة للهجوم الروسي على أوكرانيا، إلى زيادة التوترات الأمنية مع روسيا في منطقتي البلطيق والقطب الشمالي. وعضوية البلدين في الناتو تعزز الحلف، وتعني التزامه الدفاع عن حدود جديدة، وتطوير خطط طوارئ أخرى.

وإلى ذلك، من المرجح أن تبالغ روسيا، وهي ترى أن قواتها التقليدية ضعيفة، في رد فعلها على الإجراءات الغربية، وهذا يصدق، في شكل خاص، على الوضع في أعقاب فشل روسيا في أوكرانيا، وقد يدفع الكرملين إلى البحث عن فرص تتيح له إثبات قوة روسيا ومناعتها، ورهبة جانبها. وتنشأ عن أحوال من هذا الصنف تحديات جديدة على حلف الناتو أن يتدبرها ويصرفها.

وليست روسيا في وضع يمكنها معه أن تبدأ حرباً أخرى اليوم، ولا شك في أنها عاجزة عن خوض حرب مع حلف الناتو، لكن هذا لا يعني أن في وسع صناع السياسة الغربيين الرضا عن أنفسهم. نعم، ستستغرق روسيا الشطر الأكبر من عقد من الزمن في ترميم قواتها التقليدية، والتعويض عما خسرته منها وتحسينها، في أعقاب هجومها على أوكرانيا.

ويشكو حلف الناتو من مشكلاته الخاصة التي تدعوه إلى ترميم قواته كذلك. وتحتاج دول الحلف إلى سنوات تعوض في أثنائها استهلاك الأسلحة والذخائر التي أرسلتها إلى أوكرانيا في الحرب، وتجددها. وسترتفع الخسائر [في المعدات] إذا طالت الحرب، على غالب الظن. وليس أقل أهمية من هذا عدم التخطيط لخوض الحرب السابقة. فعلى حلف الناتو أن يفكر في أفضل السبل لمواجهة الجيش الروسي [الجديد]، المولود في نهاية المطاف من هذه الحرب بعد سنوات من اليوم، وأن يبتكر أساليب تتلاءم مع الوضع المستجد. ونظراً إلى إخفاقات روسيا التي أظهرتها الحرب، من المرجح ألا تسعى في بناء جيشها على النمط ذاته، بهيكله الهش، وتدريباته الضعيفة، وموارده اللوجيستية الهزيلة.

وجادل بعضهم بأن أداء روسيا الضعيف في أوكرانيا يسوغ ترك الولايات المتحدة أوروبا تضطلع بالتعامل مع التحدي الروسي، ما يتيح لواشنطن أن تركز على بكين. والحق أنه إذا كان ثمة أثر للصحة في المسألة، فالعكس هو الصحيح، فهذه الحرب تذكير صارخ بما يجب أن يبقي شطراً كبيراً من الدفاع عن أوروبا على عاتق الولايات المتحدة. فالقدرة على استخدام القوة العسكرية على نطاق واسع تعني حل مسائل اللوجيستيات، والقيادة والسيطرة، والاتصالات لمئات الآلاف من الجنود.

وعلى الدول الأوروبية، إذ ذاك، أن تتولى وحدها القيام بعمليات واسعة النطاق في وجه حملة روسية مماثلة، من حيث الحجم، لتلك التي تشنها موسكو على أوكرانيا. ومن السذاجة الاعتقاد أن في مستطاع دولة أوروبية النهوض بأعباء التكامل والتمكين، ووظائف الدعم المهمة الأخرى التي تتولاها الولايات المتحدة حالياً. والتخطيط الدفاعي الذي يتصور إلقاء واشنطن مسؤولية التصدي للتحدي الروسي على كاهل أوروبا، في العقد المقبل، يرقى إلى مستوى التمني والرغبة.

وتؤكد الحرب الروسية على أوكرانيا النهج الذي يحكم [نتائج] الحروب الكبرى، في نهاية المطاف، وهو يقوم على الاستنزاف، والقدرة على استبدال العديد والعتاد، والذخيرة المستعملة. ويعاني حلف الناتو عجزاً في هذه الأبواب كلها. وكان الأرجح أن يضطر جيش أوروبي إلى الخروج من الميدان في وقت قصير لو أصيب بجزء من الخسائر التي تكبدتها القوات المسلحة الروسية أو الأوكرانية.

ولدى الناتو مخزون ضئيل من الأسلحة الحديثة. وغالباً ما تملك الجيوش منصات باهظة الثمن ويصعب استبدالها، وقدرة صناعية دفاعية تكافح من أجل زيادة الإنتاج. وكشفت الأشهر الستة الماضية من الدعم لأوكرانيا عن ثغرات كبيرة في قدرة الغرب على إنتاج الذخيرة وقطع الغيار الرئيسة. وحمل أوروبا على فعل المزيد من أجل الدفاع عن نفسها هدف نبيل، ولكن الأمر يستغرق سنوات، وربما عقوداً من الزمن، قبل بلوغه.

ضرورات التقييد والكبح

ولا شك في أن روسيا لن تكون صاحبة مصلحة في الأمن الأوروبي، في عهد بوتين. وأظهر الكرملين ضلوعه في الثأر الإمبريالي فوق حرصه على الاستقرار الاستراتيجي. وعليه، يجب على واشنطن وحلفائها الاستمرار في جهد الحد من أخطار التصعيد، وعلى الخصوص في ما يتعلق باستعمال أسلحة نووية تكتيكية، وتقليص قدرة روسيا على شن حرب.

وعلى رغم أن واشنطن علقت، وهي في ذلك على حق، حوارها في شأن الحد من التسلح والاستقرار الاستراتيجي مع روسيا، فيتعين عليها أن تحافظ على التواصل الاستراتيجي مع موسكو من أجل تفادي حصول مواجهة نووية، ولكن على الولايات المتحدة وحلف الناتو التخطيط [للتعامل مع] اعتماد روسيا المتزايد على التكتيكات غير التقليدية، بما في ذلك احتمال لجوء روسيا، على نحو متعاظم، إلى التهديدات النووية، وقد تكون على استعداد للتعقيب عليها باستخدام سلاح نووي.

وفي غضون ذلك، على واشنطن السعي في تقييد روسيا وكبح جماحها إلى شن عدوان خارج حدودها. ويتطلب تردي القوة الروسية من واشنطن أن تبني على السياسات التي اختطتها في أعقاب غزو بوتين لأوكرانيا. وعلى وجه الخصوص، على الولايات المتحدة أن تستمر في مساعدة أوروبا على الفطام من النفط والغاز الروسيين، وإعادة إنتاج الأسلحة التي منحتها لأوكرانيا.

ويكتسب إنفاذ واشنطن وحلفائها العقوبات، والقيود على التصدير، وإجراءات مكافحة الفساد المقررة ضد روسيا، أهمية حاسمة. وهناك بالفعل أدلة على أن روسيا تتحايل على هذه الإجراءات. وعلى الغرب الحيلولة دون ذلك. ويقتضي تقييد واشنطن وحلفائها الأوروبيين موسكو الحفاظ على انخراطهم مع الهند والدول الأخرى، في أفريقيا والشرق الأوسط، التي تتخذ موقفاً حيادياً [حيال الحرب في أوكرانيا]، لا سيما أن هذه الدول توفر شريان حياة لروسيا. وهذا يعني صرف المزيد من الاهتمام إلى جنوب الكرة الأرضية، حيث تتمتع روسيا بنفوذ أقوى، وتستطيع معارضة الرواية [الغربية].

لكن على المدى الطويل، للولايات المتحدة وأوروبا مصلحة مشتركة في ترسيخ استقرار العلاقة مع روسيا. ولن يكون ذلك ممكناً طالما بقي بوتين في السلطة. ولكن، على نحو أو آخر، ثمة روسيا مقبلة ما بعد بوتين. ويتيح التغير في القيادة، وخصوصاً في روسيا حيث النظام السياسي مطبوع بطابع شخصي جداً، فرصة إرساء الحمايات على متانة العلاقة.

وعلى رغم أن أي زعيم روسي، في المستقبل، لن ينفك عازماً على استعادة نفوذ روسيا على الصعيد العالمي، وخصوصاً على أطرافها، فمن الواضح أن أوكرانيا كانت هاجساً بوتينياً خاصاً. وقد تلقن هزيمة روسية مدوية في أوكرانيا النخب الروسية القادمة درساً قيماً في حدود القوة العسكرية. وقد يثير تعاظم تبعية روسيا لبكين رغبة زعيم مستقبلي في خيارات سياسة خارجية أقل عدائية تجاه الغرب. وقد تتغير الثقافات الاستراتيجية مع مرور الوقت، بما في ذلك الاستجابة إلى هزائم كبيرة.

فعلى واشنطن وحلفائها مواجهة موسكو من دون التفريط بقيمهم. وهذا يعني التفكير المتأني في تشخيص المسؤولية المشتركة، وفي أشكال العقاب الجماعي. وينبغي على الحكومة الأميركية أن تساعد، بشكل فعال، أفراد المجتمع الروسي في المنفى، بمن فيهم الصحافيون والناشطون وغيرهم من الروس الذين يؤيدون بناء روسيا أكثر حرية وديمقراطية، من خلال توفير زمالات مهنية في الولايات المتحدة للمضطهدين من المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين، على سبيل المثال، ومعالجة وجوه النقص في تنفيذ سياسات مكافحة الفساد والعقوبات التي تسبب أضراراً جانبية للعاملين المضطهدين في المجتمع المدني.

ونظراً إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها يتعاملون مع نظام بوتين القائم ويفكرون بما قد يخلفه، فعليهم أن يتذكروا القول المأثور القديم إن روسيا ليست قوية كما تبدو ولا ضعيفة. فالبلاد غالباً ما تمر بدورات انتعاش وركود وانحدار.

ومع تضاؤل قدرتها ومكانتها العالمية بسبب حربها في أوكرانيا، ستبقى مشاعر الاستياء والسعي إلى الحصول على فضاء استراتيجي خارج حدودها، والرغبة في تبوؤ مكانة خاصة، تشحذ همة روسيا وتحفزها. ولا يسع واشنطن أن تتحمل [كلفة] شطب روسيا والاطمئنان بعدها إلى غيابها. وعليها ألا تتخيل أن في مقدور أوروبا تدبر المشكلة لوحدها، فقد يتطور التهديد لكنه لن يتبدد.

*أندريا كيندال- تايلور زميلة أولى ومديرة برنامج الأمن عبر الأطلسي في مركز الأمن الأميركي الجديد.

**مايكل كوفمان مدير برنامج البحوث لبرنامج الدراسات الروسية في مركز التحليلات البحرية وزميل أول مساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد.

مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2022

—————————–

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا: موجة من زعزعة الاستقرار تمتد من القوقاز إلى آسيا الوسطى/ فيكين شيتريان

صاحبت ضعف الموقف الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى أنباء عن سحب روسيا القوات من قواعدها في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي لإعادة نشرها في أوكرانيا.

شهدت الحالة الأمنية في القوقاز وآسيا الوسطى تصعيداً حاداً في أعمال العنف في أيلول/ سبتمبر من هذا العام. فقد شنت القوات المسلحة الآذربيجانية هجوماً واسعاً على ست اتجاهات مختلفة داخل الأراضي الأرمينية المجاورة في 12 أيلول الماضي. وبعد 48 ساعة من المعارك المكثفة، لقي حوالى 300 شخص مصرعهم (بحسب التقارير الرسمية، أسفرت المعارك عن مقتل 207 جنود أرمن و80 جندياً أذربيجانياً). وخلال الأيام نفسها من 14 إلى 20 أيلول، وعلى بعد نحو 3 آلاف كيلومتر إلى الشرق، اندلعت اشتباكات عنيفة على الحدود بين قيرغيزستان وطاجيكستان، في الركن الجنوبي الشرقي من وادي فرغانة. ولا يزال عدد القتلى محل خلاف، لكن الأرقام الرسمية للضحايا تجاوزت 100 قتيل، في حين تم إجلاء 140 ألف مدني فقط من الجانب القرغيزي من الحدود.

ربط محللون بين اندلاع أعمال العنف في القوقاز وآسيا الوسطى، بحالة الضعف التي تشهدها روسيا بسبب حربها في أوكرانيا. كتب أحد المحللين أنه في حين كانت خطة بوتين الأصلية هي احتلال أوكرانيا وتعزيز النفوذ الروسي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، “فقد  عجلت موسكو بقوة من تراجع نفوذها في جميع أنحاء أوراسيا، بما في ذلك دول الاتحاد السوفياتي السابق في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى”. بل ذهبت المؤرخة الفرنسية مارلين لارويل في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” إلى ما هو أبعد من ذلك، بقولها إن الأمر لا يقتصر على خسارة روسيا نفوذها في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ولكن أيضاً “يبدو أن روسيا لم تعد قادرة على العمل بوصفها ضامناً للأمن الإقليمي للأنظمة المحلية (…)، ومن المؤكد أن الكثير من القوى، وبخاصة الصين وتركيا، سوف تستفيد من ذلك”.

صاحبت ضعف الموقف الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى أنباء عن سحب روسيا القوات من قواعدها في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي لإعادة نشرها في أوكرانيا. فعلى سبيل المثال، أفادت بعض التقارير الجديدة في أيلول أن روسيا سحبت حوالى 1500 من الأفراد العسكريين من طاجيكستان وحدها. بعبارة أخرى، نتيجة للحرب المستمرة في أوكرانيا، أصبحت المؤسسة العسكرية الروسية ضعيفة، وبات نفوذها على الأرض أقل كثيراً من ذي قبل.

بعد عقدين من الزمان من العمل بحرص على ترسيخ صورة رسمية للقوة والنزعة المحافظة، مُني بوتين بهزيمة بالفعل في حربه على أوكرانيا.

وفي هذا الصدد، من الضروري توضيح نقطتين: النقطة الأولى هي أن الصراعات في القوقاز وآسيا الوسطى لها تاريخ يتجاوز الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد كانت أحدث الاشتباكات في القوقاز هي توابع حرب قره باغ الثانية عام 2020، عندما شنت آذربيجان حرباً جديدة على القوات الأرمنية في إقليم قره باغ وأرمينيا. وعلاوة على ذلك، فإن صراع قره باغ له جذور قديمة في فترة انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد بدأ الصراع عام 1988 عندما طالب السكان الأرمن المحليون بتغيير وضع “منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي”، وهو مطلب تحول إلى حرب شاملة مع حصول أرمينيا وآذربيجان على الاستقلال (1992-1994). وعلى نحو مماثل، وقعت الاشتباكات الحدودية بين قيرغيزستان وطاجيكستان بالفعل في ربيع عام 2021، مجدداً قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا. فضلاً عن ذلك، فقد شهد وادي فرغانة نزاعاً للسيطرة على الموارد الطبيعية مثل الأرض والمياه، ما أدى إلى تصاعد التوترات العرقية بسبب ظهور الحدود الدولية التي يرجع تاريخها إلى أواخر سنوات الاتحاد السوفياتي.

أما النقطة الثانية فهي أن روسيا لم تكن راعية السلام، ولا الجانب الذي يُفضل حل النزاعات. في الواقع، حاولت روسيا الحفاظ على نفوذها من خلال التوازن بين أطراف النزاع،  كما حدث في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان. فالوجود العسكري الروسي في أرمينيا لم يمنع أذربيجان من شن حرب قره باغ الثانية. وعندما لم يكن هذا التوازن ممكناً، اختارت روسيا التدخل العسكري المباشر، كما حدث في جورجيا عام 2008. ولكن لا ينبغي لأحد أن يشيطن الدور الروسي في النزاعات التي اندلعت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ إذ إن الجهات الفاعلة المحلية لديها إرادة وتتحمل مسؤولية تحويل التوترات والصراعات السياسية إلى نزاعات مسلحة.

حرب أوكرانيا ونهاية نموذج بوتين الاستبدادي

من خلال غزو أوكرانيا، أضعف بوتين الأساسين اللذين قام عليهما حكمه الاستبدادي. أحدهما هو استعراض القوة، التي غالباً ما ترتبط بالقوة العسكرية. فقد وعد بوتين بأن يجعل من روسيا قوة عالمية عظمى مرة أخرى وأن يستعيد “احترام” الغرب، لا سيما الولايات المتحدة. وكانت الدعاية الروسية التي ترعاها الدولة موجهة نحو هذا الهدف، فقد نشرت صور الآلات الحربية الجديدة، والعروض العسكرية في الساحة الحمراء، وكذلك العمليات العسكرية الروسية في سوريا كانت ترمي إلى نفس الغرض. بيد أن القادة الروس كانوا مدركين أيضاً تخلفهم عن القوة العسكرية الأميركية، ومن هنا جاء تركيزهم على مبدأ “الحرب الهجينة”. فمن خلال غزو أوكرانيا، قوض بوتين أسس حكمه الاستبدادي.

يقوم أي نظام استبدادي على اتفاق ضمني مع الشعب الذي يحكمه. وفي حالة بوتين، ساهم ذلك في إرساء قواعد “الاستقرار” مقابل الاستيلاء على المجال العام. فقد تسببت سنوات من عدم الاستقرار في ظل حاكمين سابقين، ميخائيل غورباتشوف، وما صاحب حكمه من برامج الإصلاحات الاقتصادية “إعادة الهيكلة” (البيريسترويكا)، وبوريس يلتسن، وما رافق حكمه من فترة انتقالية لا نهاية لها، في شعور الشعب الروسي بالقلق إزاء التغيير. لذا، فقد وعد بوتين بعدم إحداث أي تغيير أو الاستقرار، بما في ذلك إنهاء الإصلاحات الداخلية التي تشتد الحاجة إليها، وفي المقابل كان لزاماً على عامة الناس أن يتحولوا إلى شعب لا يكترث بالسياسة. ومن خلال الحرب التي شنها على أوكرانيا، لا سيما التعبئة الجماهيرية، يقوض بوتين الأساس الثاني من حكمه الاستبدادي.

ثالثاً، يختلف تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 نوعياً عن الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014. ففي حالة غزو 2014، نجح بوتين في إثارة موجة من الحماس القومي، ما جعل الرأي العام ينسى الانتخابات الرئاسية عام 2012، حيث أصاب تبادل السلطة بين بوتين وميدفيديف، الأمر الذي يشبه لعبة “الكراسي الموسيقية”،  الكثير من الناخبين بالإحباط.

وبعد عقدين من الزمان من العمل بحرص على ترسيخ صورة رسمية للقوة والنزعة المحافظة، مُني بوتين بهزيمة بالفعل في حربه على أوكرانيا. وعلى الرغم من أن المعارضة المدنية داخل روسيا محظورة وتتعرض لقمع شديد، فإن الروس يصوتون بالرحيل: فقد غادر أكثر من 700 ألف روسي البلاد منذ بدء “العملية الخاصة”.

النزاعات المحلية ومنافسة القوى العظمى

من المؤكد أن المغامرة الأوكرانية ستقلل من النفوذ الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى: على سبيل المقارنة، في كانون الثاني/ يناير من هذا العام، دعت النخبة الكازاخستانية إلى التدخل العسكري الروسي من أجل وضع حد للانتفاضة الداخلية. بيد أنه منذ الغزو الأوكراني، بدأت النخبة الكازاخستانية في اتخاذ خطوات تنأى بنفسها عن بوتين ومشروعه التوسعي الذي يشكك في سيادة دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، لا سيادة أوكرانيا وحدها.

لقد بدأ غزو أوكرانيا وفشل روسيا يرسم معالم الخلافة في مرحلة ما بعد بوتين. إذ ستخرج روسيا من هذه الأزمة وقد أصبحت أكثر ضعفاً، بسبب جيشها المَكلُوم، وتضاؤل قدرتها ومكانتها عالمياً. علاوة على ذلك، فإن آلة جني المال التي استند إليها بوتين في استقراره، وهي صادرات النفط والغاز، سوف تنخفض إلى حد كبير بسبب العقوبات الغربية. وقد يسعى الجيش الروسي إلى إعادة الانتشار في أعقاب الفشل في أوكرانيا، في حين قد تسعى النخبة السياسية إلى تبني نهج انعزالي متزايد. وبعد بوتين، ستحتاج روسيا إلى استدراك الإصلاحات التي رفض بوتين تنفيذها على مدى عقدين من الزمان.

لا تعني حالة الضعف والانعزالية التي تعاني منها روسيا أن الصراعات في القوقاز أو آسيا الوسطى أو الشرق الأوسط ستجد حلاً أسهل. إذ نشهد بالفعل زيادة حدة منافسة القوى العظمى في منطقة القوقاز، والتي تتزايد أهميتها الاستراتيجية بوصفها ممراً بين الاقتصادات الآسيوية والأسواق الأوروبية. ولا ينبغي لنا أن نتصور أن النفوذ الروسي قد ينحصر في تلك المناطق. حتى روسيا في ظل ما  تعانيه من حالة ضعف ستظل طرفاً مهماً في المناطق المتاخمة جغرافياً لروسيا نفسها.

درج

——————————

هل صدّعت خيرسون تماسك الكرملين؟/ حسام عيتاني

ساعات من التوتر أعقبت ما قيل أنه سقوط صاروخ روسي داخل بولندا قبل التعرف إلى مصدره الحقيقي، في حادث يشبه ظروف العديد من أحداث ملتبسة في الحرب الروسية على أوكرانيا والتي تحمل على التفكير في إمكان اتخاذ أحداث مشابهة أبعاداً مأساوية في ظل غموض يلف ما يدور في الكرملين والتساؤلات عن معنى الأصوات المنتقدة لطريقة إدارة الحرب.

والأسئلة التي رافقت انفجار الصاروخ على أراضي دولة في حلف «الناتو» من النوع المألوف في التعامل مع روسيا: هل كان رسالة مقصودة وتحذيراً من توسيع الحرب بعد هزيمة خيرسون؟ أم أنه انحرف صدفة عن مساره لعلة تقنية أو لقلة في كفاءة الضابط المشغل له؟ كل ذلك جرى في ساعات قليلة قبل التقارير عن أن الصاروخ أوكراني وأطلق في سياق عملية دفاع جوي.

الصنف هذا من الأسئلة رافق الحرب منذ أيامها الأولى. وما زال الغموض الذي لفّ توقف القافلة الروسية الضخمة على مداخل كييف عيّنة نموذجية في تعدد التفسيرات لتحرك وعمل القوات الروسية. قيل يومها، أن الأرض الموحلة أرغمت القافلة على التوقف، وأن نقصاً في الإمدادات اللوجستية من وقود وقطع غيار جعل آلاف العربات المدرعة وناقلات الجند والدبابات تقف مكشوفة تحت عدسات الأقمار الصناعية الغربية. وظلت التكهنات تتردد إلى أن قضت المسيّرات الأوكرانية على الجزء الأكبر من القافلة وطويت خطة اقتحام كييف نهائياً.

وللحرب منطقها الخاص ومسارها اللذان لا يخضعان دائماً لقرارات غرف العمليات وضباطها. ذاك أن رقعة الأرض التي يدور القتال عليها وقدرة القوات على التحمل والانكسارات أو الانتصارات غير المحسوبة جيداً، تملي في كثير من الأحيان على القادة اتخاذ قرارات متطرفة. وإذا كانت الحقيقة هي الضحية الأولى في كل حرب، فإن القدرة على التحكم في مسار المعارك ونتائجها من الأمور شبه المستحيلة بعد أن تستهل المدافع إطلاق حممها. يبرز ذلك في أنظمة حكم تفتقر إلى الشفافية ويؤدي الفرد فيها دوراً محورياً ما يقلص القدرة على التراجع أو الاعتراف بالخطأ.

يعزز ذلك احتمالاً مقلقاً يتلخص في أن توسيع نطاق الحرب الذي اتخذ شكل حملة روسية شرسة لتدمير شبكة الطاقة قبل حلول الشتاء ودفع الأوكرانيين إلى تحمل وطأة البرد القارس من دون تدفئة ولا إنارة، ينطوي على تحول في «العقل» الروسي الذي يدير الحرب. وبعد الإشادات التي ظهرت في عدد من وسائل الإعلام الغربية «بالتصرف السليم» الذي عملت به قيادة القوات الروسية على سحب جنودها من خيرسون ومحيطها، ما فُسّر كانتصار للعقلانية في الكرملين على أصحاب الرؤوس الحامية المطالبين بالقتال حتى النفس الأخير وعدم الانسحاب من المدينة الأوكرانية الاستراتيجية، وقعت عملية التدمير المنهجي الروسي للبنية التحتية الأوكرانية.

التفسير السياسي للخطوة الأولى، أي الانسحاب من خيرسون، يقول، إن الروس يريدون البدء بالتفاوض مع الأوكرانيين والغرب عموماً، وإنهم يعوّلون على الأميركيين الذين قال رئيس أركانهم المشتركة الجنرال مارك ميلي بضرورة استغلال التباطؤ الذي سيفرضه الشتاء على العمليات القتالية للشروع في جهود دبلوماسية سلمية. وعلى الرغم من نفي إدارة الرئيس بايدن عزمها الضغط على كييف للقبول بالتفاوض مع الروس، فإن البحث عن كيفية توظيف الانسحاب من خيرسون لإطلاق المسار الدبلوماسي قد انطلق.

أما القصف الشديد بالصواريخ الباليستية على المنشآت الأوكرانية، فليس بالضرورة أن يعني أن الروس لا يرغبون في بدء التفاوض. بل على الأرجح أنهم يريدون من خلال رسالة القصف القول إنهم يمتلكون رغم نكساتهم العسكرية المتواصلة ما يكفي من القوة لإلحاق دمار مكلف بالدولة الأوكرانية التي ستضطر إلى مواجهة استياء مواطنيها من انهيار الخدمات الأساسية كالكهرباء وما يتصل بها من نقل وطبابة.

لغز آخر يواجه مراقبي الشأن الروسي يتعلق بتماسك المجموعة الحاكمة المحيطة بالرئيس فلاديمير بوتين. الإهانات التي وجهها رئيس شركة «فاغنر» للمرتزقة يفغيني برغوجين والزعيم الشيشاني رمضان قديروف لكبار ضباط الجيش الروسي واتهامهم بالفشل، وضعت في سياق صراع الأجنحة في قمة الهرم المشرف على الحرب في روسيا. لكن من جهة ثانية، يتعين الالتفات إلى البيان الذي أصدره الفيلسوف ألكسندر دوغين (الذي فقد ابنته قبل أشهر قليلة في انفجار اتُهمت الأجهزة الأوكرانية بالمسؤولية عنه). يحفل البيان بتهديدات مبطنة موجهة إلى بوتين وببلوغ التحريض على الحرب ضد الغرب حدوداً تخرج عن التفكير السليم وتلامس الدعوة إلى إفناء العالم.

دوغين ليس من أصحاب قرار الحرب والسلم. لكن وسائل الإعلام الموالية للكرملين رسمت حوله هالة المفكر الأصيل وضمير الشعب الروسي. يدفع ذلك إلى التأمل في أمرين؛ الأول، هو حاجة المجموعة الحاكمة في الكرملين إلى الحرب كمبرر لوجودها وبالتالي عجزها عن التراجع عن مواقفها سواء من خلال مفاوضات سلام أو بفعل قرار رئاسي بوقف القتال. والآخر، أن الحرب التي بدأها بوتين مختاراً، قد ولّدت آليات خاصة بها باتت قريبة من الخروج عن كل سيطرة.

الشرق الأوسط

————————–

بوتين خسر حربه… لكنّ المطلوب تسوية/ خيرالله خيرالله

كلّ ما يمكن استخلاصه من الانسحاب الروسي من خيرسون، المدينة ذات الموقع الاستراتيجي في أوكرانيا، أنّ فلاديمير بوتين خسر حربه التي بدأت في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) الماضي. خسر الحرب، لكنه تسبب بأضرار ضخمة على الصعيد العالمي في مجالي الطاقة والغذاء خصوصاً.

لم تكن خيرسون المعركة الأولى التي يخسرها الرئيس الروسي. خسر أوّلاً معركة كييف، العاصمة الأوكرانيّة التي لم تسقط بمجرّد بدء الحملة العسكريّة على أوكرانيا في الموعد الذي أعلن فيه الأميركيون أن هذه الحملة ستبدأ فيه. جاء كشف الأميركيين للموعد الدقيق للهجوم الروسي فيما كان بوتين نفسه ينفي أيّ نيّة في شنّ حرب على أوكرانيا. كان ذلك بمثابة إشارة إلى أنّ واشنطن على علم بما يدور في موسكو من جهة، كما أنّها تعرف تماماً كيفية عمل عقل الرئيس الروسي ومدى تهوّره من جهة أخرى.

الأهمّ من ذلك كلّه، تبيّن أن أحد أهمّ رجال الإدارة الأميركيّة الحالية على معرفة دقيقة بما يدور في الكرملين الذي يتحكّم به رجل واحد وحيد اسمه فلاديمير بوتين. المقصود هنا هو وليم بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية (سي. آي. إي) الذي سبق له أن عمل سفيراً لبلاده في موسكو بين العامين 2005 و 2008.

لم يخسر بوتين حربه الأوكرانيّة فحسب، بل خسر مستقبله السياسي أيضاً. لا يستطيع سياسي روسي، أو غير روسي، مهما بلغت درجة ذكائه، المحافظة، في المدى الطويل، على موقعه في حال لم يكن يعرف العالم ولا يعرف إمكانات روسيا نفسها. لا بدّ من التذكير للمرّة الألف بأنّ حجم اقتصاد روسيا دون حجم الاقتصاد الإيطالي. لا توجد أي آلة منزلية من إنتاج روسي في أي بيت روسي. لا تنتج روسيا برّاداً أو مكيّف هواء أو غسالة… أو سيّارة يمكن وصفها بالمحترمة. لم يخرج اقتصادها من الاعتماد على الدخل الآتي من الغاز والنفط. لم يستطع بوتين تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد منتج، مثله مثل النظام الإيراني بعد ثورة العام 1979.

ارتكب فلاديمير بوتين كلّ الأخطاء التي يمكن لسياسي ارتكابها. وصل به الأمر، في نهاية المطاف، إلى الارتماء في الحضن الإيراني. تبيّن أنّ المسيّرات الإيرانيّة لم تحل دون سقوط خيرسون وأنّ كل ما تستطيع هذه المسيّرات عمله هو قتل مزيد من المدنيين وضرب محطات الكهرباء في أوكرانيا وزيادة العذابات اليوميّة للمواطن العادي، لا أكثر. لا تستطيع هذه المسيّرات سوى تحقيق هدف استمرار الحرب وهي حرب لا أفق لها. لم تعد لهذه الحرب شعبيّة في الداخل الروسي. كشفت ذلك حملة التجنيد الفاشلة التي دعا إليها بوتين. فرّ الروس بعشرات الآلاف من بلدهم بدل الالتحاق بالجيش!

لم يدرك الرئيس الروسي، منذ البداية، أنّ الحرب الأوكرانيّة هي حرب تعني أوروبا كلّها. لم يلقِ نظرة إلى خريطة أوكرانيا وموقعها الجغرافي قبل دخول مغامرته التي بناها على تجارب سابقة لم تكن تهمّ العالم. من بين تلك التجارب إخضاع الشيشان والتدخل في جورجيا واحتلال شبه جزيرة القرم في العام 2014 ثمّ المشاركة، بناء على طلب إيراني، في الحرب على الشعب السوري ابتداء من خريف العام 2015.

لم يدرك فلاديمير بوتين، ولن يدرك يوماً، أنّ قتل السوريين وتشريدهم شيء وقتل الأوكرانيين وتشريدهم شيء آخر. إنّه بكل بساطة رجل لا يعرف العالم ولا يعرف أنّ في استطاعته قتل العدد الذي يشاء من السوريين، فيما دخوله إلى أوكرانيا يجعل كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنها صارت مهددة، تماماً كما حصل في العامين 1938 و 1939 عندما بدأ أدولف هتلر يتمدّد أوروبياً.

لم يعد سرّاً أن العالم كلّه يعاني جراء الحرب الأوكرانيّة. ثمّة حاجة إلى إيجاد مخرج أو تسوية تؤكّد أنّ ليس مقبولاً استيلاء روسيا على أي أرض أوكرانيّة. هل لدى الرئيس الروسي استعداد لمثل هذه التسوية، التي تعني بين ما تعنيه، أن استعادة امجاد الاتحاد السوفياتي مجرّد أوهام؟

سيفرض هذا السؤال نفسه في الأسابيع القليلة المقبلة، شاء فلاديمير بوتين ذلك أم أبى. يدفع في اتجاه مثل هذه التسوية كبار الضباط الأميركيين الذين يعرفون تماماً أنّ تمريغ أنف روسيا حصل. يعود ذلك إلى أنّ الحرب الأوكرانيّة كشفت نقاط ضعف الجيش الروسي وتخلّف سلاحه، كما كشفت مدى عمق علاقة فلاديمير بوتين بالنظام الإيراني. رغم ذلك كلّه، تبقى لاستمرار الحرب تكلفة كبيرة، ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على العالم أيضاً.

في كلّ الأحوال، جعلت الحرب الأوكرانيّة فلاديمير بوتين رجلاً من الماضي. سيبقى رجلاً معزولاً لا يحظى بأي احترام خارج حدود بلده… حتّى في بلد مثل الصين. رفضت الصين الدخول في لعبته الأوكرانيّة وفضلت إبقاء مسافة معيّنة بين موسكو وبيجينغ.

كانت استعادة أوكرانيا خيرسون منعطفاً تاريخياً. وضعت فلاديمير بوتين أمام حائط مسدود تحت عنوان عريض. هذا العنوان هو استحالة ربح روسيا الحرب في أوكرانيا.

ليس معروفاً كيف يستطيع الرئيس الروسي، الذي لا يزال يرفض دفع ثمن مغامرته، التعايش مع نظام أوكراني كان يعتقد أنّه سيسقط بمجرد إطلاق قذيفة مدفعيّة واحدة في اتجاه كييف؟…

النهار العربي

————————

=================

تحديث 27 تشرين الثاني 2022

——————————-

عن الحرب في أوكرانيا التي غيّرت العالم/ ماجد كيالي

ليس ثمة صراع أيديولوجي في العالم اليوم، ولا صراع بين نظامين اقتصاديين، فالصراع يدور داخل النظام الرأسمالي ذاته، وعلى نمط العيش والقيم السياسية، بين دول رأسمالية، تنتهج الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان، ودول رأسمالية لا تبالي البتة بالديمقراطية والتمثيل وحقوق الإنسان، بل وتنتهج خطاً استبدادياً إزاء الداخل والخارج في آن معاً.

عندما شنّ فلاديمير بوتين الحرب على أوكرانيا حاول تبرير ذلك بذرائع كثيرة، لعل أهمها تعلق بطموحه خلق نظام دولي جديد، يتمكن عبره من تحقيق حلمه باستعادة مكانة روسيا كدولة عظمى، أو فرض احترامها كقطب دولي، إلا أن تلك الحرب المستمرة، منذ أشهر، أتت بعكس ما توخّى، بل إنها أضرّت بمكانة روسيا الدولية والإقليمية، كما قوضت مشروعية مجمل الادعاءات التي ساقها لغزو أوكرانيا.

مع ذلك فإن التداعيات الكبيرة الناجمة عن تلك الحرب قد تفضي، على ما يبدو، إلى نتائج مهمة، من شأنها ليس تغيير هيكل العلاقات الدولية، فقط، إنما أيضاً تغيير هيكل الاقتصادات الدولية، وفرض قواعد جديدة لعناصر القوة والهيمنة والنفوذ، في العالم، لكن ليس بحسب توقعات بوتين، أو توهّماته.

ولعل أهم تلك التغيرات تمكن ملاحظتها في المجالات الآتية:

أولاً، بينت تلك الحرب أن القوة العسكرية لوحدها (عدد الجيش وترسانته من الأسلحة)، ومساحة الدولة وعدد سكانها، لم تعد تشكل معياراً لقوة الدولة، في المجال الخارجي الإقليمي والدولي. فهذه روسيا، بجبروتها العسكري، وترسانتها الهائلة من الأسلحة، لم تستطع فرض املاءاتها على الشعب الأوكراني، برغم الفارق الكبير في المساحة وعدد السكان والقوة العسكرية. طبعاً تمكن إحالة ذلك إلى صمود الشعب الأوكراني، وإصراره على مقاومة الغزو، وتعاطف الغرب معه (حكومات ومجتمعات)، وتوفر قيادة له استطاعت إدارة موارده البشرية والعسكرية بطريقة جيدة. لكن مع أهمية كل ما تقدم، ثمة عاملان أخران أسهما، أو عززا،  قدرة الأوكرانيين على عرقلة الغزو الروسي: الأول، تمكينهم من امتلاك سلاح متقدم، أو متفوق تكنولوجياً (بالقياس للسلاح الروسي)؛ الثاني، توفر شبكة اتصال ومعلوماتية قوية ومستدامة وناجعة (هذا ما ذكره الرئيس الروسي في خطاب إعلانه التعبئة الجزئية يوم 21/9)، فهذان هما العاملان اللذان حسما لمصلحة تمكين الأوكرانيين من استيعاب الهجمة الروسية، وردها، أو تحجيم نجاحاتها، بل واجبارها على التراجع في بعض المناطق، وآخرها خريستون.

ثانياً، تلك الحرب بينت أن القوة العسكرية، أو امتلاك مواد خام (نفط وغاز)، أو قدرة صناعية ما، لا تعطي أي دولة، حتى وإن كانت بحجم روسيا، مكانة دولية، إذ إن عناصر القوة في العالم اليوم باتت تتأتى من مصادر أخرى، وهي القوة الاقتصادية، وتلك بات محركها تحديداً العلوم والتكنولوجيا، لا الصناعة وحدها، بدليل أن أكبر الشركات وأقواها في العالم اليوم تعتمد على العلوم والتكنولوجيا. وعليه فإن الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، لا تحتل موقع القيادة في العالم من كونها تخصص لنفقات الدفاع بين 700 ـ 800 مليار دولار سنوياً (أكثر من 40 في المئة من الانفاق العالمي)، وهو مبلغ يقدر بنصف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا (1.7 ترليون دولار)، وعشرة أضعاف إنفاقها العسكري السنوي (65 مليار دولار)، فإلى أهمية ذلك، ومع تفوق منظومات السلاح والإدارة لديها، وقوتها التصنيعية، فإن قوتها الأساسية، أو نقطة تميزها، تتأتى من كونها بمثابة القاطرة للتطورات العلمية والتكنولوجية في العالم (بما في ذلك في مجالات الفضاء والطب والطاقة والاتصالات). وهي تصرف 700 مليار دولار سنوياً على البحث العلمي، أي أن إنفاقها على البحث العلمي وعلى الدفاع، يساوي الناتج الإجمالي لروسيا تقريباً. هذا ينطبق على كل من ألمانيا واليابان، أيضاً، إذ إن قوة كل منهما لا تتأتى من قوة جيشيهما، وصناعتهما، وإنما أيضاً من الطاقة الإنتاجية- الاقتصادية التي يمتلكها كل منهما، ومن تقدمهما في مجال العلوم والتكنولوجيا. وبلغة الأرقام، فإن الناتج الإجمالي لروسيا يبلغ 1.7 تريليون دولار، وهي ليست من الدول العشر الصناعية في العالم، برغم أنها أكبر دولة من حيث المساحة في العالم (17 مليون كلم2)، ومع 143 مليون نسمة، وهي تحظى بثروات طبيعية هائلة ومتنوعة. في المقابل فإن الناتج الإجمالي السنوي لكل من اليابان يبلغ 5 تريليونات دولار (378 كلم2)، وألمانيا 4.2 تريليون دولار (357 كلم2)، برغم أن مساحة كل منهما أقل بكثير، ولا تملكان الموارد الطبيعية التي لدى روسيا، علما أن القوة التصديرية لألمانيا هي أربعة أمثال القوة التصديرية لروسيا (مع اختلاف نوعية الصادرات أيضاً). بل إن دولاً مثل إيطاليا وكوريا الجنوبية أقوى اقتصادياً من روسيا (1.8 ترليون دولار)، ولدى كل واحدة منهما تفوقاً في الصادرات، لا سيما أنها صناعية وليست مجرد مواد خام كحال روسيا.

الصين وروسيا وحرب الموازنات

ثالثاً، من جوانب كثيرة، فإن تلك الحرب التي أدت إلى تحجيم روسيا، وظهورها كقوة إقليمية فقط (بحسب تعبير الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما)، أدت أيضاً إلى تعزيز اعتماد روسيا على الصين، أو ارتهانها للصين، التي باتت أهم مستورد لإمدادات النفط والغاز من روسيا، الذي يشكل نحو 40 ـ 50 في المئة من إجمالي صادرات روسيا، و40 في المئة من موازنتها (يليها القمح والأسمدة الكيماوية والسلاح). أما في ما يخص الصين، التي تطمئن إلى كونها قطباً دولياً، بقوتها الاقتصادية والتصديرية، بغض النظر عن التوترات بينها وبين الولايات المتحدة، في مجالات نقل التكنولوجيا والتبادل التجاري وقضية تايوان، فتفترض ملاحظة أن لدى الصين عدد سكان كبيراً جداً هو 1.4 مليار نسمة، وأن متوسط نصيب الفرد من ناتجها الإجمالي (17.7 ترليون دولار) يبلغ 12500 دولار سنوياً، في حين أن متوسط دخل الفرد في الدول الصناعية الكبرى يتراوح بين 35 ألفاً (كوريا الجنوبية وإيطاليا) و70 ألفاً (الولايات المتحدة) في السنة. وإضافة إلى ما تقدم، فإن الصين هي بمثابة مصنع العالم، بسبب تميزها بالعمالة الرخيصة، وهي في هذا المجال لا يمكنها أن تفك ارتباطها بالغرب، فالدول الغربية تستورد أكثر من نصف صادراتها، ثم إن الصين تعتمد تكنولوجيا على الغرب (بخاصة الولايات المتحدة)، وهذا هو سر عدم حماس الصين لتأييد غزو روسيا لأوكرانيا، وسر علاقتها بإسرائيل، بعد الولايات المتحدة الأميركية، إذ تعتبر الصين ثالث شريك اقتصادي لها (بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، مع مبادلات تقدر بـ18 مليار دولار؛ هذا مع كل النجاحات، المثيرة للإعجاب التي تميزت بها الصين في صعودها، بالقياس للهبوط أو الجمود الحاصل في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. مثلاً، في أعوام 2000 ـ 2010 ـ 2021 كان الناتج الإجمالي للصين 1.2، 6، 17 ترليون دولار، في حين كان في روسيا 1.1، 1.2، 1.7، برغم مساحتها الشاسعة وغنى ثرواتها الباطنية وامتدادها بين آسيا وأوروبا.

والفكرة هنا أن العالم في حال تعددية قطبية، أصلاً، لكن التعددية لا تعني المساواة بين غير متساوين، وحل ذلك ليس بالمغالبة العسكرية، وإنما التميز في الاقتصاد وإدارة المجتمع وفي العلوم والتكنولوجيا، وبما تقدمه دولة ما للبشرية، في مجال الطب وعلم الأحياء والهندسة، أي بما يعترف لك العالم به، وليس بما تحاول أن تفرضه بقوة الدبابات والمدافع.

بينت تلك الحرب أن القوة العسكرية لوحدها (عدد الجيش وترسانته من الأسلحة)، ومساحة الدولة وعدد سكانها، لم تعد تشكل معياراً لقوة الدولة.

رابعاً، أدّت الحرب إلى ضعضعة مسار العولمة، الذي انطلق أساساً بالتزامن مع هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، ومع الثورات العلمية والتكنولوجية، لا سيما في وسائل المعلوماتية والاتصال. لكن ذلك الضياع، على الأغلب، هو بمثابة انتكاسة موقتة، وطبيعية، ولا يقين الآن بحدودها، أو بانعكاساتها، على رغم محاولة روسيا إيجاد مجال مستقل لأنشطتها الاقتصادية ومبادلاتها المالية، لكن ذلك قد ينطوي على خسائر فادحة للأطراف المنخرطة فيه، ولا يبدو أن الصين ستعتمد هذا المسار، لأن معظم مبادلاتها الاقتصادية هي مع الغرب. وأقصد من ذلك أن الحرب عززت مسار العولمة، بدل أن تقوضه، وربما هذا يتضح من مسار العمل المشترك الذي انخرطت فيه الدول الأوروبية مثلاً، مع الولايات المتحدة، وحتى بالتضافر مع كندا واليابان واستراليا، وغيرها من الدول. ولنلاحظ حال العزلة التي أصيبت بها السياسة الروسية، فثمة 5 دول أيدت قرار الجمعية العمومية الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي: بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية وأريتريا (أو الارغواي في التصويت التالي)، إضافة إلى روسيا ذاتها. كما يمكن تبين ذلك من عدم تعاطف الصين والهند مع الخطوة الروسية.

أيضاً، في ما يخص بالعولمة، فإن تلك الحرب بينت ضرورة تصحيح أو ترشيد أحد مسارات العولمة، القائمة على الاعتماد المتبادل، وسلاسل الإنتاج والتوريد، إذ بدأت دول كثيرة تعيد النظر باعتمادها على تايوان في أشباه الموصلات، من خلال تأسيس بنية تحتية قوية لتلك الصناعة الاستراتيجية، وهذا حصل في الولايات المتحدة وفي ألمانيا، إذ خصصت الإدارة الأميركية 280 مليار دولار لدعم تلك الصناعة. وقامت شركة “إنتل”، مثلاً، باستثمار 20 مليار دولار لهذا الغرض (في أيلول/ سبتمبر الماضي) في افتتاح مصنع لها في ولاية أوهايو، ضمن خطة استثمارية تقدر بـ100 مليار دولار.

خامساً، سلطت تكاليف الحرب الأضواء على الأرباح الهائلة التي تجنيها الشركات الخاصة، وضمنها شركات الطاقة المتجددة والنووية والعاملة في مجال صناعات النفط والغاز والفحم والتكرير، ما دفع الاتحاد الأوروبي لدراسة إمكانية فرض ضرائب على تلك الأرباح، في محاولة للتخفيف على المواطنين، وتوزيع أكلاف الحرب، وهو تطور مهم في الجانب الاقتصادي في تلك الدول التي تعتمد الاقتصاد الحر، ربما يكون لها امتدادات أخرى مستقبلاً. وكدلالة على تأكيد هذا التوجه، ربما يجدر تذكر أن قمة الدول الصناعية السبع (حزيران/ يونيو 2022 كورنوال إنكلترا)، أقرت التوافق على فرض حد أدنى عالمي للضرائب على الشركات الكبرى متعددة الجنسية، في تحول لافت نحو زيادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، ما يتناسب مع توجه داخل الولايات المتحدة بتخصيص مبالغ من ميزانيتها لدعم قطاع الأعمال التكنولوجي، لمواجهة صعود الصين، التي لا تشتغل وفق قواعد الاقتصاد الحر.

الطريق إلى الطاقة النظيفة

سادساً، سرعت الحرب، وضمنها الحرب على إمدادات الطاقة، التحول الدولي نحو الطاقة النظيفة، وربما سيكون ذلك التحول الحامل الأساسي لمجمل البنية الصناعية في المستقبل، بعد الانتقال من الآلة البخارية إلى الآلة الكهربائية، ومن الميكانيك إلى الاوتوماتيك، فيبدو أن الطاقة الخضراء، وضمنها الطاقة الهيدروجينية، ستكون هي الأساس، وقد خصصت الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية مئات مليارات الدولارات لحث السير في هذا الاتجاه، وتسريعه، وتوسيعه، للتحرر نهائياً من الارتهان للطاقة الأحفورية.

سابعاً، عززت، تلك الحرب، أيضاً، التوجه نحو امتلاك الفضاء، والحروب السيبرانية، والاهتمام بفضاء الإنترنت، في الصراع على الرأي العام، وهو ما تجلى في التوجه نحو تحرير الانترنت من قوننة الدول بإتاحته عبر الأقمار الاصطناعية. في هذا المجال مثلاً، يعتزم إيلون ماسك إطلاق عشرات آلاف الأقمار الاصطناعية في الفضاء، ضمن مشروع «ستارلينك» التابع لشركة «سبيس إكس»، بهدف توصيل الإنترنت لجميع أنحاء العالم عبر إطلاق أقمار صناعية مدارية قريبة من الأرض، خلافاً للأقمار التقليدية، وهي منذ 2015 حتى الآن نشرت نحو 1800 قمر صناعي، وبدأت في نشر الخدمة في بعض الأجزاء من الكرة الأرضية (الولايات المتحدة وكندا وبعض دول أوروبا، ضمنها أوكرانيا بالطبع)، بما يغطي 32 دولة حتى الآن، وهذا سيشمل إيران أيضاً بحسب تصريح لإيلون ماسك، على ما شهدنا في الفترة الأخيرة.

امتلاك الفضاء

مع ذلك يجدر لفت الانتباه إلى أن أبحاث الفضاء، وامتلاك الفضاء، ليسا بجديد، ما يذكر بـ”مبادرة الدفاع الاستراتيجي لعسكرة الفضاء” أو ما سمي حينها “حرب النجوم” (إبان إدارة رونالد ريغان في الثمانينيات) لاستخدام الأرض والنظم الفضائية وحماية الولايات المتحدة من هجوم بالصواريخ الباليستية النووية. ومعلوم أن تلك الحرب كانت استنزفت الاتحاد السوفييتي، وشكلت أحد عوامل انهياره. كما أن الإدارة الأميركية السابقة (إدارة ترامب) ركزت على هذا الجانب، إذ كانت أعلنت عن برنامج تطوير لنظام مضاد للصواريخ الباليستية (صيف 2018)، وتشكيل “قوة فضائية”، بحيث تصبح الذراع السادسة في الجيش الأميركي، وتطوير أجهزة استشعار في الفضاء، يمكنها رصد إطلاق الصواريخ، وتدميرها لحظة إطلاقها، من أي مكان في العالم، وليس فقط في مسارها، كاشفاً في كل ذلك سعي الولايات المتحدة لجعل الفضاء بمثابة المفتاح لتكريس هيمنتها وترسيخ تفوقها العسكري، على دول العالم، سيما أنها تملك الوسائل التي يمكنها أن تفعل ما تقوله، لجهة توفر الموارد المالية، والإمكانيات التكنولوجية والعلمية، والكوادر البشرية، والمجال الحيوي، في الأرض والفضاء. وبحسب تعليق لوكالة الأنباء الصينية، في حينه، فقد “نجحت الولايات المتحدة في تطوير أسلحة يمكن أن تطلق من قواعد فضائية، من بينها بعض الأسلحة التي تفوق الخيال مثل (Rods from God)، وهي بمثابة عصا مصنوعة من معدن التنجستن، أو التيتانيوم، أو اليورانيوم، تبلغ زنتها أطناناً، وتستطيع عند إطلاقها من منصة على قمر اصطناعي يدور في الفضاء، إصابة أي هدف على الكرة الأرضية في أي وقت وبقوة مماثلة للقنبلة النووية”. (شينخوا، آب/ أغسطس 2018). على ذلك فإن الحرب الروسية في أوكرانيا أعطت دفعة جديدة لهذا القطاع، إذ أطلق البيت الأبيض في نيسان/ أبريل (2022) إستراتيجية وطنية بعنوان “الإستراتيجية الوطنية للصيانة والتجميع والتصنيع في الفضاء” (الجزيرة نت 7/8/2022). بيد أن ما يحصل في ما يتعلق بأبحاث الفضاء لا يتعلق بحروب المستقبل، فقط، إذ إن ذلك يتضمن فتوحات كبيرة في العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد، تفيد البشرية في مجالات الطب والمناخ والبيئة والاتصال، وهو اقتصاد يناهز مئات مليارات الدولارات، من حيث التكاليف والأرباح، ومن الصعب التكهن الآن أين سيصل الأمر في هذا المجال.

في الختام، ليس ثمة صراع أيديولوجي في العالم اليوم، ولا صراع بين نظامين اقتصاديين، فالصراع يدور داخل النظام الرأسمالي ذاته، وعلى نمط العيش والقيم السياسية، بين دول رأسمالية، تنتهج الديمقراطية الليبرالية، وحقوق الإنسان (رغم كل الثغرات والنواقص)، ودول رأسمالية لا تبالي البتة بالديمقراطية والتمثيل وحقوق الإنسان، بل وتنتهج خطاً استبدادياً إزاء الداخل والخارج في آن معاً. والدول من النمط الأول، برغم كل المآخذ على ديمقراطيتها وسياساتها (بخاصة الخارجية)، هي التي تبدو مرنة وعقلانية، وهي المنتج الأكبر للعلوم والتكنولوجيا في العصر الحديث، وبالتالي هي قاطرة التطورات الاقتصادية والاجتماعية في هذا العصر.

درج

—————————–

ماذا يُخبئ بوتين بعد هزيمته المُذلة في خيرسون؟/ محمد خلف

بوتين الذي كان كرر أن خيرسون هي جزء لا يتجزأ من التراب الروسي تعمد التغيب والتخفي بعدما فقد ماء وجهه ولم يتجرأ على حضور لحظة الإعلان عن اتخاذ قرار الانسحاب.

المعلق الروسي المقرب من الكرملين فلاديمير سولوفيف، اغرق مشاهدي برنامجه في القناة الروسية الرسمية بسبب احلامه وتمنياته التي قصم ظهرها الاوكرانية في ملحمة خيرسون قائلاً بألم، “كنت أريد أن أرى علمنا يرفرف، في سماء كييف في آذار/ مارس”، مضيفاً، “لقد كان الأمر مؤلماً، عندما انسحبت قواتنا من كييف، ومن ثم تشيرنيهيف والآن من خيرسون، لكن هذه هي الحرب، فنحن نحارب الناتو”.

بهذه السردية المثيرة للسخرية تسعى موسكو إلى تبرير هزائمها العسكرية المتواصلة أمام القوات الأوكرانية، متجاهلة بذلك أنها تقر بتفوق الغرب على قواتها وأسلحتها العسكرية، التي ظلت تفخر بما حققته من إنجازات في سوريا. يحاول الكرملين تهدئة غضب الروس وسخطهم من هزيمة بلدهم المذلة، عبر توجيه اللوم للغرب وبالتحديد للولايات المتحدة التي تريد إذلال روسيا كما تقول وسائل إعلام تابعة لبوتين. تدعي روسيا أنها تواجه أميركا، وبريطانيا، والاتحاد الأوروبي، والناتو، وتلقي بتبعية خساراتها المُرّة الواحدة تلو الأخرى في ساحات المعارك إلى تدخل الأعداء الخارجيين.

لا يكف الصحافيون والمحللون الناطقون باسم النظام عن تحذير أي فرد روسي أينما كان موقعه من عواقب وخيمة إذا انتقد الجيش الروسي، أو الرئيس، بسبب ما يحصل في أوكرانيا، داعياً الجميع بدلاً من ذلك الى رفع اعلام روسيا عالياً.

 إلا أن التهديد بالسجون والغرامات لمن ينتقد الحكم لم يمنع منتقدي النظام من المثقفين والعامة من نشر تغريدات تدين الانسحاب.

 بوتين الذي كان كرر أن خيرسون هي جزء لا يتجزأ من التراب الروسي تعمد التغيب والتخفي بعدما فقد ماء وجهه ولم يتجرأ على حضور لحظة الإعلان عن اتخاذ قرار الانسحاب، موكلاً هذه المهمة إلى وزير دفاعه سيرغي شويغو وقائد قواته في سوريا الجنرال سيرغي سوروفكين، متذرعاً بالاحتفال في مكان آخر بذكرى 75 عاماً على إنشاء الوكالة الفيدرالية الطبية- البيولوجية.

لا يكف الصحافيون والمحللون الناطقون باسم النظام عن تحذير أي فرد روسي أينما كان موقعه من عواقب وخيمة إذا انتقد الجيش الروسي، أو الرئيس، بسبب ما يحصل في أوكرانيا، داعياً الجميع بدلاً من ذلك الى رفع اعلام روسيا عالياً.

هل صدق أحد في روسيا وفي العالم هذه الذريعة التي بدت أقرب إلى النكتة السمجة، بوتين  يعي جيداً أن شعبه قبل العالم كله، يعرف أنه المسؤول والمذنب الأول عن كل نكسات جيشه وهزائمه في أوكرانيا، ويدرك وبعمق أن هزائم جيشه هي هزائمه قبل كل شيء، وهي كلها تنخر في صورته كقائد حازم وزعيم لا يقهر. 

ماذا تعني خيرسون؟

خيرسون  وفقاً لتوصيف “وول ستريت جورنال”، كانت المدينة الساحلية الرئيسية، والعاصمة الإقليمية الوحيدة التي استولى عليها الروس منذ بدء هجومهم على أوكرانيا، والتي طالما اعتبرها بوتين “بوابة لميكولايف وأوديسا، وللسيطرة على كل ميناء أوكراني على البحر الأسود، وربما كان من المحتمل أن يكون غزو مولدوفا هو التالي”.

تأتي أهمية خيرسون  الأولى في كونها  بوابة لشبه جزيرة القرم، وبالتالي فإن سيطرة الأوكرانيين عليها، ستغريهم بمواصلة المعارك مهما كانت شرسة ومكلفة لاستعادة شبه جزيرة القرم. وتتأتى أهمية خيرسون أيضاً من رمزيتها باعتبارها أول عاصمة إقليمية أوكرانية- والوحيدة- التي يحتلها الروس.

وتتمتع خيرسون بأهمية استراتيجية فائقة، لأنها أولاً ميناء رئيسي، وثانياً نقطة وصل أساسية، بمعنى الطريق الموصل بين الأجزاء التي تسيطر عليها روسيا من دونباس (لوهانسك ودونيتسك) وشبه جزيرة القرم، وهي الممر إلى مدن البحر الأسود الساحلية الواقعة تحت سيطرة أوكرانيا مثل أوديسا. وبالتالي فإن كييف تمتلك الآن خيار تهديد إمداد المياه في شبه جزيرة القرم، والتحكم بها لمدى طويل وجعلها ورقة تفاوضية مركزية عندما تحين فرصة الجلوس على الطاولة مع روسيا والوسطاء الدوليين. كما أن خيرسون تتميز بموقع إستراتيجي تطل منه على بحري آزوف والأسود، كما تقع قرب مصب نهر دنيبرو، وبالتالي فهي تمثل خط إمداد حيوي. ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون شخص، وتمتد على مساحة 28 ألفاً و500 كيلومتر مربع.

يعكس الانسحاب الروسي أمرين: الأول، التفوق العسكري الأوكراني على روسيا خصوصاً بعد هجوم خاركيف المفاجئ خلال الصيف، والذي أظهر امساك الأوكرانيين بزمام المبادرة، والذي تحقق بفضل تفوقهم العددي وتحسن أدائهم العسكري المضطرد. أما الثاني فيتمثل في انخفاض معنويات الجنود الروس الذين يرى الكثير منهم أنهم ضُحي بهم، وبالتالي لا يريدون القتال.

خسارة روسيا لخيرسون برأي غالبية المحللين “تؤشر إلى مرحلة جديدة  يتحدد من خلالها مستقبل الحرب وربما مصير بوتين نفسه، لا سيما أنه مع جنرالاته باتوا على يقين كامل بأن الأهداف التي أرادوا تحقيقها من هذه الحرب تبدو مستحيلة وفق تقرير لموقع “ذي كونفرسيشن”. وقد توقع الخبير العسكري الفرنسي سيدريك ماس أن الإستراتيجية الروسية واضحة جداً، كونها تنطلق من أن عليهم أن يجتازوا الشتاء بأقل الخسائر، وهو ما يتطلب إجلاء الجنود من المناطق التي قد تتسبب في خسائر فادحة. وبالنسبة إلى الجيش الروسي، فسيكون من الأسهل الدفاع عن الضفة اليسرى لنهر دنيبر، أمام الهجمات الأوكرانية المتواصلة والهادفة إلى الضغط عسكرياً  على روسيا في هذه المنطقة بالتحديد. حتى الآن يسود شبه اتفاق بين المحللين العسكريين وخبراء السياسة الروسية، بأن هناك معركة أخرى «أكثر ذكاءً» يخطط لها سراً الجنرالات الروس الذين يرسلون إشارات «خادعة» تهدف إلى إرباك أعدائهم، ونصب الفخاخ لهم.

تغييرات الاستراتيجيات وضخ البروباغندا المهزوزة 

بعد فشلها في السيطرة على العاصمة كييف وفرض سلطة موالية لها من الدمى الأوكرانية، بدلت روسيا اهدافها وتحولت إلى محاولة ربط إقليم الدونباس بما يسمى “ممر القرم”، سعياً وراء عزل أوكرانيا نهائياً عن البحر الاسود، وجعلها دولة من  دون اطلاله على البحر. 

 تعد الأنهار في الحروب بمثابة حواجز دفاعية طبيعية في الاتجاهين، و يؤدي التخلي عن الأراضي عبر نهردنيبرو إلى إبطاء التقدم الأوكراني، إلا انه  أيضاً يجعل من المستحيل على القوات الروسية التقدم على طول ساحل البحر الأسود، إلا في حالة حدوث تحول دراماتيكي في الحرب لمصلحة روسيا، وهو احتمال بعيد الحدوث.

نجاح كييف إذاً في استعادة خيرسون سيجعل كل الطرق المؤدية إلى شبه جزيرة القرم  تحت مرمى الصواريخ الاوكرانية وبالتالي لن يكون بمقدور القوات الروسية تحقيق أي تقدم عسكري. يحدث ذلك بموازاة تنامي قدرات القوات الأوكرانية على مهاجمة القرم بشكل يفوق عمليتي تفجير جسر القرم، وضرب قاعدة ساكي الجوية في آب/ أغسطس الماضي. هذا فضلاً عن تمكن القيادة العسكرية الاوكرانية من إعادة توزيع ونشر قواتها حول زابوروجيا وإعادة تنظيم ونشر قواتها للتقدم نحو ميليتوبول، ما سيهدد بشكل كبير جزيرة القرم من الشرق. 

تأتي أهمية خيرسون الأولى في كونها  بوابة لشبه جزيرة القرم، وبالتالي فإن سيطرة الأوكرانيين عليها، ستغريهم بمواصلة المعارك مهما كانت شرسة ومكلفة لاستعادة شبه جزيرة القرم.

 يمثل فقدان خيرسون علامة أخرى على الضعف المتزايد في الدائرة الضيقة من المستشارين والاوليغارشيا المقربة من بوتين، والتي أبرزتها سلسلة غير منقطعة من الهزائم العسكرية، لأنه بالنسبة إلى روسيا مثلت السيطرة على خيرسون أمراً محورياً للدفاع عن شبه جزيرة القرم، إضافة إلى كونها بمثابة نقطة انطلاق لعملياتها الهجومية. هذا يفسر تواصل الدعاية الرتيبة والمملة في الميديا الرسمية الروسية وفي ما يرد على لسان صحافيي البلاط القيصري حول “أن الانسحاب هو لخلق مواقع دفاعية افضل”. فالانسحاب جدد بركاناً من الانقسامات داخل اجنحة السلطة الحاكمة، وتجلى في الانتقادات الحادة لصحافيين ومحللين محسوبين على الكرملي، وشخصيات مثل سيرغي بريغوجين المعروف بطباخ بوتين ورئيس الشيشان صديق بوتين المقرب رمضان قاديروف وآخرين. 

الإمبراطورية وعلامات الجشع التجاري

يرى المحللون أن الخلافات داخل المعسكر المؤيد للحرب قد  تعطي بوتين مساحة للتنفس. ولم تخل التعليقات من السخرية، برغم سحق كل الأصوات المعارضة. وتساءل أحدهم على تويتر: “أين تنتهي حدود روسيا؟”، مجيباً: “عند الحدود التي لم تهزم فيها”.

اعتبرت صحيفة “واشنطن بوست” في تقرير لها عن تطورات الأحداث في خيرسون أن “الانسحاب من خيرسون  من شأنه أن يعزز أوكرانيا وداعميها الغربيين قبل الشتاء، حيث من المتوقع أن تنخفض حدة القتال”. من هنا، فإن تغيير السردية الروسية من الفشل إلى النجاح ليس إلا محاولة يهدف من خلالها بوتين الى تكميم الافواه والأصوات المنتقدة للهزيمة في خيرسون، ما ينبئ بجولات من التدمير المبرمج والعنف ضد المدنيين وضد المراكز السكانية وامدادات الطاقة والمياه والبنى التحتية الاخرى، بغية كسر شوكة المدنيين بعد فشله في لوي عنق القيادتين السياسية والعسكرية. 

ولا يستبعد المحلل في “فورن افيرز” بيتر كليمنت “أن تكون الخطوة الروسية حصلت بمعزل عن شيء ما تحضر له موسكو في المرحلة المقبلة، فلا يعقل أن تقوم بالانسحاب من أراض ضمتها إليها من دون ان تحقق إنجازاً عسكرياً استراتيجياً بديلاً. وتذهب قراءات أخرى إلى أن الانسحاب يرتبط بشكل أساسي بهزيمة الجيش الروسي في حربه على أوكرانيا. وهو الرأي نفسه الذي تتبناه الباحثة في المركز الأوروبي التابع للمجلس الأطلسي ريتشل ريزو بقولها، “إن ما يحدث في خيرسون هو بسبب الأحداث الجيوسياسية والهزيمة الإستراتيجية الكبيرة للجيش الروسي”. وبحسب محرر الشؤون العسكرية في وكالة تاس الروسية فيكتور ليتوفكين، فإن روسيا قدمت فرصة للجيش الأوكراني ليتقدم إلى الجانب الأيمن من نهر دنيبرو، وبالتالي سيكون بإمكان الجيش الروسي وضع افخاخ مميتة للقوات الأوكرانية. وتمسك ليتوفكين بالرواية الروسية القائلة إن القوات الروسية انسحبت من أجل حماية المدنيين في خيرسون خوفاً من أن تغرقهم القوات الأوكرانية بالمياه بقصف متعمد لأحد السدود.

بالعودة إلى الفترة التي تلت ضم شبه جزيرة القرم الى الاتحاد الروسي، كان بوتين اعلن ما سماه “نوفو روسيا”، وهي المنطقة الواقعة شمال البحر الأسود التي كانت ضمتها كاترين العظيمة في القرن الثامن عشر، والتي تضم وفقاً لقوله خاركيف وخيرسون ولوغانسك ودونيتسك وميكولايف وأوديسا، مناطق وصفها الزعيم الروسي آنذاك بأنها “ليست جزءاً من أوكرانيا”. المشكلة أن الأميركيين والأوروبيين لم ينتبهوا الى هذه الكلمات الخطيرة وما تخفيه من معان وآفاق تهدد الكيان الاوروبي بحرب كارثية جديدة اعتقدوا أن حصولها غير وارد، وهو ما كشفته هذه الحرب المخطط لها منذ فترة بعيدة لإنهاء وجود أوكرانيا واعادتها الى الحضن الروسي، بعدما أفلتت منه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

لم تتوقف محاولات روسيا للسيطرة على السلطة في أوكرانيا، فقد فشلت في فرض رجلها الذي كان وصل إلى كرسي الرئاسة في كييف والإطاحة به بعد ثورة الميدان الملونة وفراره الى موسكو.

لدى بوتين الآن خيارات قليلة ولكن الاستمرار في المضي قدماً لجعل هذه الحرب أكبر؛ إما أكبر في أوكرانيا أو أكبر من خلال التقدم خارج حدود أوكرانيا. التصعيد مبني على الوضع الحالي وقد وصلت أوروبا إلى لحظة خطيرة للغاية في تاريخها الحديث.

درج

——————————-

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا: موجة من زعزعة الاستقرار تمتد من القوقاز إلى آسيا الوسطى/

فيكين شيتريان

صاحبت ضعف الموقف الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى أنباء عن سحب روسيا القوات من قواعدها في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي لإعادة نشرها في أوكرانيا.

شهدت الحالة الأمنية في القوقاز وآسيا الوسطى تصعيداً حاداً في أعمال العنف في أيلول/ سبتمبر من هذا العام. فقد شنت القوات المسلحة الآذربيجانية هجوماً واسعاً على ست اتجاهات مختلفة داخل الأراضي الأرمينية المجاورة في 12 أيلول الماضي. وبعد 48 ساعة من المعارك المكثفة، لقي حوالى 300 شخص مصرعهم (بحسب التقارير الرسمية، أسفرت المعارك عن مقتل 207 جنود أرمن و80 جندياً أذربيجانياً). وخلال الأيام نفسها من 14 إلى 20 أيلول، وعلى بعد نحو 3 آلاف كيلومتر إلى الشرق، اندلعت اشتباكات عنيفة على الحدود بين قيرغيزستان وطاجيكستان، في الركن الجنوبي الشرقي من وادي فرغانة. ولا يزال عدد القتلى محل خلاف، لكن الأرقام الرسمية للضحايا تجاوزت 100 قتيل، في حين تم إجلاء 140 ألف مدني فقط من الجانب القرغيزي من الحدود.

ربط محللون بين اندلاع أعمال العنف في القوقاز وآسيا الوسطى، بحالة الضعف التي تشهدها روسيا بسبب حربها في أوكرانيا. كتب أحد المحللين أنه في حين كانت خطة بوتين الأصلية هي احتلال أوكرانيا وتعزيز النفوذ الروسي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، “فقد  عجلت موسكو بقوة من تراجع نفوذها في جميع أنحاء أوراسيا، بما في ذلك دول الاتحاد السوفياتي السابق في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى”. بل ذهبت المؤرخة الفرنسية مارلين لارويل في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” إلى ما هو أبعد من ذلك، بقولها إن الأمر لا يقتصر على خسارة روسيا نفوذها في منطقة ما بعد الاتحاد السوفياتي، ولكن أيضاً “يبدو أن روسيا لم تعد قادرة على العمل بوصفها ضامناً للأمن الإقليمي للأنظمة المحلية (…)، ومن المؤكد أن الكثير من القوى، وبخاصة الصين وتركيا، سوف تستفيد من ذلك”.

صاحبت ضعف الموقف الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى أنباء عن سحب روسيا القوات من قواعدها في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي لإعادة نشرها في أوكرانيا. فعلى سبيل المثال، أفادت بعض التقارير الجديدة في أيلول أن روسيا سحبت حوالى 1500 من الأفراد العسكريين من طاجيكستان وحدها. بعبارة أخرى، نتيجة للحرب المستمرة في أوكرانيا، أصبحت المؤسسة العسكرية الروسية ضعيفة، وبات نفوذها على الأرض أقل كثيراً من ذي قبل.

بعد عقدين من الزمان من العمل بحرص على ترسيخ صورة رسمية للقوة والنزعة المحافظة، مُني بوتين بهزيمة بالفعل في حربه على أوكرانيا.

وفي هذا الصدد، من الضروري توضيح نقطتين: النقطة الأولى هي أن الصراعات في القوقاز وآسيا الوسطى لها تاريخ يتجاوز الغزو الروسي لأوكرانيا. فقد كانت أحدث الاشتباكات في القوقاز هي توابع حرب قره باغ الثانية عام 2020، عندما شنت آذربيجان حرباً جديدة على القوات الأرمنية في إقليم قره باغ وأرمينيا. وعلاوة على ذلك، فإن صراع قره باغ له جذور قديمة في فترة انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد بدأ الصراع عام 1988 عندما طالب السكان الأرمن المحليون بتغيير وضع “منطقتهم المتمتعة بالحكم الذاتي”، وهو مطلب تحول إلى حرب شاملة مع حصول أرمينيا وآذربيجان على الاستقلال (1992-1994). وعلى نحو مماثل، وقعت الاشتباكات الحدودية بين قيرغيزستان وطاجيكستان بالفعل في ربيع عام 2021، مجدداً قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا. فضلاً عن ذلك، فقد شهد وادي فرغانة نزاعاً للسيطرة على الموارد الطبيعية مثل الأرض والمياه، ما أدى إلى تصاعد التوترات العرقية بسبب ظهور الحدود الدولية التي يرجع تاريخها إلى أواخر سنوات الاتحاد السوفياتي.

أما النقطة الثانية فهي أن روسيا لم تكن راعية السلام، ولا الجانب الذي يُفضل حل النزاعات. في الواقع، حاولت روسيا الحفاظ على نفوذها من خلال التوازن بين أطراف النزاع،  كما حدث في النزاع بين أرمينيا وأذربيجان. فالوجود العسكري الروسي في أرمينيا لم يمنع أذربيجان من شن حرب قره باغ الثانية. وعندما لم يكن هذا التوازن ممكناً، اختارت روسيا التدخل العسكري المباشر، كما حدث في جورجيا عام 2008. ولكن لا ينبغي لأحد أن يشيطن الدور الروسي في النزاعات التي اندلعت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؛ إذ إن الجهات الفاعلة المحلية لديها إرادة وتتحمل مسؤولية تحويل التوترات والصراعات السياسية إلى نزاعات مسلحة.

حرب أوكرانيا ونهاية نموذج بوتين الاستبدادي

من خلال غزو أوكرانيا، أضعف بوتين الأساسين اللذين قام عليهما حكمه الاستبدادي. أحدهما هو استعراض القوة، التي غالباً ما ترتبط بالقوة العسكرية. فقد وعد بوتين بأن يجعل من روسيا قوة عالمية عظمى مرة أخرى وأن يستعيد “احترام” الغرب، لا سيما الولايات المتحدة. وكانت الدعاية الروسية التي ترعاها الدولة موجهة نحو هذا الهدف، فقد نشرت صور الآلات الحربية الجديدة، والعروض العسكرية في الساحة الحمراء، وكذلك العمليات العسكرية الروسية في سوريا كانت ترمي إلى نفس الغرض. بيد أن القادة الروس كانوا مدركين أيضاً تخلفهم عن القوة العسكرية الأميركية، ومن هنا جاء تركيزهم على مبدأ “الحرب الهجينة”. فمن خلال غزو أوكرانيا، قوض بوتين أسس حكمه الاستبدادي.

يقوم أي نظام استبدادي على اتفاق ضمني مع الشعب الذي يحكمه. وفي حالة بوتين، ساهم ذلك في إرساء قواعد “الاستقرار” مقابل الاستيلاء على المجال العام. فقد تسببت سنوات من عدم الاستقرار في ظل حاكمين سابقين، ميخائيل غورباتشوف، وما صاحب حكمه من برامج الإصلاحات الاقتصادية “إعادة الهيكلة” (البيريسترويكا)، وبوريس يلتسن، وما رافق حكمه من فترة انتقالية لا نهاية لها، في شعور الشعب الروسي بالقلق إزاء التغيير. لذا، فقد وعد بوتين بعدم إحداث أي تغيير أو الاستقرار، بما في ذلك إنهاء الإصلاحات الداخلية التي تشتد الحاجة إليها، وفي المقابل كان لزاماً على عامة الناس أن يتحولوا إلى شعب لا يكترث بالسياسة. ومن خلال الحرب التي شنها على أوكرانيا، لا سيما التعبئة الجماهيرية، يقوض بوتين الأساس الثاني من حكمه الاستبدادي.

ثالثاً، يختلف تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 نوعياً عن الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم عام 2014. ففي حالة غزو 2014، نجح بوتين في إثارة موجة من الحماس القومي، ما جعل الرأي العام ينسى الانتخابات الرئاسية عام 2012، حيث أصاب تبادل السلطة بين بوتين وميدفيديف، الأمر الذي يشبه لعبة “الكراسي الموسيقية”،  الكثير من الناخبين بالإحباط.

وبعد عقدين من الزمان من العمل بحرص على ترسيخ صورة رسمية للقوة والنزعة المحافظة، مُني بوتين بهزيمة بالفعل في حربه على أوكرانيا. وعلى الرغم من أن المعارضة المدنية داخل روسيا محظورة وتتعرض لقمع شديد، فإن الروس يصوتون بالرحيل: فقد غادر أكثر من 700 ألف روسي البلاد منذ بدء “العملية الخاصة”.

النزاعات المحلية ومنافسة القوى العظمى

من المؤكد أن المغامرة الأوكرانية ستقلل من النفوذ الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى: على سبيل المقارنة، في كانون الثاني/ يناير من هذا العام، دعت النخبة الكازاخستانية إلى التدخل العسكري الروسي من أجل وضع حد للانتفاضة الداخلية. بيد أنه منذ الغزو الأوكراني، بدأت النخبة الكازاخستانية في اتخاذ خطوات تنأى بنفسها عن بوتين ومشروعه التوسعي الذي يشكك في سيادة دول ما بعد الاتحاد السوفياتي، لا سيادة أوكرانيا وحدها.

لقد بدأ غزو أوكرانيا وفشل روسيا يرسم معالم الخلافة في مرحلة ما بعد بوتين. إذ ستخرج روسيا من هذه الأزمة وقد أصبحت أكثر ضعفاً، بسبب جيشها المَكلُوم، وتضاؤل قدرتها ومكانتها عالمياً. علاوة على ذلك، فإن آلة جني المال التي استند إليها بوتين في استقراره، وهي صادرات النفط والغاز، سوف تنخفض إلى حد كبير بسبب العقوبات الغربية. وقد يسعى الجيش الروسي إلى إعادة الانتشار في أعقاب الفشل في أوكرانيا، في حين قد تسعى النخبة السياسية إلى تبني نهج انعزالي متزايد. وبعد بوتين، ستحتاج روسيا إلى استدراك الإصلاحات التي رفض بوتين تنفيذها على مدى عقدين من الزمان.

لا تعني حالة الضعف والانعزالية التي تعاني منها روسيا أن الصراعات في القوقاز أو آسيا الوسطى أو الشرق الأوسط ستجد حلاً أسهل. إذ نشهد بالفعل زيادة حدة منافسة القوى العظمى في منطقة القوقاز، والتي تتزايد أهميتها الاستراتيجية بوصفها ممراً بين الاقتصادات الآسيوية والأسواق الأوروبية. ولا ينبغي لنا أن نتصور أن النفوذ الروسي قد ينحصر في تلك المناطق. حتى روسيا في ظل ما  تعانيه من حالة ضعف ستظل طرفاً مهماً في المناطق المتاخمة جغرافياً لروسيا نفسها.

درج

—————————–

====================

تحديث 08 كانون الأول 2022

————————–

صورة بوتين في عيون الفلاسفة/ أبو بكر العيادي

منذ غزو أوكرانيا، ما انفك السّاسة والمحللون السياسيون في فرنسا يتنافسون في وصف الطبيعة اللاديمقراطية للسلطة التي يمارسها فلاديمير بوتين في روسيا، حيث تجرى في العادة انتخابات، ولكن غالبا ما تكون فقط لفرض أمر واقع، بسبب غياب الضمانات الديمقراطية كما هو الشّأن في البلدان الغربية، ذلك أن المعارضة مكمّمة، وزعماءها في السجن أو المقبرة أو المنفى. مثلما يختلفون في وصف بوتين نفسه، ضابط المخابرات السابق الذي رمت به الأقدار والصدف العجيبة إلى سدّة حكم قوة عظمى. فهل هو طاغية، أم مستبدّ، أم دكتاتور؟

لقد تعودنا أن نخلط بين تلك المصطلحات ونسم بها مجتمعة الشخص الواحد، والحال أن الفلاسفة يميّزون بين الطغيان والاستبداد والدكتاتورية، وسنحاول في هذه الورقة أن نعرف أيها ينطبق على الزعيم الروسي من خلال ما ورد في كتابات ثلاثة فلاسفة هم على التوالي أفلاطون ومونتسكيو وكارل شميت.

لئن كان أفلاطون من أوائل من حللوا خصائص الطاغية tyran، لكونه مناهضًا للديمقراطية، فإنه لا يريد أن تختلط صورة الفيلسوف الملك، الذي يودّ أن يعهد له بحكم مدينته الفاضلة، بصورة الطاغية. ففي الكتابين الثامن والتاسع من “الجمهورية” يبين أفلاطون أن الطاغية، المتحدر من الشعب الذي يبدأ بامتداحه، دائما ما يشعل فتيل الحروب ليرغم ذلك الشعب على منحه سلطة مطلقة. ثمّ لا ينفك يفرط في استعمال تلك السلطة، وقد استبدّت به رغبته وحدها، حتى تزداد نفسيته اختلالا، فما يلبث أن يصبح ساهدًا، ومدمنا على الخمر، ومهووسا بحبّ الذات، ومجنونًا في وجه من الوجوه. وعندما يفقد أصدقاءه، لأنه تنكر لهم جميعًا، ينتهي به أمره إلى العيش وحيدًا في أغلب الأوقات، منغلقا على نفسه في بيته، حاسدًا كلّ من يتنقل ويسافر بحرية. وإذا كان الفيلسوف الملك، ذو الأصل الأرستقراطي، المجبول على الفضيلة، يحكم برشد وعدل، وشجاعة واعتدال؛ فإن الطاغية عبد حقيقي، محكوم بالدّناءة القصوى، رغم البذخ الذي يحيط به. وهو إلى ذلك سفّاك دماء، حتّى أن أفلاطون يشبهه بالإنسان الذئب (lycanthropos).

فهل ينطبق ذلك على بوتين؟ ليس تمامًا، يقول أهل الذكر، فلئن كان في ميله إلى الحرب ونزوعه إلى البرانويا وجنون العظمة بعض سمات الطّاغية، فلا شيء في سلوكه يدل على نفسية مضطربة أو مختلة.

فهل هو إذن مستبدّ؟ (despote). لقد ظهرت هذه العبارة اليونانية الأصل (وتعني ربّ البيت) في العصر البيزنطي، ثمّ راجت على ألسنة تجار فينيسيا في حديثهم عن قائد الإمبراطورية العثمانية، وقد أخذها مونتسكيو من بعدهم في “روح القوانين”، حيث اختارها بوصفها شكلا جديدا من الحكم يقع بين الملك والقائد الجمهوري. وفي رأيه أن المستبد شبيه بالطاغية في شراهته وميله إلى الملذّات، بيد أنه يختلف عنه، بثلاثة ملامح مخصوصة، حسبما لاحظه في الأنموذجين الصيني والتركي:

أولها أن السلطان يعتمد، في بسط نفوذه على فضاء جغرافيّ شاسع، على نقل نفوذه المطلق حسب نظام تراتبيّ متسلسل، على نحو يكون فيه الوزير هو المستبدّ، ويغدو كلّ ضابط هو الوزير. نقل السلطات كاملة بهذه الكيفية لا يخلق أنظمة وسطى تسمح بتلطيف ممارسة السلطة، لا، بل يساهم في غرس مخافة السلطان في قلوب أفراد الشعب في كلّ نقطة من الإمبراطورية.

وثاني ملامح المستبدّ الشرقي في نظر مونتسكيو هو أن الحكم الذي يمارسه بالتخويف ينسف كل ميل إلى الاحتجاج، حيث يبادر المستبدّ بقمع كل صوت ناشز دون شفقة ولا رحمة. وإذا كان البشر “هم كلّ شيء” في النظام الجمهوري، فإنهم “لا شيء” في النّظام الاستبدادي.

وثالث تلك الملامح أن المستبدّ، لكي يحافظ على إمبراطوريّته، يميل إلى تدمير كل ما يحيط به وعزله، وإذا كانت الجمهوريات تتّحد لضمان أمنها، فإن الدول الاستبدادية تسعى إلى ضمان أمنها بعزل جانب من أراضيها وتصحير الحدود لجعل جسد الإمبراطورية بعيد المنال، عصيّا على كل من تحدثه نفسه بغزوه.

إن ما يصفه مونتسكيو يوافق شخصية بوتين في أكثر من نقطة: فأوامره تنفّذ في الحال، وشعبه يخشى معارضته، وموت الجنود أو المدنيين، روسًا أم أوكرانيين، لا يثير فيه أيّ إحساس. بيد أنه لا يريد أن يعيش كالمستبدّ في نوع من الخمول والكسل، والتمتع باللحظة الراهنة، فهو دائم النشاط، يتابع بنفسه التطورات في ساحة الحرب، وفي المجال السياسي في الدّاخل والخارج.

لم يبق إذن إلا وصفه بالدكتاتور، والمعلوم أن الدكتاتور، الذي ظهر في العصر الروماني القديم، يتميّز عن بقية أوجه الحكم الفرديّ بالعلاقة التي تصله بالقانون. وهذا ما تناوله رجل القانون والفيلسوف الألماني كارل شميت في كتاب “الدّكتاتورية”، وهو عبارة عن دراسة تاريخية في تحولات ذلك النظام الفريد الذي ما لبث أن فتن ألمانيا وقادها إلى الدّمار. يقول شميت إن الدكتاتور في الأصل قاض روماني استثنائيّ تمّ فرضه بعد إقصاء الملوك حتى يكون ذا قبضة قوية خلال فترات الخطر. أي أنه لم يعلن عن نفسه بتلك الصفة، بل تمّ تعيينه من طرف قنصل بعد استشارة مجلس الشيوخ، ليحكم طيلة ستّة أشهر، وله أن يتخلى عن منصبه قبل ذلك الموعد إذا استتبّ الأمن وزال الخطر بشكل سريع وفعّال. ولئن كان تعيينه مشروعًا، فإنه لا يخضع للقوانين طيلة ممارسة وظيفته، غير أن سلطته ليست مطلقة، وهو ما ينفي أن يكون الدكتاتور طاغية، لأنه لا يستطيع تحوير القوانين السارية أو إبطال الدستور أو إلغاء تنظيم السلطات العامة، أو سنّ قوانين جديدة. فعمله خال من النزوات، وإذا كان له الخيار في استعمال الوسائل كالقوة أو الخدعة، فإن من واجبه أن يحقق وضعا ملموسًا تحدده الضرورة وحدها. ولذلك أطلق عليه شميت صفة “مفوّض فعل”.

بيد أن الدراسة التاريخية لتطور الدكتاتورية تبين أن في الدولة الحديثة نوعا من الخلط بين محدودية ممارسة السلطة السيادية أو لامحدوديتها. وقد لاحظ شميت في تحليله لدستور فايمار، الذي تمّت صياغته عام 1919، أن ثمة تناقضات نتجت عن مزج دكتاتورية سيادية بدكتاتورية مفوّض. فرئيس الرايخ يستطيع، عملا بالبند 48 من الدستور، أن يعلن حالة حصار وهمي بشكل مشروع، وهو ما يسمح له بتعليق الحريات الفردية لمدة زمنية، قد تطول وقد تقصر حسب مشيئته، باسم الدفاع عن أمن المواطنين. ما يعني أن القانون في الدولة الليبرالية الحديثة في نظر شميت يتوقع بنفسه أن يتمّ تعليقه، ويقبل إدماج الدكتاتورية بوصفها إمكانية خطيرة توهَب لمن يَحكم. فقد كتب يقول في “التيولوجيا السياسية” عام 1922 “سياديٌّ من يقرر الوضع الاستثنائيّ.”

فهل يكون بوتين دكتاتورا بالمعنى الذي ذهب إليه شميت؟ نعم في وجه من الوجوه، يقول بعض المحللين، ما دام قد برر تدخله في أوكرانيا بقوانين قائمة، إذ أكدّ يوم 21 فبراير 2022 “الجمهوريتان الشعبيّتان في دونيتسك ولوغانسك طلبتا مساعدة روسيا. وعملا بالبند 51 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وموافقة مجلس فيدرالية روسيا، قرّرتُ القيام بعملية عسكرية خاصة.” ولكن بعد اعتدائه على كامل التراب الأوكراني، تحولت عمليته العسكرية، التي أوهم بأن دافعها حماية الشعوب الناطقة بالروسية في الأراضي التي تمّ ضمها عام 2014، إلى غزو عسكريّ، وفقدت بذلك بعدها “الشرعيّ” بالمعنى الذي تتوقع فيه الدولة الحديثة “حالة استثنائية”.

وأيّا ما تكن النعوت التي يوسَم بها، وبالأحرى يوصَم بها، بوتين من طرف المحللين الغربيين، فإن الرأي الأصوب أن الرئيس الروسي يبدو أقرب إلى كونه وريث رؤية جيوسياسية كلاسيكية للعالم، تقوم على إخضاع الدول المجاورة وفرض تبعيتها لموسكو، أو غزوها وابتلاعها باسم أيديولوجيا قومية، فهو صورة هجينة من القيصر والقائد التوتاليتاريّ. ولئن تشبه بالمستبدّ الشرقيّ، فإنه يقدّم في الواقع صورة متعدّدة الأشكال لمتفرّد بالسلطة يقينه الوحيد أن السياسة ليست سوى علاقة قوى، وأن الحكم يعني الإكراه والتدمير.

كاتب من تونس مقيم في باريس

الجديد

—————————–

أوكرانيا… أفغانستان بوتين!/ خيرالله خيرالله

لا فلاديمير بوتين يستطيع التراجع وليس هناك من هو على استعداد للقبول بشروطه وبالأمر الواقع الذي يريد فرضه على العالم، بما في ذلك عودة الحياة إلى ما كان يمثله الاتحاد السوفياتي. يعني ذلك وقوع قسم من أوروبا تحت نفوذ الكرملين مجددا.

يستحيل في الظروف الراهنة العثور على مخرج يحتاج إليه العالم لسبب في غاية البساطة. لا يمكن للرئيس الروسي تقديم أي تنازل. في المقابل، لا تستطيع أميركا وأوروبا القبول باحتلال روسي لأوكرانيا أو لجزء منها كون ذلك سيفتح شهيّة الرئيس الروسي في كلّ أوروبا. بكلام أوضح، لا يستطيع فلاديمير بوتين الاعتراف بأن مستقبله السياسي على المحكّ. إلى إشعار آخر، ليست لدي فلاديمير بوتين أيّ رغبة في اعتزال السياسة.

يطوي دخول روسيا إلى أوكرانيا عسكريا صفحة في العلاقات الدوليّة في ظلّ إدارة أميركيّة لم تعد تكتفي بالتفرّج على ما يدور في العالم. وجدت إدارة جو بايدن نفسها مُجبرة على المزيد من التدخل في أنحاء مختلفة من العالم، خصوصا في أوكرانيا التي صارت بمثابة أفغانستان بوتين. نتيجة ذلك، بات على العالم البحث عن نظام دولي جديد مبنيّ على نظام سقط قبل أن تتبلور ملامحه.

كان مفترضا أن يكون هذا النظام، الذي لم تتبلور ملامحه، نظام القطب الواحد، بزعامة الولايات المتّحدة التي هزمت الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. ستسعى الولايات المتحدة ومعها أوروبا إلى التعاطي مع ما فرضه فلاديمير بوتين في أوكرانيا الدولة المستقلّة التي لم يستطع أحد حمايتها.

في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، واستعادة ألمانيا لوحدتها، كان الأمل في قيام نظام دولي مختلف في عالم تسود فيه مبادئ الحرّية والعدالة، خصوصا بعدما تحرّرت دول أوروبا الشرقيّة من الهيمنة السوفياتيّة. بقيت مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين محصورة، إلى حد كبير، بأوروبا التي توسعت بفضل الاتحاد الأوروبي، لكنّها باتت الآن في مواجهة تحديات جديدة.

ما حصل في أوكرانيا مخيف جدا. يعود ذلك إلى غياب أيّ رادع للعدوانيّة الروسيّة ورغبة فلاديمير بوتين في فرض أمر واقع على الأرض بالقوّة العسكرية وبفضل ما يمتلك من صواريخ وقنابل نووية. لعلّ أخطر ما في الأمر، أنّه كان في استطاعة الرئيس الروسي تحقيق جزء أساسي من مطالبه في أوكرانيا بمجرّد حشد قوّاته على حدودها. كان العالم مستعدا للأخذ والردّ مع الكرملين، بما في ذلك النظر في امتناع أوكرانيا عن دخول حلف شمال الأطلسي (ناتو). لكنّ السؤال – اللغز يظلّ لماذا كلّ هذا الإصرار لدى الرئيس الروسي على تغيير النظام في أوكرانيا وإلحاقها بروسيا بالقوّة؟

قد يكون الجواب في أنّ بوتين أراد تعويد العالم على التعاطي مع روسيا من منطلق جديد يتلخص بعبارة أنّ الاتحاد السوفياتي لم يمت. مع احتلال روسيا لجزء من أوكرانيا عادت روسيا على تماس مباشر مع دول مثل بولندا وهنغاريا وسلوفاكيا ورومانيا. لا شكّ أن هذه الدول ستعيد حساباتها في ضوء ما حل بأوكرانيا من جهة واستعداد الرئيس الروسي للتسبب بحرب عالميّة جديدة من جهة أخرى.

في كلّ الأحوال، تبيّن أن أوروبا مفككة وأنّها لا تمتلك أيّ أنياب تمكّنها من مواجهة روسيا عسكريا، على الرغم من كل ما يعانيه جيشها وانكشاف مستوى سلاحها. أكثر من ذلك، لا وجود حاليا لزعماء أوروبيين حقيقيين. ألمانيا نفسها تبدو ضائعة بوجود مستشار جديد اسمه أولاف شولتس بات في بحث دائم عن بديل من الغاز الروسي. أمّا فرنسا، فقد فقدت توازنها منذ فترة طويلة. لن تنفع زيارة إيمانويل ماكرون لواشنطن ومحادثاته مع الرئيس جو بايدن في استعادة فرنسا لتوازنها. كان جاك شيراك آخر رئيس فرنسي يمتلك شيئا من ملامح الزعامة…

ستكون هناك حاجة إلى بلورة نظام دولي جديد في عالم تسوده الفوضى. لا شكّ أن الأمم المتحدة فقدت الكثير بعدما تبيّن أنّ لا دور لها في معالجة أزمة في حجم الأزمة الأوكرانيّة. تبدو الأمم المتحدة، التي يعطلها الفيتو الروسي، أقرب إلى جامعة الدول العربيّة التي ظهر عجزها منذ وقت طويل…

كانت نقطة البداية للتراجع الأميركي في سوريا حيث ظهر أن باراك أوباما ليس سوى سياسي فاشل لا يهمّه سوى تفادي أيّ مواجهة من أيّ نوع. تراجع الرئيس الأميركي الأسبق، بعد استخدام بشّار الأسد السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه صيف العام 2013. قبل ذلك هرب من العراق. استكمل في 2011 الانسحاب العسكري من معظم العراق بعدما عقد صفقة مع إيران تسمح لنوري المالكي بتشكيل حكومة.

لم يكن تراجع أوباما في سوريا في العام 2013 حدثا عاديّا. لا يمكن تجاهل أنّه استمع، وقتذاك، إلى نصائح فلاديمير بوتين الذي أقنعه بأنّ من الأفضل إيجاد طريقة كي يتخلّص النظام السوري من مخزون الأسلحة الكيمياوية… بدل ضربه.

نجح فلاديمير بوتين في مناورته تلك. ارتاح باراك أوباما بعدما نجح في العام 2015 في التوصل إلى اتفاق مع إيران في شأن ملفّها النووي.

نرى الآن إيران، التي عمل باراك أوباما على تقويتها، تهبّ لنجدة فلاديمير بوتين في أوكرانيا. تردّ له الجميل بعدما أنقذ النظام السوري من السقوط في خريف العام 2015.

في انتظار بلورة نظام دولي جديد، هناك عالم يعيش في حال من الفوضى والضياع. لا يدل على الفوضى والضياع أكثر من استحالة إيجاد مخرج من الأزمة الأوكرانية. لا بدّ من مخرج في ضوء ما يعانيه العالم، إن على صعيد الغذاء أو على صعيد الطاقة، بسبب تهوّر فلاديمير بوتين. يُعتبر بوتين حالة مرضية أكثر من أيّ شيء آخر… تماما كما كانت حالة أدولف هتلر. هل يمكن إيجاد مثل هذا المخرج عندما يتعلّق الأمر برئيس روسي يرفض أخذ العلم بأنّه خسر حربه ويرفض الاعتراف بذلك؟

إعلامي لبناني

العرب

————————–

كيف سترد روسيا على فرض سقف لسعر نفطها؟/ بسام مقداد

وأخيراً إستقر الإتحاد الأوروبي على قرار واحد بشأن فرض سقف على سعر النفط الروسي في الأسواق الأوروبية ، بعد أن إنقسمت الدول الأوروبية بين مؤيد ومعارض لمثل هذا الإجراء. فقد توصل سفراء دول الإتحاد في 2 الجاري إلى توافق على فرض سعر 60$ لبرميل النفط الروسي يدخل حيز التنفيذ في 5 منه، وتقضي بنوده بمنع الشركات الغربية تقديم الخدمات المالية والتأمين لناقلات النفط التي تنقل النفط الروسي، بإستثناء تلك المحملة بنفط يعادل السعر المفروض أو ما دونه. 

وكالة تاس نشرت إثر صدور القرار تقريراً عن حجم الصادرات الروسية من النفط وحصة أوروبا والولايات المتحدة منها. وقالت بأن هذا الحجم بلغ العام المنصرم 229,9 مليون طن بمردود مالي بلغ  110,1 مليار دولار، وتم تصديره إلى 39 بلداً في العالم. والصين هي المستورد الأكبر، يليها الإتحاد الأوروبي الذي تبلغ وارداته 108,1  مليون طن بمردود يبلغ 50,9 مليار دولار وتبلغ نسبته 47% من حجم الصادرات الروسية. وتبلغ نسبة النفط الروسي المصدر إلى الولايات المتحدة نسبة  3% من مجمل واردات النفط الأميركية. وتتصدر هولندا ثم ألمانيا البلدان الأوروبية المستوردة،  واللافت أن واردات النفط الروسي إلى أوروبا قد إنخفضت عما كانت عليه في العام 2012، حيث كانت حينها  67% من إجمالي صادرات النفط الروسي. 

وتنقل تاس عن منظمة أوبك أن روسيا أصبحت في العام المنصرم البلد الثاني المصدر للنفط بعد السعودية، ويبلغ حجم صادراتها 10,9% من إجمالي صادرات النفط إلى السوق العالمية. 

لتحديد سعر برميل النفط تُعتمد العقود الآجلة علىى نفط برنت، ويتحدد سعر النفط الروسي ماركة Urals ياقل بمعدل  1-2$ من سعربرميل نفط برنت. 

الحديث في الغرب عن تحديد سقف لسعر النفط الروسي في الأسواق الأوروبية بدأ منذ الربيع المنصرم، حين نقلت الفايننشال تايمز في 26 نيسان/أبريل عن مصدرها فكرة فرض هذا السقف. وتقول تاس أن المرة الأولى التي تمت فيها مناقشة هذه الفكرة على مستوى رفيع، كانت حين أكد رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي في أيار/مايو مناقشتها مع الرئيس الأميركي جو بايدن خلال المحادثات بينهما. وفي 20 من الشهر عينه أعلنت  وزيرة  الخزانة الأميركية جانيت يلين أن وزراء مالية G7 وحكام المصارف المركزية في المجموعة ناقشوا فكرة إنشاء كارتل لمستوردي النفط الروسي من أجل فرض سعر لهذا النفط. 

منذ أن بدأ الحديث في الغرب عن فرض سقف لسعر النفط الروسي، تمسكت روسيا بمقولتين ميزتا كل ردودها الرسمية والإعلامية على السقف، حيث رأت فيه تدخلا في آلية عمل السوق، وافترضت أن البلدان الأخرى المصدرة للطاقة قد تتعرض للإجراء الغربي عينه. فقد نقل المجمع الإعلامي الروسي الكبير RBC في مطلع أيلول/سبتمبر المنصرم عن تلغرام السفارة الروسية في واشنطن قولها بأن واشنطن تروج “لمفهوم معاد للسوق” لتحديد سقف لسعر النفط الروسي، وموسكو لا تنوي بيع نفطها بشروط مغايرة للسوق. وقالت السفارة  أن  الولايات المتحدة ضربت أولاً إستقرار أسواق الطاقة العالمية بفرضها عقوبات على روسيا، ثم قررت منع حصول نقص في مصادر الطاقة الروسية في الأسواق العالمية، مع السعي لأقصى تخفيض في عائدات النفط والغاز في الموازنة الروسية. 

ورأت السفارة أن الولايات المتحدة، وبعد أن رسخت إبتكارها لفكرة فرض سقف لسعر النفط، يحاول ممثلوها  بالحيل وأحيانا بالإبتزاز فرض آلية “سقف سعر” على بلدان ثالثة. لكن، بدل مصادر الطاقة الرخيصة الموهومة، فإن إستخدام  مثل هذه الآليات يهدد فقط بمزيد من الإنهيار في سوق النفط. 

صحيفة الإزفستيا نقلت عن كبير خبراء إتحاد صناعيي النفط والغاز الروسي ورئيس لجنة الطاقة في مجلس النواب الروسي (البرلمان) قولهما بثلاثة سيناريوهات للرد الروسي على تسقيف سعر النفط الروسي. يقول الخبير أن السيناريو الأول “الأكثر نعومة” يفترض أن روسيا سترد بضبط النفس. وهذا يعني أن روسيا ستستفيد من تلك الثغرات التي تتركها في هذه القيود جميع البلدان الأعضاء في G7 والإتحاد الأوروبي. وهذه الثغرات عديدة في القيود، وذلك لأن جميع هذه البلدان تدرك جيداً أنها لا تستطيع الإستغناء عن النفط الروسي ومشتقاته.

لكن الخبير يقول أن “السناريو الناعم” لن يتحقق، وذلك لأن روسيا لن تعمد إلى الإستفادة من مثل هذه الثغرات. ويرى أن روسيا سوف تستفيد من فرض سقف على سعر النفط، فهي “فرصة رائعة” لروسيا، ومن دون أن تفقد ماء الوجه، لكي ترفض الشارين غير المناسبين والمعادين لها المتمثلين في الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وسواهما. وبالتالي ستصبح جميع الإتفاقيات  مخترقة، ويمكن إعتبارها “ليست ذات أهمية”. وأخيراً بوسع روسيا، برأي الخبير، الخروج من “الموقف السخيف” الذي وجدت نفسها فيه بفضل هذه الإتفاقيات. 

رئيس لجنة الطاقة في البرلمان الروسي يرى أنه في ظل تحديد سقف للسعر، لم يعد من المربح لروسيا أن تمد بالنفط ومشتقاته. ولذلك يقول بسيناريو آخر يفترض رفض روسيا تصدير النفط ومشتقاته للبلدان التي ستفرض هذه القيود. 

لكن البرلماني يقول بسيناريو ثالث بوسعه إركاع كل السوق العالمية للنفط ومشتقاته. فروسيا بوسعها أن تؤثر ليس فقط في إمدادات النفط ومشتقاته من روسيا، لكن ومن دول العالم الأخرى أيضاً. فهي تشارك في إتفاقية أوبك +، وتستخدم بنشاط موقعها الرائد في هذه الإتفاقية. وهو يعتقد أن الإحتمال كبير جداً في تمكن روسيا من المساهمة في حظر توريد النفط  ومشتقاته من دول إتفاقية أوبك + لجميع البلدان التي تفرض سقف سعر على النفط الروسي، من دون أن يذكر ما دأبت المصادر الروسية أن تردده من خشية هذه البلدان من أن يفرض عليها هذا السقف في أي لحظة تراه الولايات المتحدة مناسبة.

موقع الخدمة الروسية في  BBC يقول أن بولندا لم تقتنع بسقف 60$ لبرميل النفط الروسي سوى يوم الجمعة في 2 الجاري، حين صدور قرار الإتحاد الأوروبي الذي يتطلب موافقة جميع أعضائه. والمعروف أن بولندا كانت تصر مع بلدان البلطيق على سقف 30$ للبرميل، ولم تقتنع بالسقف الجديد إلا بعد أن تقرر أنه مؤقتاً، ويتضمن آلية إعادة النظر به لكي يبقى أقل بنسبة 5% أدنى من السعر الجاري في السوق لبرميل النفط. 

يشير الموقع إلى أن روسيا تصدر الآن حوالي 3, 5% برميل يوميا إلى الغرب، وقد بخفض الحظر الشامل هذا الحجم إلى حوالي الثلث، وليس فقط إلى بلدان G7. فالحظر لا يشمل فقط شراء النفط ومشتقاته من روسيا، بل يشمل الشحن والتمويل والتأمين على أي إمدادات بالطرق البحرية لمختلف البلدان. ونتيجة لذلك سوف ينخفض نصيب روسيا في سوق الطاقة العالمية حتى العام 2030 إلى 13% من 20% السنة الماضية، وسوف تربح من الحظر الولايات المتحدة وبلدان الشرق الأوسط، أما روسيا فسوف تخسر حوالي 1تريليون$، حسب توقعات وكالة الطاقة الدولية. 

ويختتم الموقع نصه بالتأكيد أنه، إضافة إلى النفط، طالت العقوبات الأقسى في التاريخ التجارة والأموال وبوتين نفسه، لكن الغرب، وخاصة الإتحاد الأوروبي،  يتحركون بحذر على هذه المساحة الجديدة في التجربة العالمية، محاولين العثور على توازن دقيق بين مصالحهم الخاصة  والرغبة في ثني الكرملين عن الرغبة في الهجوم على جيرانه. 

المدن

——————————

أردوغان يستثمر في ضعف بوتين/ بسام مقداد

يرى بعض المحللين السياسيين  أن أردوغان لم يكن ليقدم على عمليته العسكرية الأخيرة دون إخطار “صديقه” الروسي واتهامه بالتقصير، لو لم يكن على قناعة بأن بوتين أصبح قليل الحيلة. لكن أردوغان بدأ قصف شمال العراق وسوريا دون إخطار بايدن وبوتين بعمليته، وأعلن عن التحضير لعملية برية في الشمال السوري تلي القصف الحالي الذي يتوقع بعض الخبراء أن ينتهي أواخر العام الحالي، من دون أن يلتفت إلى الإعتراضات الأميركية والروسية الصريحة والجدية على مثل هذه العملية. فقد سبق الإعتراض الروسي على العملية البرية التركية المحتملة مثيله الأميركي، حين أعلن الممثل الخاص للرئيس الروسي في سوريا ألكسندر لافرنتيف على هامش إجتماع منصة أستانة الأخير أن التحركات التركية قد تؤدي إلى تصعيد العنف، وأعرب عن أمله في أن تجد أنقرة “وسائل أخرى لحل الأزمة”. 

الإعتراض الأميركي الأخير جاء في التصريح المكتوب الذي وزعه في 23 الجاري مدير المكتب الصحافي في البنتاغون الجنرال باتريك رايدر، حيث رأى أن القصف التركي للشمال السوري في إطار عملية “المخلب ــــــ السيف” يمثل تهديداً لأمن العسكريين الأميركيين، وتفاقم الوضع في شمال سوريا والعراق يعرض للخطر سنوات من التقدم في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي. 

كما وزع في اليوم عينه الناطق الصحافي بإسم الخارجية الأميركية نيد برايس بياناً مكتوباً دعا فيه إلى “خفض التصعيد الفوري في شمال سوريا”، وأعرب عن “القلق الأميركي العميق” من العمليات العسكرية الأخيرة التي تزعزع الوضع، وتهدد “هدفنا المشترك” في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، وتعرض للخطر السكان المدنيين والعسكريين الأميركيين. وأضاف برايس بأن الولايات المتحدة تتفهم مخاوف تركيا المشروعة بشأن أمنها حيال الإرهاب، لكنه أعرب عن القلق العميق “الذي رددناه بانتظام”  بشأن عواقب التصعيد في سوريا على القتال ضد الدولة الإسلامية، وعلى سلامة المدنيين على جانبي الحدود. 

روسيا تعترض على العمليات العسكرية التركية، وتلوم أردوغان لإتهامها بعدم تنفيذ تفاهمات 2019، وتواصل التعبير عن رغبتها المزمنة في خروج تركيا من حلف الناتو. فقد نقلت وكالة الأنباء الإلكترونية الروسية riafan عن المؤرخ التركي محمد بيرينجيك قوله لوكالة نوفوستي أن الوقت مناسب لطرح مسألة خروج تركيا من حلف الناتو بعد إنفجار إسطنبول. ونقلت الوكالة في 16 الجاري عن نوفوستي قول المؤرخ بأن الولايات المتحدة تقف وراء الإنفجار في إسطنبول. إضافة إلى إتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراء الإنفجار، قال المؤرخ بأنها تدعم علناً حزب العمال الكردستاني الإرهابي PKK. ويقول بأن واشنطن تخصص ميزانية للحزب، وهو ما يعتبره دليلاً لا شك فيه على أن الأميركيين يقومون بتدريب مقاتلي الحزب. 

ويقول المؤرخ أن الولايات المتحدة تهدد الأتراك في شرق المتوسط أيضاً، وتحاول كسر شوكة أنقرة بواسطة الأعمال الإرهابية. ويرى أن تركيا لا تستطيع القضاء على هذه التهديدات وهي في منظومة الناتو. ويعتقد أن خروج تركيا من الناتو مسألة ملحة الآن وتربط بأمنها. 

هيئة تحرير صحيفة NG الروسية نشرت في 23 الجاري نصاً بعنوان  “حول العملية الخاصة التركية والمثال الروسي”، وأردفته بآخر ثانوي “الأعمال الروسية عجلت في التفكيك الفعلي لمنظومة الموازين وقوى التوازن”. قالت هيئة التحرير أن الرئيس التركي أعلن بأنه سيقضي على التهديد الذي تشكله التنظيمات الكردية المسلحة، ولا يجروء أحد على الوقوف بوجه بلاده وهي تحارب الإرهاب. وأشارت إلى أن الزعيم التركي برر العملية الخاصة الجديدة بالقول أن روسيا “لم تنفذ وترفض تنفيذ تعهدها بتنظيف شمال سوريا والعراق من الإرهابيين”. والحديث يدور حتى الآن عن الضربات الجوية وإستخدام المدفعية، لكن أردوغان لم يستبعد إستخدام القوات البرية أيضاً. 

تقول هيئة التحرير أن العملية الخاصة التركية هي رد على التفجير في إسطنبول منذ مدة قريبة. وترى أن تركيا لم تكن حليفاً لروسيا في الأشهر الأخيرة، لكنها بقيت، وهو أمر ليس قليل الأهمية، الطرف الذي لا يفرض عقوبات، مسترشداً بمصالحه الخاصة فقط. وعلى الأرجح أن العلاقات الروسية التركية ستستمر لأن موسكو وأنقرة تخطتا خلافات أكثر عمقاً في الماضي القريب. لكن أردوغان يعرف بالتأكيد متى وبأي شكل يمكنه الكشف عن مطالبه من روسيا، ويبدو أن الوقت ملائم لذلك الآن. 

وترى هيئة التحرير أن الزعيم التركي يستفيد من برودة العلاقات الروسية مع الغرب لزيادة نفوذه، وطموحاته يعرفها الجميع جيداً. فهو يروج باستمرار لأفكار “العالم التركي”، تركيا دولة إقليمية قوية، لاعب ذو أهمية في البحر المتوسط والشرق الأوسط والقفقاز وآسيا الوسطى، وعلى نطاق أوسع في العالم الإسلامي. وهو مستعد للدفاع عن هذه المكانة والمصالح التي يعلنها بكافة الوسائل، بما فيها العسكرية، ولم يخف ذلك قط. وعلى كافة الأطراف أن تعرف وزن من تعزز، وهي تقبل بدور الرئيس التركي كوسيط في مختلف العمليات، من المفاوضات بين موسكو وكييف إلى “صفقة الحبوب”. 

لم توضح هيئة التحرير لماذا تسمي القصف التركي على الشمال السوري والعراقي “العملية التركية الخاصة”، لكنها تقارن في نصها القصف التركي مع “العملية العسكرية الخاصة” الروسية، وتفادت بذلك  (وهي الصحيفة الموالية، بالرغم من تسميتها “الصحيفة المستقلة”)، ذكر كلمة “حرب” وإدراجها على قائمة “عميل أجنبي. وتتساءل هيئة التحرير ما إن كان أردوغان بحاجة ليشعر بثقة أكثر في النفس لكي يلجأ إلى استخدام القوة في سوريا والعراق، وتجيب بالإيجاب هي نفسها عن تساؤلها. وأتاح لها هذا التساؤل “المتواضع” فتح النار على الناتو ومعاييره المزدوجة في إدانة إستخدام القوة حين يتعلق الأمر بأحد أعدائه ــــ روسيا الآن، والإمتناع عن ذلك حين يتعلق بأحد أعضائه ـــــ تركيا.

موقع قناة التلفزة الأميركية currenttime التي  تبث من براغ، نشر في 22 الجاري نصاً بعنوان “”روسيا ضعيفة”. هل ينشب صراع جديد بين بوتين وأردوغان”. طرح الموقع على رئيس تحرير أسبوعية Poistne الروسية البوليتولوغ التتري رسلان آيسين السؤال ما إن كان ينضج صراع جديد بين بوتين وأردوغان. قال رسلان بأنه يعتقد بأن إتجاهاً جديداً من الصراع بين الزعيمين ينضج بشكل أو بآخر، وذلك لأنه كان يجري تأجيل كل حلول التناقضات بين روسيا وتركيا: من منطقة البحر الأسود إلى سوريا والعراق وليبيا، وإلى أوكرانيا. وبالنسبة لتركيا حان الوقت الآن، حيث شعر أردوغان أن بوتين قد ضعف،  ولن يكون بوسعه  الرد كما فعل في العام 2015 وحتى في العامين 2016 ــــــ 2017، حين كانت هناك اشتباكات حقيقية بين أنصار روسيا وتركيا، وحتى بين التشكيلات المسلحة الرسمية للطرفين.

ويرى رسلان أن أردوغان يعالج الآن مشكلة بالغة الأهمية بالنسبة له ــــــ مشكلة الأكراد السوريين. معظم الكرد الأتراك متدينون، وغالبيتهم من أنصار الحزب الحاكم في تركيا، ولذلك يعتقد بأن أردوغان سوف يمارس الضغط على بوتين، ومن غير المحتمل أن يتمكن بوتين من الرد بشيء ما جدي. 

المدن

————————

الغزو الرّوسي كمحفّز لإيران وتركيا ضدّ الأكراد/ عبدالوهاب بدرخان

حشد “الحرس الثوري” الإيراني قوات مدرّعة ووحدات خاصة، مهدّداً باجتياح إقليم كردستان العراق لإنهاء وجود أحزاب كردية إيرانية معارضة فيه، ما لم يقم الجيش العراقي والبيشمركة بهذه المهمة، أقلّه بإبعاد تلك الأحزاب عن الحدود التي بات “الحرس” يشترط أن يتولّى الجيش تأمينها مع البيشمركة، لا أن تنفرد الأخيرة بذلك، ما يشير إلى تراجع غير مسبوق في الثقة بين طهران وأربيل، وحتى بينها وبين السليمانية التي اعتُبرت دائماً أقرب إليها.

في الوقت نفسه، تواصل تركيا حشد قواتها على الحدود مع سوريا استعداداً لعملية عسكرية برّية هدفها توسيع “المنطقة الآمنة” وإبعاد أكراد “قوات سوريا الديموقراطية” إلى عمق 30 كيلومتراً في الشمال السوري. لكن العملية التركية واجهت منذ بدء الحديث عنها رفضاً روسياً – إيرانياً وممانعة أميركية لا تزال حتى الآن لفظية. غير أن ظروف حرب أوكرانيا وحاجة موسكو إلى تسهيلات كثيرة تقدمها أنقرة بدّلتا الموقف الروسي، فأصبح أقرب إلى قبول الأمر الواقع وإلى نقل الشروط التركية إلى الأكراد، وبالتالي نصحهم بالموافقة عليها، وصولاً إلى مصارحتهم بأن أميركا وروسيا لا ترغبان في مواجهة الجيش التركي، بل إن روسيا لن تستطيع منع العملية التركية متى بدأت.

لا جديد عملياً في هذه التطوّرات بالنسبة إلى الأكراد، إذ اعتادوا على أن تتوصّل الدول إلى تسويات في ما بينها على حسابهم، وقد عاشوا خلال المئة عام الماضية يغتنمون الفرص التي تلوح لتحقيق حلمهم بـ”دولة مستقلّة” معترف بها، أو لإقامة “كيانات مستقلة” على طريق هذه “الدولة”، لكنهم عانوا أيضاً خيبات أمل طوال تلك الحقبة من كل القوى الدولية التي دعمتهم وظنّوا أنها تدعم هدفهم الاستراتيجي، ثم اكتشفوا أنها استخدمتهم لتحقيق أهداف ضد الدول الأربع (تركيا، إيران، العراق وسوريا) التي يشكّلون جزءاً من سكانها. والواقع أن نمط الاستخدام والخذلان مرشّح للاستمرار، فالأكراد يستغلّون استخدامهم في تطوير قدراتهم ما دام لا خيارات أخرى متاحة لهم، أما القوى الدولية والإقليمية فتستثمر خذلانهم في تحصيل مكاسب اقتصادية أو استراتيجية مع الدول المعنية.

معروفٌ أن “الحرس” الإيراني يتذرّع بأن الاحتجاجات الشعبية في كردستان إيران تبرّر الذهاب إلى العراق لتصفية المعارضين الأكراد، متجاهلاً أن الاحتجاجات باتت تشمل جميع الأقليات الأخرى (البلوشية والآذرية والعربية) التي تعاني التهميش والاضطهاد والبطش، بل إن قضايا “المرأة والحياة والحرية” تستحث جانباً كبيراً من الفرس أنفسهم.

لكن كردستان إيران تبقى بالنسبة إلى طهران مهد هذه الاحتجاجات التي اندلعت بعد مقتل الشابة الكردية مهسا أميني تحت التعذيب لدى “شرطة الأخلاق” (منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي)، وهذا كافٍ لإقلاق سلطات الملالي التي لا تنسى أن كردستان إيران كانت، تاريخياً (جمهورية مهاباد 1945)، مصدر الحراك في مختلف مواطن الأكراد في الدول الأربع كما في المهاجر. لذلك تركّز السلطات الآن على إخماد انتفاضة الأكراد، ظنّاً بأنها فقط نتاج تحريض من قيادات الأحزاب المعارضة (الحزب الديموقراطي الكردستاني وهو أقدمها، وحزب “كوملة” اليساري، و”حزب الحياة الحرّة”/ “بيجاك”، ومنظمة “خبات” القومية) اللاجئة منذ الثمانينات في كردستان العراق وتعرّضت مقارها ومعسكراتها أخيراً لقصف إيراني كثيف. الأرجح أن ضرب المعارضين في العراق لن يكسر الانتفاضة داخل إيران، لكن طهران تتخذها ذريعة للإيحاء بأن أزمتها خارجية بحتة، وتنتهزها فرصة لتصفيتهم.

يسود الدوائر الدبلوماسية اعتقاد بأن غزو روسيا لأوكرانيا بات “مُلهماً” لدول أخرى، لذلك يثير التهديد باجتياح إيراني برّي المخاوف في أربيل كما في بغداد، لأنه مرشح لتقويض الوضع القائم بين الإقليم والدولة العراقية الاتحادية، وبالتالي كان لا بد من الرضوخ للتهديدات والشروط التي حملها قائد “فيلق القدس” إسماعيل قاآني ولم تزعج حكومة محمد شياع السوداني التي تتوزّع ميليشيات إيران معظم حقائبها، إلا أنها أقلقت أكراد الإقليم إزاء حملة تأمين الحدود التي قد تتسبّب بقتال كردي – كردي ما دامت البيشمركة ستشارك فيها. لكن المفارقة التي انكشفت في السياق أن إيران لا تدفع باتجاه “إنهاء وجود كل الجماعات المعارضة لدول الجوار على الأراضي العراقية”، بل تريد أولوية لتأمين حدودها من دون أن تكون معنية بالحدود التركية، لأن “الحشد الشعبي” (أي إيران) يدعم وجود “حزب العمال الكردستاني” (بي كي كي) وقتاله المزمن ضد الجيش التركي انطلاقاً من شمال العراق.

الاجتياح التركي لشمال سوريا ليس مجرّد تهديد، فله سوابق في عمليات “درع الفرات” (2016) و”غصن الزيتون” (2018) و”نبع السلام” (2019)، وتسعى أنقرة هذه المرّة إلى الوصل بين “مناطقها” وتوسيع رقعتها. في كل مرّة كانت تجد سبيلاً للحصول على موافقة أميركية و/ أو روسية، أو على صمت وتغاضٍ، وفيما هي تنسّق مع موسكو تقول إنها “لا تطلب إذناً من أحد”، ما يُفهم بأنه موجّه ضد الأميركيين الذين يدعمون أكراد “قسد” الذين قاتلوا تنظيم “داعش” وتعتبرهم أنقرة “إرهابيين” بسبب وجود “حزب العمال الكردستاني” في صفوفهم، وقد اتهمته بالضلوع في تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول. ما يستدعي التساؤل هنا: لماذا لم يحاول الأكراد الانضباط في مناطق سيطرتهم، ولماذا لم يهتم الجانب الأميركي بضبطهم لمعالجة الهواجس التركية، وهل وعدهم بدعم إقامة “كيان” خاص بهم، وإذا كانت هناك فعلاً تعهّدات أميركية وروسية لتركيا منذ 2019 بالعمل على انسحاب الأكراد من تل رفعت ومنبج وعين العرب/ كوباني فماذا كانت دوافع عدم تنفيذها؟

تخشى واشنطن تداعيات العملية التركية وأثرها على وجودها في شمال شرقي سوريا وعلى محاربة “داعش”، خصوصاً أن لا قنوات حالياً للتفاهم مع روسيا على حدود التحرّك التركي. من جانب آخر تبدو تركيا مندفعة إلى عمليتها البرّية كجزء من تفاهمها مع روسيا على إجراء مصالحة بينها وبين النظام السوري، لكنها تتطلّع إلى مصالحة مشروطة أولاً بالتزام دمشق ضبط الأكراد وعدم استخدامهم ضدّها، وثانياً باستمرار الوجود التركي في الشمال إلى حين التوصّل إلى حلٍّ سياسي للأزمة السورية. وإذا نجحت تركيا بتغليب الأمر الواقع وإبعاد خطر “قسد” عن أراضيها، فليس واضحاً ما سيكون عليه ردّ الأكراد، إذ إنهم هدّدوا بالتخلّي عن محاربة “داعش” وبإطلاق مقاتليه المعتقلين لديهم، لكن سيخسرون عندئذ كل دعم أميركي، كما أن رضوخهم لمطالب الأتراك (والروس) سيُفقدهم التمدّد الجغرافي الذي حقّقوه بين 2015 و2019 وسيُضعف موقفهم في أي تفاوض مع النظام الذي رفض أطروحاتهم لحل سياسي والضمانات التي يريدونها للوضع العسكري والإداري الذي أنشأوه في مناطقهم.

النهار العربي

————————–

حدود التوافق والتنافس بين إيران وروسيا في سورية/ عبد الله تركماني

المحتويات:

مقدمة

أولًا. السمات العامة للعلاقات الإيرانية – الروسية في سورية

ثانيًا. حدود التوافق والتعاون في سورية

ثالثًا. حدود التنافس والتعارض في سورية

رابعًا. مستقبل سورية في منظور كل من روسيا وإيران

المراجع

أولًا: السمات العامة للعلاقات الإيرانية-الروسية في سورية

تنطوي العلاقات الروسية-الإيرانية في سورية على مظاهر توافقية وتنافسية، في آن واحد، وهي محددة، كيفيًا وزمانيًا، بحسب تغيّرات المصالح الإستراتيجية والتكتيكية لكلٍّ من الدولتين، تبعًا لاختلاف الأهداف النهائية في سورية. وستساعدنا معرفة السمات السياسة العامة لتلك المظاهر، وأهداف كلّ من الدولتين من الصراع في سورية ومساره المستقبلي، في التنبؤ بوجهات تطور الصراع وسيناريوهاته.

إنّ إيران وروسيا شريكان في مصالح عديدة، ثنائية وإقليمية ودولية، تترك آثارها على علاقاتهما في سورية، وهي علاقات براغماتية مبنيّة على المصالح. ولكل منهما رؤية مستقلة ومصالح خاصة، وهذا ما يرفع احتمال افتراق رؤى ومصالح كلا الطرفين، ربما إلى درجة الاصطدام، على ضوء متغيرات قادمة.

تكمن أهمية سورية بالنسبة لروسيا في موقعها المهمّ على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وبحكم حدودها المشتركة مع العراق والأردن ولبنان وإسرائيل وتركيا، ولطالما طمحت روسيا إلى الوصول إلى المياه الدافئة، منذ زمن الإمبراطورية الروسية، خاصة في عهدي بطرس الأكبر وكاترين الثانية. وتربط روسيا تدخّلها في سورية بالملفات الدولية: أوكرانيا، العقوبات على روسيا، العزلة الدولية، مشكلاتها الاقتصادية، النفوذ في الشرق الأوسط، إضافة إلى وهم بوتين في إعادة بعث الإمبراطورية الروسية القديمة.

أما بالنسبة إلى إيران، فتكمن أهمية سورية في وقوعها في عمق الحزام الشيعي الذي يمتد من إيران عبر العراق مرورًا بسورية وصولًا إلى لبنان، إضافة إلى رغبتها في تأمين طريق مستقبلي لمواردها الطاقية إلى أوروبا.

وقائع الصراع في سورية لم تأتِ موافقة للهوى الإيراني تمامًا، إذ إنّ روسيا ربطت خطواتها بإحكام مع تنفيذ مطالبها، وهي على منحيَين: الأول ما يتعلق بإحكام قبضتها بالتدريج على ما تبقى من مؤسسات النظام المنهار ولا سيما مؤسسة الجيش أو بناء مؤسسات جديدة تتبع لها، والثاني ما يتعلق بتطبيق الاتفاقات التي عقّدتها مع إسرائيل، وتنفيذ اتفاقاتها مع الإدارة الأميركية، عندما كانت تجد في ذلك فائدة لها.

ثانيًا: حدود التوافق والتعاون في سورية

يتجلى التوافق الروسي-الإيراني في سورية من خلال تفاوت المدى الزمني للتوافقات بين المديَين المتوسط والطويل، ويبدو أنّ توافق مصالحهما، في مواجهة العقوبات الغربية، عاملٌ ضاغطٌ عليهما في سورية، أي إنّ موجبات التوافق الروسي-الإيراني في سورية لا تزال قائمة، وهي حاجة كل منهما إلى الآخر، للضغط على الغرب بصورة أساسية، والتعاطي مع العقوبات المفروضة على كليهما، كلٌّ من طرفه، إضافة إلى مصالحهما في سورية. وعلى هذا الأساس، فإنّ كلًا منهما حريص على ألا يدفع بالآخر خارج موجبات التحالف بينهما.

فمنذ الانخراط العسكري الروسي المباشر، في أيلول/ سبتمبر 2015، تعززت العلاقات الروسية-الإيرانية، بعد أن تكيّفت الدولتان مع تحديات التعاون العسكري المشترك دفاعًا عن نظام بشار الأسد، من خلال إنشاء قنوات تنسيق بينهما أخذت طابعًا مؤسسيًا، بل طابعًا عمليًا، حين عملت وحدات النخبة لدى “حزب الله” المسماة “قوات الرضوان”، بالتنسيق الكامل مع الطيران الروسي، في مواقع عدة، خاصة في أثناء اجتياح حلب في أواخر عام 2016. وفي الواقع، وقفت إيران إلى جانب النظام منذ بدايات الثورة، ولم يتغيّر موقفها طوال السنوات الإحدى عشرة.

وفي حين أنّ هذا الدعم الإيراني كان بعيد المدى للنظام ورأسه، فإنّ روسيا كانت متمسّكة بحمايتهما، وهذا يشير إلى أنهما متوافقان مبدئيًا، ولكنهما قد يتعارضان، على المدى الطويل، إذا ما تغيّرت معطيات صراعهما مع الغرب.

أما بالنسبة إلى حدود التمسّك ببقاء بشار الأسد على رأس السلطة، لضمان سيطرة ضباط علويين على المفاصل الأمنية لسورية، فيتوافق الطرفان في المدى المتوسط، لكنهما قد يتعارضان على المدى البعيد. وقد شددت روسيا، طوال مراحل الصراع المختلفة، على ضرورة تأجيل النقاش حول مصير بشار الأسد. وكانت الخارجية الروسية تؤكد، منذ العام 2012، أنها غير متمسكة بالأسد شخصيًا، لكنها تخشى سقوط الدولة السورية. وما إن بدأت موازين القوى تتغير على الارض لصالحها حتى بدأت تبرر موقفها بالقول بأنّ “مصير الأسد يُحدده الشعب السوري من خلال الصناديق”، ما يعني أنه لا بدَّ أن يكون جزءًا من العملية الانتقالية، وأنّ حكمه سيدوم.

في المقابل، أصرّت إيران، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، على تمسّكها بالأسد، وعبّرت عن ذلك علانية، من خلال التزامها السريع وغير المحدود بدعم النظام، عسكريًا وماليًا، بما يمكّن من استمرار سيطرة علويين على المفاصل الأساسية للسلطة. أما بشار الأسد، فهو يراقب كلًا من روسيا وإيران كيف ستتفقان أو تختلفان بشأن مستقبله.

وفي الواقع، تشكل المعركة في سورية بالنسبة إلى إيران معركة وجودية، حيث أدى الدخول العلني بعد عام 2012، وإحضار الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية إلى سورية، إلى إلغاء خيار التراجع أو الانسحاب، إذ أصبح يعادل هزيمة إيران نفسها. وكان دور إيران داخل سورية متعدد الأبعاد، والأبرز فيه التدخل في الخريطة الديموغرافية-الطائفية، من خلال تحشيد الشيعة السوريين، على محدودية عددهم في سورية، وتنظيمهم في حرب النظام على السوريين، عبر مقولات الدفاع عن الشيعة وحماية المراقد الشيعية. وفي هذا السياق، نلمس توافقًا روسيًا-إيرانيًا، سيمتد طويلًا ما دام الطرفان يواجهان عقوبات الغرب، ويتعاونان في الحرب الروسية على أوكرانيا.

منذ بداية الحراك الشعبي، وقفت إيران إلى جانب النظام السوري، وخصّصت ميزانية ثابتة تشمل مصروفات تشغيله كلها، فضلًا عن الموازنات الكبيرة للميليشيات المقاتلة، حتى إن مهدي طائب، رجل الدين البارز المقرّب من مرشد الجمهورية الإسلامية خامنئي، وهو رئيس مقر “عمّار الاستراتيجي” لمكافحة الحرب الناعمة الموجهة ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منحَها أهمية استراتيجية قصوى بين المحافظات الإيرانية، إذ قال: “سورية هي المحافظة الـ 35، وتعدّ محافظة استراتيجية بالنسبة لنا. فإذا هاجمَنا العدو بغية احتلال سورية أو خوزستان، فالأَولى بنا أن نحتفظ بسورية”[1].

هذا بالتأكيد اعتراف صريح، يعني “أنّ علينا أن نتوقع صراعًا مريرًا مع إيران الخامنئية، وليس مع الأسد فحسب، قبل أن نحرر بلادنا من حكم الطغمة القاتلة، ونتحرر مما يحتمل أن يتحول إلى احتلال أو استعمار إيراني، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة”[2].

أما روسيا فدعمها المالي المباشر إلى النظام محدودٌ جدًا، وإنما تدعم الوحدات العسكرية، والميليشيات التي تأتمر بأمرها، إضافة إلى تزويدها النظام بالأسلحة المدفوعة الثمن، وهي ترحب بمساعدات إيران للنظام. وتقدر التقارير أنّ إيران أنفقت في سورية ما وصل إلى 30 مليار دولار، منذ العام 2011، وليس في برامج مرشدها استردادها مباشرة، بل تحويل تلك المليارات إلى أرصدة بشرية ومساحات نفوذ إمبراطوري [3].

أما بالنسبة إلى موضوع عودة اللاجئين إلى سورية، فإنّ روسيا تستخدمه كأداة ضغط لتحقيق مصالحها، وخاصة الإيحاء بأنّ رؤيتها للحل في سورية قيد التحقق. ولذلك دعت إلى مؤتمر دولي لعودة اللاجئين والمهجرين السوريين، عقد في دمشق في نهاية عام 2020، وأصبح تقليدًا روسيًّا تكرر في عامي 2021 و2022، بهدف إظهار أنفسهم قوة متحكمة في سورية، وإعادة تأهيل النظام ليكون مقبولًا أكثر على المستوى الدولي. مع العلم أنّ المنظمات الدولية لحقوق الإنسان (المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش) أكدت أنّ الظروف لا تسمح بعودة اللاجئين، بل إنها وثقت حالات اعتقال وتعذيب من قبل السلطات السورية بحق العائدين. وشددت (هيومن رايتس ووتش) على أنّ “سورية أبعد ما تكون عن توفير الأمن والسلامة للعائدين”[4].

وهكذا، يبدو واضحًا أنّ ثمة مؤشرات عديدة تشير إلى أنّ حدود التوافق الروسي-الإيراني واسعة جدًا، خاصة اتفاقهما على الاستمرار في دعم نظام بشار الأسد، وقد بدت هذه المؤشرات أكثر وضوحًا، بعد الانخراط الإيراني في الحرب الروسية في أوكرانيا، وشعور الطرفين بأنهما أكثر عرضة للعقوبات الغربية.

ثالثًا: حدود التنافس والتعارض في سورية

برزت تعقيدات العلاقات الروسية-الإيرانية في سياقات عديدة؛ إذ تشير التجارب التاريخية إلى صعوبة التعايش بين قوتين خارجيتين محتلتين في جغرافيا واحدة، وهذا ما بدأ يظهر جليًا على طبيعة العلاقة بين روسيا وإيران في سورية، فقد استطاع بوتين أن يمنع إيران من أن تفرض عليه سرعة الخطوات التي تناسِبُها، والجبهات التي تفضّلها، حتى إنه ترك مقاتليها من دون غطاء جوي ليُقتلوا، حين حاولت فعل ذلك، كما حصل أثناء حصار حلب في أواخر عام 2016. وهكذا، تتعدد مظاهر التنافس، الذي يمكن أن يصل إلى حدِّ التعارض، لكنّ كلا الطرفين يعمل على إخفائه، لأن في ظهوره إلى العلن إضعافًا لكليهما.

فبينما تنخرط روسيا في الحرب مع أوكرانيا، تحاول إيران استغلال فرص انشغالها، لتعزيز وجودها في سورية، خاصة عند الحدود العراقية-السورية، محاولة ضمان الخطّ الواصل بين طهران ولبنان عبر العراق وسورية. وكذلك في منطقة الجنوب السوري، حيث يشكو النظام الأردني من خطر وصول الميليشيات الإيرانية إلى عقر داره. على الجانب الآخر، من غير المرجّح أن تتخلى روسيا عن مكاسبها في سورية، التي كانت نافذتها لإعادة ترسيخ وجودها في الشرق الأوسط.

يظهر تنافس الطرفين واضحًا في المؤسستين العسكرية والأمنية؛ حيث يعاني جيش النظام عجزًا كبيرًا بشريًّا ولوجستيًّا، مما أفسح في المجال لكل من موسكو وطهران بتأسيس تشكيلات رديفة، أظهرت التنافس والتعارض بينهما. فبعد أن اعتمد الروس لتدخلهم العسكري المباشر في سورية على الوجود الإيراني العسكري والميليشياوي على الأرض، شرعوا في خطواتهم الخاصة من أجل هيكلة مؤسسة عسكرية منضبطة، من خلال حلّ الفصائل المحلية العاملة ضمن ما يسمى “الدفاع الوطني” ذي الطابع الطائفي.

وتشير الوقائع على الأرض السورية إلى تعاظم دور الفيلق الخامس، الذي أعلنت روسيا تشكيله ضمن صفوف جيش النظام، في بداية تدخلهم العسكري المباشر في أيلول/ سبتمبر 2015. مما حجّم دور ميليشيا “الدفاع الوطني” التي شكلت رديفًا مهمًا لجيش النظام خلال السنوات السابقة، وهذا الأمر يعكس تنافسًا بين موسكو وطهران على امتلاك النفوذ الأكبر على قوات النظام، لا سيما أن ميليشيا “الدفاع الوطني” تشكلت بأمر إيراني نفّذه الضابط السابق في الحرس الثوري الإيراني حسين همداني، الذي قتل في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 قرب حلب [5].

وقد أجبرت موسكو الأسد على إجراء بعض التغييرات، لتحجيم نفوذ إيران على الجيش السوري والأجهزة الأمنية، لصالح قادة معروفين بولائهم لموسكو. وقامت بتشكيل قوات شبه عسكرية، يُختار عناصرها بعناية من قبل روسيا، مثل الفيلق الخامس، لتعزيز قدرة الوحدات القتالية التي تعمل تحت إمرة الأسد. وقد كان التنافس بين روسيا وإيران يتحوّل إلى صراع ساخن بين الحين والآخر، حيث كانت مدن حلب واللاذقية ودير الزور، طوال عام 2019، ساحةً للعديد من النزاعات؛ فمثلًا “تصاعدت الاشتباكات في 6 آب/ أغسطس 2019، في حيّ الحمدانية غربي مدينة حلب، واستُخدمت فيها قذائف الهاون، ما تسبب بإصابة مدنيين” [6].

وعلى مستوى الأجهزة الأمنية، يتحكم مكتب استخبارات الجيش الروسي، الموجود في منطقة المهاجرين بدمشق، في بعض هذه الأجهزة، ومنها المخابرات العسكرية. أما الإيرانيون من جانبهم، فيعملون بواسطة مكتب استخبارات الحرس الثوري في دمشق بمنطقة المزة، حيث يلعب الدور الأهم في شراء ولاءات ضباط بعض الأجهزة. ووجد الطرفان في “الشركات الأمنية” الخاصة مدخلًا لتعزيز مصالحهما. ولكن ثمة تقدير استخباري، من قبل الخبير في شؤون الشرق الأوسط وسورية في “الوكالة السويدية لأبحاث الدفاع” آرون لوند، يؤكد أن “ليس من السهل على روسيا أو أي حكومة أخرى أن تخترق الأمن السوري” [7].

على الصعيد الاقتصادي، تعتقد روسيا وإيران أنهما استثمرتا كثيرًا من الأموال والإمكانات في سورية، وأنه لا بدَّ من حصول كل منهما على التعويض الكافي. ويبرز تضارب المصالح بينهما في ملف الصراع على مينائي اللاذقية وطرطوس في الساحل السوري، وفوسفات البادية، وقطاعات الطاقة والزراعة والسياحة، ويصل ذلك إلى حدِّ التنافس الشديد.

ويمثل الساحل السوري نموذجًا للتنافس بينهما، فهو من جهة محسوب باعتباره مركز سيطرة المؤيدين للنظام، ويشكل مركزًا لاهتمام كلا الطرفين، سواء لأهميته الجيوسياسية، أو لاعتبارات اقتصادية وديموغرافية. روسيا ترسخ وجودها في مينائي اللاذقية وطرطوس، وقد تدخلت لإيقاف عقد استثمار ميناء اللاذقية الذي كان سيمنح لإيران، إضافة إلى استحواذها -روسيا- على أكثر من عقد للتنقيب عن الغاز في المياه الاقتصادية السورية لشرق المتوسط، حيث تطمح إلى أن تكون لاعبًا مؤثرًا في “منظمة دول غاز شرق المتوسط”. إضافة إلى استحواذها على مناجم الفوسفات الطبيعي في منطقة خنيفيس في البادية السورية.

ويتصادم ذلك المسعى مع المساعي الإيرانية الرامية إلى استكمال خط الغاز باتجاه أوروبا عبر البحر المتوسط، وتأمين طريق التواصل بين طهران – بغداد – دمشق – الساحل السوري، لإيصال السلاح إلى ذراعها “حزب الله”. إلا أنّ الوجود الإيراني على الساحل السوري يشكل مصدر قلق بالنسبة إلى روسيا التي تريد أن تكون صاحبة القوة الرئيسية على الساحل الشرقي للمتوسط، الواعد بحقول عملاقة من الغاز غير المكتشف حتى الآن، وهو ما يضمنه لها ميناءا اللاذقية وطرطوس [8].

أما الأسد فإنه يحاول، من خلال منح امتيازات مختلفة لكلا الطرفين، مسك العصا من الوسط بين حليفيه اللذين يدين لهما بالبقاء في السلطة. لكنّ الامتيازات التي حصلت عليها موسكو في سورية أثارت انزعاج طهران، وقد أعرَب حشمت الله فلاحت بيشة، رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي، في أثناء زيارة قام بها إلى دمشق في أيار/ مايو 2020، عن امتعاضه بشأن الامتيازات الممنوحة لروسيا، مشيرًا إلى أنّ على إيران “استعادة أموال شعبها التي أنفقتها على سورية، بالتزامن مع الواقع الاقتصادي المتدهور الذي تعيشه البلاد، فإيران أعطت ما بين 20 و30 مليار دولار للنظام السوري، ويجب استعادة هذه الأموال التي تعود إلى الشعب” [9].

وكانت طهران قد وقّعت خمس مذكرات تفاهم مع وفد الحكومة السورية الذي زار طهران، في 17 كانون الثاني/ يناير 2019، تضمنت استثمارات مهمة في الطاقة والصناعة والزراعة والثروة الحيوانية وميناء في اللاذقية، كي يكون لإيران موطئ قدم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وفي مجال الاتصالات، حصلت إيران على إحدى أهم الاستثمارات بتشغيل الهاتف المحمول الثالث في البلاد، بحيث تكون حصة الجانب السوري 20%، في مقابل 80% لشركة إيرانية [10]. وعلى الرغم من الكم الكبير من الاتفاقيات التي أبرمتها، فإنّ جزءًا كبيرًا منها لا يزال حتى الآن “حبرًا على ورق”. وقد تحدث الباحث الاقتصادي السوري كرم الشعار عن “مماطلة رئيس النظام السوري”[11]. وعلى هذا الصعيد طالب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي رأس النظام السوري، في 10 تموز/ يوليو الماضي، بضرورة “تنفيذ الاتفاقيات بين البلدين ومتابعتها بجدية”، بما يؤكد ما ذكره كرم الشعار، إذ إنّ “مخرجات الاتفاقات الموقعة ما تزال بطيئة وضعيفة”.

يظهر التنافس الروسي-الإيراني في منطقة شرق الفرات المهمة، على صعيد تحقيق التواصل البري بين إيران وسورية عبر العراق، وهي المنطقة التي توجد فيها حقول النفط والغاز الأهم في سورية. فكل طرف يسعى لبناء الميليشيات المحلية المقربة منه، وذلك بهدف السيطرة على الأرض، وبلوغ الأهداف التي تنسجم مع توجهاته.

على الصعيد الثقافي والتدخل في معتقدات السوريين، يظهر تنافس الطرفين وتناقضهما، إذ يبدو أن ثمة تنافسًا على أطفال سورية وشبابها، وقد افتتحت روسيا ثانوية في الغوطة الشرقية، وبدأت تقديم منح دراسية لتعلم اللغة الروسية. وفي الوقت الذي اتجهت فيه إيران إلى دعم انتشار اللغة الفارسية في الساحل السوري، فإنّ السلطات السورية، تحت ضغط من موسكو، أغلقت مدارس عدة تمولها إيران في الساحل السوري، بحجة أنها لا تلتزم بالمناهج الرسمية [12].

وتركّز إيران على عملية تشييعٍ تنطوي على إيجاد نسخة سورية لـ “حزب الله”، حيث تم تهجير سوريين في المناطق المتاخمة للبنان، بهدف إنشاء مراكز شيعية، إضافة إلى اهتمامها بدعم المعاهد الشرعية في دمشق وحمص ومنطقة القلمون، بدعم مباشر من الملحقية الثقافية الإيرانية في سورية. وقد تحوّلت مناطق داخل سورية إلى محميات إيرانية بامتياز، خصوصًا في دمشق وريفها، مثل بلدة السيدة زينب، جنوب دمشق، مثلًا. وتسعى طهران إلى نشر اللغة الفارسية بين السوريين لتكون اللغة الثانية لهم، فقد افتتح قسم اللغة الفارسية في جامعة تشرين باللاذقية، في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، وبذلك تصبح جامعة تشرين ثالث جامعة سورية، تُدرّسُ اللغة الفارسية كاختصاص مستقل، بعد جامعتي دمشق والبعث في حمص[13].

ويبدو أنّ العلاقات بين شيعة إيران وعلويي سورية ظلّت متوترة، إذ إنّ هناك كثيرًا من العائلات العلوية الوازنة عشائريًا في الطائفة التي لا تخاصم آل الأسد، ولكنها ترفض تدخّل إيران في مناطقها دينيًا، وترفض سعيها لنشر التشيع.

من ناحية حياد روسيا تجاه الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية، فقد كان رهان إسرائيل هو على تمكّن روسيا من تنظيف سورية من أي خطر على إسرائيل، من إيران وميليشياتها. وهكذا كان الانخراط الروسي مع إسرائيل مظهرًا من مظاهر التناقض بين الطرفين، إذ لم يكن مقبولًا من جانب إيران التي تستخدم ذراعها “حزب الله” كسلاح ضغط على حدود إسرائيل. ولعلَّ أكثر ما يثير امتعاض طهران ما بدا أنه ضوء أخضر من موسكو لتل أبيب لضرب الأهداف الإيرانية في سورية، خاصة منذ تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، في 16 آب/ أغسطس 2019، بأنّ “إيران ليست حليفة لموسكو”، وأنّ بلاده “لا تستخف بأية طريقة بأهمية التدابير التي من شأنها ضمان أمن قوي لإسرائيل، وهي من أهم أولويات روسيا”[14]. لذلك كان هناك خط هاتفي مشفّر يربط قاعدة حميميم بمركز قيادة سلاح الجو الإسرائيلي منذ سنة 2017، وتساعد الآلية الطرفين في تجنب التداخل بين الإجراءات الروسية والإسرائيلية.

وكانت هناك مشكلة أساسية بين الروس والايرانيين، بعدما شرعت إسرائيل باستهداف مكثف للوجود الإيراني، في الجنوب السوري، وفي وسط وشرق وغرب سورية، حيث تحاول منع التمركز الإيراني فيها.  وهكذا، فإنّ طموحات البلدين تختلف، روسيا التي لا تزال تحتفظ بنفوذ ووجود عسكري ليست متحمسة لطموحات طهران الإقليمية، ولم تفعل شيئًا يُذكر لإحباط الضربات الجوية الإسرائيلية ضد الأهداف والمصالح الإيرانية في سورية، لكنها، في الوقت نفسه، لم تعمل لاحتواء نفوذ طهران بالطريقة التي كانت تريدها إسرائيل.

ولم تكتفِ إيران بالتغلغل في الجيش وقوات الأمن، وانتشار التشيّع، بل رعت صناعة مخدرات الكبتاغون وتهريبها، ما يسمح لإيران و”حزب الله” والشبكات السورية، المدعومة من ماهر الأسد خاصة، بجني العائدات. وحوّلت سورية إلى مصنع للمخدرات ومركزًا لتجارتها في المنطقة.

وعلى صعيد العلاقة بين الأطراف الضامنة في آستانة، روسيا وإيران وتركيا، ليست الأمور سالكة، ففي الوقت الذي تتعزز المصالح المشتركة بين روسيا وتركيا، تجد إيران نفسها منافسة لتركيا في الإقليم، وهنا تظهر العلاقات التنافسية بين روسيا وإيران، خاصة أنّ الحسابات الموضوعية تظهر أنّ تركيا يمكنها أن تخدم إستراتيجية روسيا في سورية أكثر بكثير من إيران، بحكم جوار تركيا مع سورية، وبحكم العلاقات التاريخية، وكون غالبية السوريين مسلمين سنّة، بينما إيران ونظامها الديني دولة غير مقبولة على العموم في سورية.

في الواقع، سمحت العلاقة الروسية-الإيرانية في سورية بتحوّل المساهمة الإيرانية في دعم النظام ضد معارضيه إلى مشروع إيراني ذاتي لتحقيق الهلال الشيعي، الذي استغرق بناؤه نحو ثلاثة عقود من العمل. فقد لعبت إيران دورًا حاسمًا في اتباع النظام الحل الأمني، والتحريض الطائفي، ودفع الحراك إلى حمل السلاح.

في المقابل، تحاول روسيا أن تستميل بعض أطراف المعارضة، خاصة منصات موسكو والقاهرة وحميميم وبعض الشخصيات، الذين يتسمون بالمرونة تجاه النظام، لكنّ إيران اعتبرت جميع معارضي الأسد إرهابيين. وعلى الرغم من أنّ التدخل المباشر الروسي شكل خطرًا على المعارضة، فإنه زعزع أسس المشروع الإيراني، حيث لم يعد لإيران وحدها حق تقرير مستقبل النظام أو الحل المقبول أو غير المقبول من طرفه. وتبقى روسيا مضطرة إلى الحفاظ على شكليات الشرعية الدولية، وتحرص على أن يكون الحل عن طريق إبرام اتفاق بين المعارضة والنظام، ولكن وفق شروط موسكو، لذلك كانت خطتها إضعاف المعارضة، سياسيًا وعسكريًا، لإرغامها على توقيع اتفاق يلائم رؤيتها ورؤية النظام.

من جانب آخر، تريد روسيا كسب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كحليف إلى جانب قوات نظام الحكم في سورية، مما قد يفضي إلى فرض تسوية بين النظام و(قسد) تؤدي إلى احتواء الأخيرة في صفوف قوات النظام. وبذلك تمتلك روسيا أوراق ضغط على إيران، عبر الاقتراب من منطقة العمليات الإيرانية في سورية والعراق، أي الحاجز الأمني الإيراني الممتد من العراق وحتى لبنان، وهو ما سيتيح لموسكو تقويض المصالح الإيرانية في سورية، إذا ما استدعت الحاجة لذلك، وهنا سيظهر التعارض بين المشروعين الروسي والإيراني.

رابعًا. مستقبل سورية في منظور كل من روسيا وإيران

تستهدف روسيا إعادة تأهيل الأسد ونظامه، واستعادة سلطة الدولة المركزية وحصر السلاح بيد الدولة، لذا هي منخرطة أكثر من إيران في تحديد معالم النظام السياسي القادم في سورية، لناحية شكل هذا النظام ومضمونه وآليات عمله، إضافة إلى الدستور المرتبط به، وهي تستثمر في بناء منصات سورية تابعة لها، بهدف تأمين النفوذ الروسي لاحقًا، ويترافق ذلك أيضًا مع استثمار في الأجهزة الأمنية والجيش. 

وقد عطلت روسيا عمل مجلس الأمن وقراراته بشأن سورية، حيث استخدمت حق النقض 13 مرة لقرارات تتعلق بإدانة النظام السوري، أو السماح لمحكمة الجنايات الدولية في التحقيق في جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية. ومع أنها وافقت على القرار 2254، فإنها من الناحية العملية نجحت في تعطيل الجهود الدولية لإيجاد حل سياسي من خلال مؤتمر جنيف.

في المقابل، يبدو أن تركيز إيران ينصبّ على استنساخ تجربة مماثلة لما فعلته في لبنان والعراق، لناحية توطين صناعة الميليشيات المسلحة الموالية لها، وإعادة تشكيل الديموغرافيا، وتكوين حاضنة طائفية داعمة لها في بعض المناطق، وذلك لكي تضمن من خلال هذه الأدوات مصالحها ونفوذها مستقبلًا، بغض النظر عن مصير الأسد.

في الآونة الأخيرة، أثرت ظروف الحرب الأوكرانية بشكل سلبي في دور روسيا المهيمن في سورية، وحاولت إيران استغلال الوضع وتوسيع نفوذها العسكري في الجنوب والشمال الشرقي، غير أنّ التدخل الإيراني في حرب أوكرانيا يؤكد توجه طهران إلى تعميق تحالفها مع موسكو، في مواجهة الغرب الذي يعتبر البلدَين في موقع العداء والمواجهة معه.

يشكل الوجود العسكري الإيراني في سورية مصدر تهديد كبير لمصالح روسيا، وخاصة في المستقبل، إذ لن تسمح الدول الخليجية والأوروبية، بضغط من الإدارة الأميركية، بانطلاق عملية إعادة الإعمار من دون حل سياسي يخرج إيران من سورية، مما يفقدها إمكانية الفوز بعوائد اقتصادية كبيرة من العملية. ولكن روسيا تحتاج إلى قوات إيران وميليشياتها إلى حين الوصول إلى حل، أو إيجاد بديل لميليشيات إيران.

وفقًا لخبرات إيران في العراق ولبنان، تنظر إيران إلى الوصول إلى حل سياسي في سورية، كخطر يهدد مصالحها، اعتقادًا منها أنّ أي اتفاق سلام لإيقاف الحرب سيؤدي إلى تقاسم السلطة على أساس عرقي-مذهبي، سيكون بالطبع عرضة لشلل سياسي، لذلك فإنها تفضل ألا تكون هناك سلطة مركزية، لأنها تريد المحافظة على الأرض السورية جسرًا لجماعاتها في لبنان. ولكن تبقى إيران، مع كل جهودها في سورية واستثماراتها، الشريكَ الأصغر لروسيا، لذلك تشعر بالقلق من الحل السياسي. وهي تخشى من مرحلة ما بعد الصراع، وتدرك أنّ أسد ما بعد الحرب لن يكون هو ذاته أسد الحل العسكري الأمني. وتعلم موسكو أنّ إيران مع بقاء الأسد وبقاء نظامه بأركانه كافة، لأنها تعلم أنّ أي تغيير في تركيبة الحكم سيعني نهايته، وأنها مع حلّ عسكري، وضد أي حل سياسي، وضد الوصول إلى أي اتفاق مع المعارضة، بل تريد هزيمة المعارضة كليًا، وأن يأتي أفرادها صاغرين قابلين شاكرين لما يعطى لهم.

يبدو أنّ الخلاف بين روسيا وإيران لن يصل إلى حد كسر العظم، على المدى المنظور على أقرب وجه، بل سيجد طريقه نحو التفاهم والتقاسم التوافقي للمغانم، مرورًا بتفهم موسكو لمصلحة إيران في سورية؛ إذ ليس من مصلحة موسكو خسارة تحالفها مع طهران وورقة الملف السوري، ما دامت توظفهما في صلب لعبة التنازع على النفوذ مع الغرب في أوكرانيا. وفي المقابل، ليس من مصلحة إيران مناكفة روسيا على حضورها ودورها في سورية والمشرق العربي، ما دامت تستمد منها الدعم والحماية. ويمكن ملاحظة تقارب العلاقات بين إيران وروسيا، بعد استخدام صواريخ باليستية وطائرات مُسيّرة إيرانية الصنع في الهجمات على مدن أوكرانية.

ويبدو لنا أنّ الخلافات بين الطرفين يمكن أن تتصاعد، كلما اقتربت المسألة السورية من الحل، ذلك لأنّ من مصلحة روسيا التعاطي مع مصالح المحور الخليجي الذي يرفض تمدد النفوذ الإيراني من جهة، وهو القادر على دعم إعادة الإعمار من جهة ثانية.

إن الصراع في سورية لا يمكن فصله عن محاولات روسيا توسيع نفوذها وتعزيزه في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وهذا يعني بقاء الصراع السوري عالقًا، من دون حلول، إلى حين توصل الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى طريقةٍ لوضع حد للحلم الإمبراطوري الروسي في أوكرانيا.

مراجع الورقة:

    ديمتري ترينين: روسيا وإيران (انعدام الثقة في الماضي وتعاون في الوقت الحاضر)، مركز كارنيغي/ موسكو 8 أيلول/ سبتمبر 2016، ترجمة: سمير رمان،15 كانون الأول/ ديسمبر 2016.

    د. علي حسين باكير: التباين الروسي – الإيراني حول مستقبل سورية – ورشة عمل “محددات العلاقات الإيرانية – الروسية وتجلياتها في سورية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة ومركز الدراسات الإيرانية (إيرام)، أنقرة- 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2017

    رحيم الله فرزام (مركز الدراسات الإيرانية): تباين الطرق في سورية بين روسيا وإيران – مركز حرمون للدراسات المعاصرة، قسم الترجمة 21 حزيران/ يونيو 2020.

    المجلس الروسي للشؤون الدولية بالشراكة مع معهد الدراسات الإيرانية (اليورو آسيوية): نقاط الخلاف والاتفاق بين طهران وموسكو في سورية – ترجمة: ربى خدام الجامع، موقع تلفزيون سوريا 25 كانون الأول/ ديسمبر 2020.

    رنا باروت: العلاقات الإيرانية – الروسية خلال الأزمة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 23 أيلول/ سبتمبر 2021.

    رنا الخطيب: المأزق الروسي – الإيراني في سورية، مبادرة الإصلاح العربي، تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.

    لانا رواندي فدائي: تاريخ العلاقات الروسية – الإيرانية واتفاق فيينا النووي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.

    حسام السعد وطلال المصطفى: محددات الوجود الإيراني في سورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 12 آذار/ مارس 2018.

– اعتمدت في إعداد الورقة على بعض مخرجات “وحدة دراسة السياسات”، في مركز حرمون للدراسات المعاصرة:

* الصادرة في 18 حزيران/ يونيو 2016، تحت عنوان “حزب الله اللبناني في مواجهة الاستحقاقات المؤجلة”.

* الصادرة في 18 نيسان/ أبريل 2017، تحت عنوان “التغيير الديموغرافي في سورية: من السياسة العشوائية إلى السياسة الممنهجة”.

* الصادرة في 25 حزيران/ يونيو 2017، تحت عنوان “إيران الفارسية تتلطى وراء إيران الشيعية”.

– جوزيف ظاهر (أستاذ العلوم السياسية – جامعة لوزان بسويسرا): استراتيجيات التغيير الديموغرافي في سورية، مركز الجزيرة للدراسات، 9 حزيران/ يونيو 2017.

– المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية: التهجير في سورية: تصنيفه – آلياته – أهداف الأطراف الفاعلة فيه، أعد البحث الناشط همام الخطيب، إشراف المحامي أنور البني.

-عبدالله تركماني: التغيير الديموغرافي في سورية سياسة منهجية، ورشة عمل “محددات العلاقات الإيرانية – الروسية وتجلياتها في سورية”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة ومركز الدراسات الإيرانية (إيرام)، أنقرة – 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2017

-أحمد بن ضيف الله القرني: آفاق التخادم الاستراتيجي الروسي – الإيراني في سورية، مركز الدراسات والبحوث الإيرانية، 18 حزيران/ يونيو 2020.

[1] (رجل دين إيراني يصف سوريا بالمحافظة الإيرانية الـ 35) العربية، النشر 15 شباط 2013، الزيارة: 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/OzC5Ma

[2] برهان غليون، (في معنى أن تكون سورية محافظة إيرانية) مركز الجزيرة للدراسات، النشر 24 شباط/ فبراير 2013، الزيارة 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط: https://2u.pw/tEtXPa

3 عدنان عبد الرزاق، (النظام السوري يواصل الاقتراض بشراهة: ديون كارثية)، العربي الجديد، النشر 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الزيارة 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الرابط: https://2u.pw/T0O0Zx

 4 لما فقيه، (الإعادة القسرية للسوريين من قبل السلطات اللبنانية غير قانونية وغير آمنة)، هيومن رايتس ووتش، النشر 6 تموز 2022، الزيارة  10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/HEj24m

[5] مراد القوتلي، (ميليشيا “الدفاع الوطني” مهددة بفعل الجهود الروسية لحلها والاستعاضة بـ “الفيلق الرابع”)، السورية نت، النشر 01 كانون الأول/ ديسمبر 2015، المشاهدة 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط  https://2u.pw/BSVvGm

[6] عمر يوسف، (حلب بعهدة إيران.. هل حُسم الصراع مع روسيا على المدينة؟)، الجزيرة، تاريخ النشر 8 آب/ أغسطس 2019، شوهد بتاريخ 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022: https://2u.pw/IWQxxX

[7] أمل رنتيسي، (هل يستطيع الروس إزاحة الأجهزة الأمنية في سورية؟) صحيفة عنب بلدي، النشر 17 كانون الثاني/ يناير 2021، الزيارة 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/HIzoQg

[8] في 27 آذار/ مارس 2018، صادق مجلس الشعب السوري على عقدٍ يسمح للشركة الروسية “ستروي ترانس غاز”، بحقّ استثمار واستخراج الفوسفات من البادية في منجمي الشرقية وخنيفيس، كما أعطى روسيا حق استثمار ميناء طرطوس والأراضي المحيطة به لمدة 49 عامًا. وكانت شركة “سيوز نفط” الروسية قد بدأت بأعمال الحفر والتنقيب عن النفط في ريف مدينة اللاذقية والمياه الإقليمية السورية، بموجب الاتفاقية الموقعة بين الطرفين عام 2013، بعد الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية.

[9] أحمد بن ضيف الله القرني، (آفاق التخادم الاستراتيجي الروسي – الإيراني في سورية)، مركز الدراسات والبحوث الإيرانية، النشر 18 حزيران/ يونيو 2020، الزيارة 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/8E1k6O

[10] (إيران والنظام السوري.. الاتفاقيات الاقتصادية “برسم المتابعة”)، موقع السورية نت، النشر 13 آب/ أغسطس 2022، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط: https://2u.pw/cQbOrJ

[11] ضياء عودة، (صور و”اتفاقيات على ورق”.. ماذا تريد إيران من الاقتصاد السوري)، موقع تلفزيون الحرة، النشر 17 كانون الثاني/ يناير 2022، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/vixfef

[12] عهد فاضل، (حقيقة إقفال مدارس تابعة لإيران في الساحل السوري)، العربية نت، النشر 11 تموز/ يوليو 2017، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/4bBsqH 

[13] (اللغة الفارسية تغزو الجامعات السورية)، المدن، النشر 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/LPwHYl

[14] (نائب وزير الخارجية الروسي: أمن إسرائيل أولوية لنا)، سي إن إن العربية، النشر 24 كانون الثاني/ يناير 2019، الزيارة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، الرابط https://2u.pw/NSt

مركز حرمون

——————————

=======================

تحديث 11 كانون الأول 2022

—————————–

لماذا قد يطول بقاء بوتين في السلطة/ جون مولر

كثيراً ما صمد الزعماء الجبابرة أمام الهزائم المدوية

بصرف النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، على الأرجح أن يحكم عليها التاريخ باعتبارها كارثة. كان من بين أهداف موسكو منع أوكرانيا من الالتحاق بحلف “الناتو” والغرب؛ وإنشاء نظام موال في كييف؛ ومنع اشتداد قوة القوميين الأوكرانيين الذين يسميهم بوتين “النازيين الجدد”؛ والحد من كراهية روسيا في أوكرانيا؛ ومنع أوكرانيا من مزيد من التسليح؛ وإعادة بناء الاتحاد السوفياتي – أو الإمبراطورية الروسية – وفق صيغة ما تحت سلطان الكرملين؛ وتقسيم الغرب؛ وزيادة الهيبة والنفوذ الروسيين في المنطقة وحول العالم؛ وتدمير الديمقراطية أو على الأقل تقويضها؛ وتعزيز استخدام اللغة الروسية في أوكرانيا إلى جانب جعل الأوكرانيين أقرب إلى روسيا والروح الروسية من حيث الهوية؛ وإظهار براعة الجيش الروسي وعظمته.

بدلاً من ذلك، وبعد أن بذلت روسيا كثيراً من الدماء والأموال، أصبحت أضعف وأكثر عزلة وأشد مهانةً من ذي قبل، في حين أخذت أوكرانيا تغدو أقرب إلى الغرب مسلحة بأسلحة تزداد تطوراً ومدعومةً بهوية وطنية تعززت في الآونة الأخيرة.  بهذا القدْر أثبتت مغامرة بوتين بالفعل أنها جاءت بنتائج معاكسة إلى حد كبير، وقد يُدرَج اسم بوتين في صفحات التاريخ على أنه فلاديمير الأحمق، أو لربما يُسمى فلاد الذي خدع نفسه، أن نسخة مجددة من فلاد الثالث المخوزِق [ملك رومانيا] الذي اشتهر في القرن الخامس عشر.

ويرى عديد من المراقبين في هذا المسار الوخيم ما يشير إلى أن أيام بوتين أصبحت معدودة، وفي رأيهم أن الزعماء الذين يتكبدون هزائم مدوية في ساحة المعركة غالباً ما لا يمكثون لفترات طويلة في السلطة بعد هزائمهم. على سبيل المثال، ذلك ما كانت عليه الحال مع الزعيم الباكستاني يحيى خان في أوائل السبعينيات ومع زعيم المجلس العسكري الأرجنتيني ليوبولدو غالتييري بعد عقد من الزمان، وهما اللذان اضطرا إلى الاستقالة بعد مغامرات عسكرية مهينة. معنى هذا أن من المرجح لغزو بوتين أن يفضي إلى سقوطه.

غير أن هذا التقييم قد يكون سابقاً لأوانه. وعلى رغم وجود أسباب لأن يشكك المرء في إمكانية بقاء بوتين في منصبه لفترة طويلة، إلا أن في التاريخ ما يفيد بأن فرص بقائه أوفر بكثير ما هو مفترض عموماً. في الواقع، وعلى مدى العقود الأخيرة، حتى أولئك الزعماء الذين تعرضوا لانتكاسات عسكرية مدوية لم يُبعَدوا من السلطة، سواءً بالانتفاضة الشعبية أو من خلال الانقلاب الداخلي.

الخسارة والبقاء

في عديد من البلدان ذات الحكم الاستبدادي، نادراً ما كان للخسائر الكارثية أثر يذكر حين يتعلق الأمر بسيطرة الزعيم على منصبه. على سبيل المثال، مُنِي المستبد جمال عبد الناصر في مصر بهزيمة نكراء في حرب 1967 مع إسرائيل، ومع ذلك بقي في السلطة وكان لا يزال في منصبه عندما توفي إثر نوبة قلبية بعد ثلاث سنوات. كذلك لم ينجُ الدكتاتور العراقي صدام حسين من الحرب الكارثية التي دامت ثماني سنوات التي شنها على إيران في عام 1980 فحسب، بل نجا أيضاً من حرب الخليج المدمرة عام 1991، إذ طردت القوات الأميركية وقوات الحلفاء قواتَه الغازية من الكويت في غضون 100 ساعة فقط.

في وقت هزيمة صدام حسين، لم يكن من غير المألوف أن نسمع تنبؤات من قبيل تلك التي نشرتها “نيويورك تايمز” نقلاً عن موظف في وزارة الخارجية الأميركية متخصص في شؤون الشرق الأوسط أكد أن صدام “قد هزم وأذل وأنه سرعان ما سيقتل على أيدي شعبه ما لم تمنحه دولة ما اللجوء، وهو أمر مستبعد”. لكن على النقيض من ذلك، ظل الطاغية العراقي في منصبه لمدة 12 عاماً أخرى إلى أن أطاحه قسراً الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003. كذلك كانت الحال مع عمر البشير في السودان، وهو الذي بقي في منصبه لمدة 14 عاماً بعد فشل حربه التي خاضها ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان في عام 2005، التي أسفرت عن استقلال جنوب السودان.

وحتى في الديمقراطيات التي يتوقع المرء أن يعاقَبَ فيها الزعماء على أدائهم من خلال صناديق الاقتراع، فإن الساسة كثيراً ما ينجون من العقاب على الهزائم العسكرية المحرِجة. إليكم الولايات المتحدة مثلاً، في عام 1982، أرسل رونالد ريغان قوات للمساعدة في ضبط الحرب الأهلية في لبنان، معلناً بتبجح أنه “في عصر التحدي النووي والترابط الاقتصادي، فإن مثل هذه الصراعات تشكل تهديداً لجميع شعوب العالم، وليس للشرق الأوسط وحده فقط”. ولكن في العام التالي، بعد أن ضرب تفجير إرهابي ثكنات مشاة البحرية الأميركية هناك متسبباً بمقتل 241 من أفراد الجيش الأميركي، سحب ريغان القوات الأميركية. ومع ذلك أعاد الناخبون انتخابه بأغلبية ساحقة في عام 1984 بعد حملة لم تذكر فيها الكارثة إلا نادراً. وبعد عقد من الزمن، تكرر أمر مماثل مع الرئيس بيل كلينتون بعد أن تعرضت القوات الأميركية لنكسة مدمرة في الصومال قتل فيها العشرات من الجنود الأميركيين في اشتباك مسلح. ولم يكن للانسحاب من الصومال لاحقاً تأثير ملحوظ يذكر في الحظوظ السياسية لكلينتون.

بل إن فيتنام كانت بمثابة هزيمة أفظع، وهي الحرب التي لقي فيها عشرات الآلاف من الأميركيين حتفهم، والتي أدت في عام 1975 إلى انتصار حاسم للشيوعية العالمية، العدو المركزي للولايات المتحدة لعقود من الزمان. ومع ذلك، في الحملة الانتخابية الرئاسية في العام التالي، لم يأت على ذكر الهزيمة أحد إلا عندما ذكر الرئيس جيرالد فورد أنها نقطة لصالحه. فقد قال إنه عندما تولى منصبه، كانت البلاد “لا تزال غارقةً في مشكلات فيتنام”، لكنها الآن “في سلام”. في النهاية خسر فورد الانتخابات، ولكن النتيجة تحددت إلى درجة كبيرة بقضايا أخرى مثل التضخم وفضيحة ووترغيت والعفو الرئاسي عن ريتشارد نيكسون. ولم يجد الديمقراطيون المعارضون أن من مصلحتهم قط أن يثيروا مسألة فيتنام، وبالكاد كان لنتيجة الانتخابات أية صلة بحقيقة مفادها أن أعظم كارثة على صعيد السياسة الخارجية في التاريخ الأميركي كانت قد وقعت في عهد الرئيس الشاغل للمنصب.

وفي الآونة الأخيرة، جرى تقبل الفشل الذريع الأميركي في أفغانستان بصدر رحب وكان له تأثير ضئيل في الرئيس جو بايدن. وعلى رغم أن مستويات شعبيته منخفضة، إلا أن هناك قليلاً من الأدلة على أن هذه الشعبية الهابطة تعزى كثيراً إلى الهزيمة الكارثية التي ألحقتها حركة “طالبان” بالحكومة التي تدعمها الولايات المتحدة في كابول. وفي الواقع، بالكاد تطرق أحد إلى الحرب الفاشلة في الانتخابات النصفية الأميركية التي جرت بعد عام، وحتى عند ذكر الحرب، لم يكن النقاش يتعلق بالنتيجة نفسها ولكن بمدى سوء إدارة الانسحاب المهين من أفغانستان. 

دب روسيا النازف

بغية فهم طريقة إسقاط هذه الأمثلة على الحرب الروسية في أوكرانيا، لا ينبغي للمرء أن ينظر أبعد من تاريخ روسيا في حد ذاته. فإذا ما عدنا إلى مطلع القرن العشرين سنلاحظ أن القيصر نيكولاس الثاني احتفظ بعرشه بعد اندحاره المريع في حرب روسيا مع اليابان بين عامي 1904 و1905. كذلك لم يتأثر موقع الدكتاتور جوزيف ستالين هو الآخر نتيجة حربه الكارثية مع فنلندا في الفترة 1939-1940. ولكن في حالة بوتين فإن واقعتين أقرب عهداً تبدوان على قدر كبير من الأهمية.

تتصل الواقعة الأولى بالغزو السوفياتي لأفغانستان المجاورة في عام 1979. كانت الحرب قد شنت في ظاهرها للالتزام بـ”مبدأ بريجنيف”، وهو مبدأ أساسي في العقيدة السوفياتية مفاده أن أي دولة بمجرد أن تصبح دولة شيوعية فلا يجوز لها أن ترتد عنها. في تلك الأثناء، كانت الحكومة الشيوعية العاجزة بالكامل في أفغانستان التي استلمت السلطة في العام السابق تتداعى. وفي توقع منه بالقدرة على حل المشكلة في غضون أيام، أقدمت القوات السوفياتية على غزو أفغانستان وسرعان ما أصبحت عالقةً في حرب أهلية طويلة ومكلفة. حينذاك، كان ميخائيل غورباتشوف عضواً صغيراً في هيئة الحزب الشيوعي التي وافقت على الغزو، ولكن لاحقاً، حين صار زعيماً، اعتبر أن هذه الحرب “جرح نازف” ليأمر في عام 1988 بالانسحاب من أفغانستان. وعلى رغم أن الحرب ربما أسهمت في انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أن قرار الانسحاب وتقبل الهزيمة كان مقبولاً على نطاق واسع وبالكاد كان له أي دور في خسارة غورباتشوف لمنصبه بعد ثلاث سنوات.

على أن الحرب الشيشانية في الفترة 1994-1996 قد تكون الأقرب صلةً بمغامرة بوتين في أوكرانيا. فبدافع قلقه إزاء الحركة الانفصالية في الشيشان، وهي حركة يمكن أن تحذو حذوها كيانات أخرى في الاتحاد الروسي، أرسل الرئيس الروسي بوريس يلتسين قواته بموجب ضمانات من جيشه باستعادة خاطفة للسيطرة على المنطقة. غير أن القوات الروسية تكبدت آلاف الإصابات، وفي وجه المقاومة الحازمة التي قوبلت بها، لم يختلف أداؤها آنذاك كثيراً عن أدائها عام 2022 في أوكرانيا. وإذ انقلبت حرب الشيشان إلى كارثة، توصل يلتسين جاهداً إلى اتفاق للانسحاب كان من الممكن أن يتيح للشيشان الانفصال رسمياً في نهاية المطاف. ولقد جرت هذه الأحداث المهينة كلها أثناء حملة يلتسين لإعادة انتخابه في عام 1996، ومع ذلك نجح في إعادة انتخابه.

يمكن لبوتين أن ينجو

بطبيعة الحال، لم يتمكن كل الزعماء من الإفلات من العواقب المترتبة على الأخطاء الجسيمة الباهظة التكاليف. وفي العقود الأخيرة، كان هناك عدد من السياسيين – سواء من المستبدين أو من غيرهم – الذين قادوا بلدانهم إلى كوارث دولية والذين عزلوا إثر ذلك. وإلى جانب الأنظمة الاستبدادية مثل نظامي خان وغالتييري، أُطيح رئيس الوزراء البريطاني توني بلير من منصبه بسبب تواطئه في حرب 2003 في العراق. كذلك كانت هناك أوقات عانت فيها الإدارات الأميركية هي الأخرى من عواقب الإخفاقات العسكرية، وما من شك في أن فشل الجهود العسكرية التي بذلها الرئيس جيمي كارتر لإنقاذ الرهائن الأميركيين في إيران في عام 1980 أسهمت في هزيمته في ذلك العام. وعلى رغم أن أوجه التشابه ليست كثيرة، فقد قرر الرئيسان، هاري ترومان أثناء الأزمة مع كوريا، وليندون جونسون أثناء أزمة فيتنام، عدم الترشح لإعادة الانتخاب إلى حد كبير بسبب السخط الشعبي على حروبهما، ولو أن وقت الانتخابات لم يحن آنذاك، لكان من المحتمل ببساطة أن يبقى كل منهما في منصبه. وربما يمكن القول جدلاً إن نجاح جورج دبليو بوش في إعادة انتخابه في عام 2004 لربما كان أكثر إبهاراً لولا أن حربه في العراق كانت ما تزال مستمرة.

ولكن على وجه العموم، يطرح لنا التاريخ عدداً من الأمثلة عن الساسة، لا سيما في الأنظمة الاستبدادية، الذين نجوا في أعقاب الانكسارات العسكرية. وقد تكون القدرة على البقاء هذه مستمدة في بعض جوانبها من حقيقة أن المستبدين الذين ينخرطون في مغامرات خارجية محفوفة بالمخاطر، مثلما فعل بوتين إنما ينحون إلى فعل ذلك عندما تكون مناصبهم مأمونة بالفعل. ويكون في وسعهم تقويض المساعي التي قد تبذل لعزلهم ودحرها عندما تخفق مغامراتهم، وعادةً ما يكون لديهم جهاز أمني كبير وفعال يشغله أشخاص ترتبط مصائرهم بمصائر أولئك الطغاة. وعادةً ما تكون فرصة البقاء أوفر حظاً في غياب بدائل قابلة للتطبيق تتأهب في ردهات السلطة أو في الخنادق. وعلاوة على ذلك، يبدو من السهل تجاهل المغامرات العسكرية الفاشلة عندما تحدث في الخارج ولا تمس بصورة مباشرة كثيراً من الناس في الداخل.

إذاً، في الوقت الحالي، تدل التجارب على وجود احتمال حقيقي بأن يظل بوتين في منصبه أثناء أي فترة تسوية للحرب في أوكرانيا وأنه قد يستمر إلى ما بعد ذلك. كما تدل أيضاً على أنه سيكون قادراً على كبت أي إغواء بتصعيد الحرب على نحو مأسوي. وهذا ما ينطوي على تبعات بالنسبة إلى الولايات المتحدة وشركائها.

أول هذه التبعات، ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان بوتين في حاجة للحصول على تنازلات لحفظ ماء وجهه لكي ينكفئ إثر انكساره وينسحب من أوكرانيا. والواقع أن بوتين إذا ما كان في حاجة إلى عذر أو حجة للجدال، فبوسعه ببساطة أن يضاعف من المسوغ الأساسي الذي طرحه في بداية الحرب، وهو المسوغ الذي يبدو، على رغم غرابته، مقبولاً إلى حد كبير في روسيا. وبمقارنة الوضع في أوكرانيا بالوضع الذي أدى إلى الغزو الألماني لروسيا في عام 1941، قال بوتين إن هجومه كان يهدف إلى منع “الناتو” من إنشاء وجود عسكري في أوكرانيا ستهاجم منه روسيا في نهاية المطاف. هذا وهم بطبيعة الحال، ولكنه من الممكن أن يتحول إلى انتصار مزعوم قد يتبناه بسهولة الروس الذين أنهكتهم الحرب والذين يخشونها سواء بين عامة الناس أو في أوساط النخبة.

وثانياً، إن ساعد هذا الأمر في التوصل إلى انسحاب روسي، فلربما أمكن حلف شمال الأطلسي في تدعيم خيال بوتين المبرر للكارثة من خلال تقديم عدد من المبادرات المجانية. ويمكن أن تشمل مبادرات كهذه إصدار تعهد رسمي بعدم الغزو، وإعلان تجميد مؤقت لعضوية أوكرانيا في “الناتو” لمدة 25 عاماً – بسبب الفساد المتفشي وعيوب أخرى، من المحتمل أن تستغرق أوكرانيا كل هذا الوقت للوفاء بمعايير العضوية على أي حال – والسعي إلى تسوية واسعة في المنطقة بهدف جعل أوكرانيا آمنة ولكن محايدة رسمياً، جرياً على الآلية التي استخدمت في الخمسينيات من أجل النمسا.

ولكن إذا واصل الغرب بدلاً من ذلك بناء حساباته على توقع مفاده أن قوة بوتين أصبحت على المحك وأن على الغرب أن يبادر إلى توفير أرضية مناسبة للكرملين اليائس الذي يخشى الهزيمة، من أجل تجنب التصعيد الكبير من جانب الزعيم الروسي، فقد يؤدي هذا في النهاية إلى تقويض الهدف الذي يسعى إليه، وهو الدفع بالحرب إلى نهايتها السريعة والناجحة.

جون مولر هو عالم سياسي في جامعة ولاية أوهايو، وزميل بارز في معهد كاتو، ومؤلف كتاب “غباء الحرب: السياسة الخارجية الأميركية وحالة الرضا عن الذات” The Stupidity of War: American Foreign Policy and the Case for Complacency..

عن فورين أفيرز، 29 نوفمبر 2022

——————————–

سوريا-تركيا..بين مشروعي روسيا وأميركا/ العقيد عبد الجبار العكيدي

تحولت العاصمة التركية أنقرة إلى قبلة للمبعوثين الروس والأميركيين خلال الايام الأخيرة، حيث يحاول كل طرف إقناع الأتراك بما لديه من عروض ليس فقط من أجل الاستغناء عن العملية العسكرية البرية التي يهددون بشنها ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بل وربما أبعد كما تشي بذلك التطورات في الملف السوري.

التصريحات التركية الأخيرة التي أدلى بها مصدر رسمي لقناة الجزيرة، والتي تحدثت عن مبادرات من واشنطن وموسكو لثني تركيا عن تهديداتها، كشفت عن ارتفاع حماوة البازار السياسي بين جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري الذي يشهد منذ فترة ليست بالقليلة عروض مكثفة بين تلك الدول، ربما تعود بداياته الى قمة طهران بين قادة مسار أستانة في 19 تموز/يوليو، والتي انتهت برفض العملية العسكرية البرية التي كانت تركيا تلوح بها آنذاك واقتراح خيارات أخرى على مقاس مصالح روسيا وإيران.

ولئن كان صانع القرار التركي يسعى من خلال تنفيذ العمليات العسكرية داخل الأراضي السورية لإقامة حزام أمني من الغرب الى الشرق على طول الحدود، وهذا مطلب متكرر دوماً على لسان الرئيس التركي والكثير من المسؤولين في حكومته، ولئن كان هذا المطلب هو الأهم لأنقرة على أبواب الاستحقاق الانتخابي في حزيران/يونيو 2023، إلا أنه غير مقبول تمريره بالنسبة لأطراف الصراع الأخرى، دون تحصيل مكاسب من الجانب التركي وتحقيق أهدافها التي تحتاج مساعدة أنقرة، سواء في الملف السوري أو في ملفات أخرى متداخلة، مستغلة الحاجة الملحة للقيادة التركية لتوجيه ضربة موجعة لعدوها اللدود حزب العمال الكردستاني وأذرعه، بعد التفجير الإرهابي الذي نفذه التنظيم في إسطنبول منتصف تشرين الثاني/نوفمبر.

التصريحات التركية الأخيرة اعطت مؤشر واضحاً على أن الملف السوري ليس مهملاً في أدراج الدول، ولا ملفاً خاملاً بالنسبة لها، بل قضية نشطة وورقة رابحة يحاول كل طرف مساومة الأطراف الأخرى عليها.

التنافس على كسب “التركي” بين الولايات المتحدة وروسيا لم يبدأ حديثاً كما هو معلوم، بل انطلق على الأقل مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، بينما ظلت أنقرة تراوغ بين الغرب والشرق وإن أظهرت باستمرار أنها إلى الشرق أميل وأقرب.

ولعل أبرز مظاهر هذا الميل هو تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بضرورة انسحاب القوات الأميركية من سوريا، عقب قمة أستانة في تموز، في موقف يتبنى الطرح الروسي-الإيراني على الجانب التركي بالتعاون للتضييق على الولايات المتحدة في سوريا، مقابل مساعدة أنقرة في القضاء على قسد، والتي باستقوائها بالتحالف الدولي باتت، في الوقت نفسه، مصدر إزعاج وتهديد لقوات النظام ومراكزه الأمنية في مربعاته المحاصرة في القامشلي والحسكة.

كانت تركيا في تلك اللحظة تعلن أنها تنحاز للمشروع الروسي في سوريا، وعملياً بدأت تنفذ خطوات تترجم بها موقفها هذا من خلال التوجه للتطبيع مع نظام الأسد، ومطالبة المعارضة المتحالفة معها بالتفاوض مع النظام من أجل الاتفاق على حل يفضي إلى حكومة وحدة وطنية، أي تماماً كما تريد موسكو وطهران اللتان منحتا أنقرة الحق في توسيع وتكثيف هجماتها الجوية ضد حزب العمال في مناطق نفوذهما غرب الفرات وشرقه.

لكن تفجير إسطنبول الأخير، والمطالبة بتنفيذ العملية العسكرية بسبب عدم تنفيذ اتفاق سوتشي 2019، أوضح أن لدى أنقرة خيارات أخرى يقدمها لها الطرف الأخر، وظهرت بشكل واضح من خلال توغل الطيران التركي في المجال الجوي الأميركي في ريف دير الزور حتى عمق 70 كيلومتراً لاستهداف قسد.

الجانب الروسي الحريص أكثر من أي وقت مضى على علاقته مع الجانب التركي حاول امتصاص الغضب التركي واقناعه بالاستمرار معه، طرح حلول بديلة عن العملية البرية، بينها مبادرة تنص على انتشار قوات النظام مكان قسد في تل رفعت ومحيط منبج تحديداً، أو على الأقل نشر مقاتلين من الفيلق الخامس التابع لروسيا.

الجانب الأميركي أخرج ما في جعبته أيضاً، وكان لديه مبادرات هو الآخر بالتزامن مع تصريحاته الرافضة للعملية البرية. ولذلك أوفد جيمس جيفري، الممثل السابق للرئيس الأمريكي بشأن سوريا، والذي يعتبر الشخصية الأكثر قبولاً لدى أنقرة، ليلتقي بوزير الدفاع التركي خلوصي أكار في محاولة ربما لإحياء خارطة الطريق التي رسم معالمها هو نفسه عام 2018 بخصوص مدينة منبج.

هذا أمر لا يمكن تجاهله عند محاولتنا توقع ما يمكن أن يحمله جيمس جيفري في هذه الزيارة، إلى جانب ما تم تداوله عن مقترح مقابل للمقترح الروسي بخصوص نشر قوات الفيلق الخامس في المناطق التي تريد تركيا من قسد مغادرتها، حيث توقع البعض أن يعرض المبعوث الأميركي نشر مقاتلين من قوات جيش سوريا الحر المتواجد في منطقة التنف والمدعوم أميركياً (جيش مغاوير الثورة) محل قوات قسد على الحدود.

وبينما نستطيع بأريحية توقع أن يكون جيفري يربد إحياء اتفاق منبج، فإن الحديث عن نشر قوات جيش سوريا الحر، أو ما يطرحه الروسي بخصوص مقاتلي الفيلق الخامس، تبدو فكرة غير منطقية ولا يمكن تطبيقها لعدة أسباب أهمها:

أولاً: لا مقاتلي الفيلق الخامس، ولا مقاتلي جيش سوريا الحر قادرون عسكرياً على تغطية جبهات تمتد على مساحة ما يقارب 400 كيلومتراً، بين مدينة منبج باتجاه المالكية، وليس لديهم الكوادر البشرية لتغطية هذه المنطقة التي تحتاج الى 6 فرق عسكرية بكامل قوامها وجاهزيتها لتغطيتها. وهنا لابد من التوضيح أن هذه المناطق كانت محكومة أمنياً عندما كانت تحت سيطرة النظام، وكان الاتفاق التركي السوري بأن يكون تأمين حماية الشريط الحدودي أمنياً وعسكرياً على عاتق الجانب التركي، فيما يقع على الجانب السوري فقط إمداد الشريط الحدودي بالكهرباء وانارته دون أي تواجد لجيش للنظام أو حتى عناصر الهجانة.

ثانياً: إن عناصر الفصيلين المطروحين كبديل عن قسد لا يملكون الخبرة الكافية ولا الإمكانيات التي تخولهم القيام بهذه المهمة، وليسوا من أبناء هذه المناطق ويجهلون طبيعتها الجغرافية والاجتماعية.

ثالثاً: إذا اعتبرنا أن تركيا يمكنها الوثوق بالفيلق الخامس التابع لروسيا، إلا أن قسد من غير المتوقع أن تثق به وهي تعلم أن الكثير من عناصره تتبع للفرقة الرابعة والأمن العسكري، وإذا افترضنا أن فصيل جيش سوريا الحر موثوق بالنسبة لقسد، على اعتبارهم يعملون تحت قيادة التحالف الدولي، فإنه من المؤكد عدم موثوقيته بالنسبة للجانب التركي، وهذا ما يجعل تنفيذ تلك المقترحات شبه مستحيل.

من المؤكد أن تركيا على دراية كافية بمراوغة وخداع الطرفين الروسي والأيميركي وعدم إيفائهم بتعهداتهم السابقة، سواء أكانت اتفاقية سوتشي 2019 أو التفاهمات الميدانية بين أنقرة وواشنطن التي هندسها الضيف الأميركي الذي اعتادت واشنطن على ارساله حين تتأزم العلاقة بين الدولتين لاحتواء الموقف، ولذلك فهي تريد إفهام الطرفين أنها ترغب أولاً وقبل كل شيء بتحقيق مصالحها وحفظ أمنها القومي إبعاد التنظيمات التي تعتبرها إرهابية عن حدودها، سواء عبر عملية عسكرية او اتفاق مع أميركا وروسيا يحقق لها ذلك، ومهما كان مشروع الدولتين المتنافستين في سوريا أو خارجها.

لا يمكن توقع أي مشروع ستتبنى تركيا في النهاية، وإن كانت أقرب للروسي منه إلى الأميركي بسبب دعم الولايات المتحدة لعدوها التاريخي التنظيمات الكردية الراديكالية، فإن يقينها أن الحلول النهائية تبقى بيد واشنطن سيكبح من جماح اندفاعها باتجاه موسكو ومشروعها في سوريا، لكن يبقى كل شيء معلقاً بانتظار ما سيتكشف من زيارة جيمس جيفري والوفد الروسي إلى أنقرة.

المدن

——————————–

حين يهتم المعارضون الروس بسوريا/ بسام مقداد

لم يُعرف عن  المعارضة الروسية وإعلامها إهتمامهم بمأساة الشعب السوري، بل هم يلاحقون منذ العام 2015 وجود بوتين ومرتزقته “فاغنر” في سوريا. لكن مأساة الشعب السوري لم تلق كبير صدى في إعلام المعارضة وبرامج أحزابها. وإذا إستثنينا حزب “الحرية الشعبية” PARNAS الذي توقف في أكثر من محطة عند المأساة الإنسانية السورية، والفضل الأساسي في ذلك يعود لنائب رئيس الحزب، الإنساني الكبير، المؤرخ والفيلسوف أندريه زوبوف، لم تشكل المأساة بذاتها مادة في البرامج السياسية لأي من أحزاب المعارضة. فقد إعتمدها “الحزب الديموقراطي الموحد” YABLOKO في البرنامج الإنتخابي لزعيمه ألكسي يافلينسكي الذي ترشح للإنتخابات الرئاسية في العام 2018. ولم تُدرج حينها لإطلاع الشعب الروسي على هذه المأساة والجرائم التي يرتكبها بوتين ومرتزقته وجيشه، بل للمقارنة بين نفقات روسيا في الحرب السورية، وما كان يمكن أن يُبنى بها من مدارس وبنية تحتية في روسيا.

مصدر المعلومات شبه الوحيد عن الحرب السورية في الداخل الروسي هو الإعلام الرسمي، وخاصة شبكات التلفزة الحكومية، وكل ما يعرفه الروسي عن هذه الحرب أن بوتين يحارب الإرهاب هناك في سوريا التي تقع “في مكان ما في البعيد”، ولا يحقق فيها سوى الإنتصارات. ولم تفد المعارضة على الوجه الأفضل من التعتيم الرسمي على ما يدور فعلاً في سوريا. بل قد تكون ركنت إلى ما تقصّده بوتين من عدم إشغال الروسي العادي بالحرب السورية، فلم تعمد إلى الإضاءة غلى سياسة بوتين هذه، بل ركزت إهتمام الروسي على أجوره المنحفصة ومستوى معيشته المتدني. ويتساوى الليبراليون والقوميون اليمينيون في معارضة نظام بوتين في سياسته الإجتماعية الإقتصادية وتشديد قبضته وكم الأفواه في الداخل. لكنهم يفترقون في ما يتعلق بالحرب الأوكرانية والسورية، حيث يؤيد القوميون اليمينيون نهج بوتين التوسعي، بينما يغادر الليبراليون روسيا تحاشياً للملاحقة والإعتقال. 

توجهت “المدن” إلى عدد من الإعلاميين المعارضين لنظام بوتين بعدد من الأسئلة، وعلى الرغم من التأكيد على الرد عليها، إلا أننا تلقينا القليل من الإجابات. وقد تكون المقدمة الشخصية للأسئلة لم تعجبهم وكانت السبب في ذلك. فقد رأيت أن حرب بوتين في سوريا وكذلك في أوكرانيا، يتحمل المسؤولية عنها الشعب الروسي أيضاً، الذي لم يخرج بمظاهرة إحتجاج واحدة ضد الحربين. واستناداً إلى ما هو شائع عن فلاسفة ومؤرخين روس، رأيت في الوعي القومي الروسي عاملاً تكوينياً، خاصة أولوية مصلحة الدولة على مصلحة الفرد الشخصية، هو الذي يقف وراء علاقة الإنسان الروسي بالحربين. 

ولعل أقصر الإجابات وأكثرها أهمية، لما تعكسه من واقع كم الأفواه والقمع المتصاعد في روسيا الآن، إجابة أحد أبرز الصحافيين الروس المعارضين لنظام بوتين (نمتنع عن نشر الإسم بالطبع). جاء في الرد المقتضب “لن أتمكن، بأي شكل، من الرد على أسئلتكم، وذلك لأنني باق في روسيا، ووفقاً للتشريع الروسي القائم، تحظر على المواطنين مثل هذه المناقشات”. وحين سألت ما إن كان من المناسب في هذا الجو الروسي المفعم بالقمع أن أرسل نص المقالة، جاء الرد “أستطيع القراءة، لكنني لا أستطيع الكتابة”.

الصحافية في الخدمة الروسية في “راديو أوروبا الحرة” سفتلانا براكوبييفا، والتي غادرت روسيا هذه السنة، بعد 43 سنة أمضت معظمها في النضال ضد نظام بوتين، ومن أجل حرية الإنسان ورأيه، جاءت إجاباتها مليئة بالتساؤلات التي تهم الروس. في الرد على السؤال: بإستثناء الوجود الروسي، ما الذي يعنيها بالتحديد في سوريا، قالت بأن الشرق الأوسط بأسره، هو أرض غريبة، غامضة، غير مفهومة “بالنسبة لنا، نحن سكان روسيا”. من المفهوم أنه يعنيهم دور روسيا في الصراع السوري وأساس مصلحتها هناك، لكن يعنيهم أيضاً فهم ما يجري هناك، وما هو جوهر الصراع بين الرئيس الأسد والمجتمع السوري. كما يعنيهم معرفة من يمثل المعارضة السورية، “ومن هم هؤلاء الناس”، وكيف حصل أن تحولت الإحتجاجات المدنية إلى مواجهة عسكرية شاملة. ماهو الدور الذي تلعبة الجماعات الراديكالية الإسلامية في مجابهة الأسد، وإلى أي حد هم منخرطون في المعارضة السورية، وكيف ترى المعارضة مستقبل سوريا. 

وعلى سؤالها عن إهتمام الروس بالمأساة السورية الذي يكاد يكون صفرا، قالت براكوبييف بأن سوريا بعيدة، وعدد هائل من الروس لديه مشاكله الخاصة “الجدية بما يكفي” لكي تجد كل الصحافة المحلية نفسها مضطرة للتركيز عليها. أضف إلى ذلك، فإن أي حديث عن المشاكل الخارجية في روسيا، بما في ذلك المشاركة في الصراع السوري، كان يفسره سياسيو المعارضة، وهم على حق، على أنه محاولة من قبل النظام لصرف انتباه الرأي العام عن المشاكل الداخلية، بدءًا من الفساد وحتى محاولات اغتيال خصوم بوتين السياسيين. يمكن الإطالة أكثر في تعداد هذه القضايا، لكن يكفي القول بأن هذه الاتجاهات السلبية هي التي أدت إلى حرب اليوم مع أوكرانيا. والصحافة المستقلة لم تتمكن من الحؤول دونها، رغم أنها كرست كل قوتها للنضال ضد تعزيز الشمولية في روسيا. “أجل، يجب أن نعترف بأننا قللنا من أهمية الحملة السورية بالنسبة لبوتين”.

وهل يشكل وجود بوتين في سوريا أحد مرتكزات نظامه؟ شككت براكوبييفا في ذلك، وقالت بأن بوتين إستطاع، بالطبع، أن يبيع المجتمع الروسي مشاركته في الحرب السورية على أنها إنجازه الخاص، ويردد “نحن نواجه الإرهاب العالمي”. حملة بوتين في سوريا كانت حيلة تكتيكية لصرف انتباه العالم عن ضم القرم. وبشكل عام، يسهل على البروباغندا تقديم النجاحات الخارجية أكثر من الداخلية، فهي تعوض عن الإخفاقات في السياسة المحلية. بروباغندا بوتين لا تفتأ تردد “صحيح أننا رفعنا سن التقاعد، ومداخيل السكان لا ترتفع، لكننا هزمنا داعش في سوريا”.  

سياسة “الأرض المحروقة” التي لجأ إليها بوتين في سوريا ويلجأ إليها الآن في أوكرانيا، هل هي سمة من سمات مفهوم بوتين العسكري أم أنها أحد أسس المفهوم العسكري الروسي بشكل عام؟

رأت الصحافية أن هذا السؤال يجب أن يوجه إلى جنرالات بوتين. سياسة نظام بوتين العسكرية مغلقة تماماً بوجه الإعلام والمجتمع، ولا يمكن الحكم على ما يدور في أذهان الأركان العامة. وأي محاولة لجمع المعلومات عن الجيش في روسيا تعادل الخيانة، وتعتبر جريمة جنائية. 

الصحافية في موقع Meduza المعارض ليليا ياباروفا جاءت ردودها أكثر إقتضاباً على الأسئلة عينها. فرأت أن سوريا، وبفضل القوى الخارجية أيضاً، تحولت إلى ساحة إختبار تتصارع فيها مصالح مختلف الجماعات ويتم تجريب أحدث الأسلحة. وقالت “نحتاج جميعًا” إلى مراقبة ما يحدث في سوريا عن كثب، وما يحدث الآن في أوكرانيا، كان يمكن رؤية عناصره في سوريا قبل سبع سنوات.

وأضافت ياباروفا بأن معظم الروس اطلع على ما يحدث في سوريا من شبكات التلفزة الرسمية الروسية، والتي فضلت عدم الحديث عن الكارثة الإنسانية طويلة المدى، ولا عن مدى تعقيد هذا الصراع في الواقع. وبقيت صيغة بسيطة في رأس المشاهد الروسي: “روسيا ذهبت إلى سوريا لمحاربة الإرهاب ـــــــــ وانتصرت”.وعن السؤال الثالث قالت بأنها تعرف من مواد “الزملاء” بأن الجيش الروسي جاء إلى سوريا لدعم بقاء الأسد في السلطة. وعن الرابع، قالت بأنها لم تدرس تاريخ النظرية العسكرية الروسية. 

المدن

————————————-

حري بنا أن نتحدث عن الأسباب التي دفعت روسيا لحرب أوكرانيا/ ماري ديجيفسكي

أي فهم لما هو مطلوب من أجل تحقيق سلام دائم لن يتحقق في غياب هذه المناقشة

خلال عدة مرات على مدى الأشهر الـ10 الماضية بدا من قبيل الترف غير اللائق تقريباً الالتفات بعيداً من الحقائق المروعة للحرب في أوكرانيا بغرض التفكير في بعض المسائل الأوسع نطاقاً التي أثارها النزاع. إن الأشياء الصائبة وتلك الخاطئة واضحة جداً: شنت روسيا هجوماً عسكرياً على بلد ذي سيادة في محاولة لإجباره على الخضوع لإرادتها. لقد كسرت كل قاعدة من قواعد النظام الدولي؛ هي البلد المعتدي. ما الذي يمكن قوله أكثر من ذلك؟

لدي كثير جداً أقوله. رغم وجود اتفاق عام على ما حدث، وكيف حدث، هناك وجهات نظر مختلفة تماماً، بل وحتى متناقضة، في السبب وراء ما حدث.

الأولى هي وجهة النظر التي تهيمن على ما قد نطلق عليه التيار السياسي والإعلامي الغربي السائد منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) من هذا العام. ووفقها، تُعَد الحرب حرباً عدوانية. وروسيا بحكم طبيعتها قوة إمبريالية، وهدفها هو أن تستعيد، إن لم يكن الاتحاد السوفياتي، فلتكن الإمبراطورية الروسية. ويلقي البعض باللوم على بوتين في المقام الأول، فيقولون إن الغزو كان راجعاً إلى اعتقاده الهوسي بأن أوكرانيا كانت ويجب أن تبقى جزءاً (تابعاً) من روسيا. ويقول آخرون إن الأمر لا يتعلق بالزعيم بقدر ما يتعلق بالبلد.

لكن الاستنتاجات المستخلصة متماثلة. أولاً، لن يكون هناك أي تعامل معقول مع روسيا ما لم يسقط بوتين أو “تغير موسكو سلوكها”. ثانياً، لطالما كانت بلدان شرق أوروبا ووسطها على حق: كانت على حق في اعتبار روسيا تهديداً، وكانت على حق في تصميمها على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لحماية نفسها. ولو كانت أوكرانيا قد حصلت على حماية مماثلة لما وقعت هذه الحرب.

أما الرأي الآخر فهو صورة معكوسة تقريباً، لكنها حظيت بسماع يقل كثيراً مقارنة بالصورة الأولى. وفق هذا الرأي، تعد حرب روسيا على أوكرانيا دفاعية أساساً، وهي شُنت ضد ما تعتبره موسكو تهديداً متنامياً– ومهلكاً– لأمنها. لقد شعرت روسيا بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. ووقفت موقف المتفرج خلال تسعينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في حين انضمت بلدان حلف وارسو السابقة ودول البلطيق إلى التحالف الغربي. لكن الآن كانت الولايات المتحدة (والمملكة المتحدة) تعدان أوكرانيا لتكون أيضاً عضواً في حلف شمال الأطلسي إلى حد أنها أصبحت كذلك عملياً وإن لم يكن قانونياً– بعد.

على مر السنين، كانت روسيا تتوسل إقامة بعض الترتيبات الأمنية الأوروبية الشاملة، لتُواجَه بالتجاهل أو الرفض (جرت أحدث محاولة في ديسمبر 2021). ولم تكن المرحلة التالية سوى نشر أسلحة أميركية ثقيلة في أوكرانيا واستعداد حلف شمال الأطلسي لمهاجمة روسيا أو “نظامها”. وبسبب خوف روسيا على أمنها، رأت أن عليها الانقضاض قبل أن تصبح النوايا حقيقة واقعة.

هذا الرأي الثاني، الذي يرى أن تصرفات غربية تشكل عاملاً رئيساً، بل وحاسماً، دفع روسيا إلى الحرب، وجد أخيراً تعبيراً عنه في كتاب صغير موجز وأنيق – لم يتجاوز في واقع الأمر مجرد كتيب – بعنوان “كيف جلب الغرب الحرب إلى أوكرانيا” (مطبعة سيلاند، 2022). ألَّف الكتاب بنجامين أبيلو، وهو أميركي ذو خلفية طبية وبحثية كان يعمل بواشنطن في مسائل الأسلحة النووية، ويبدو أن الكتاب ضرب على وتر حساس، ولا سيما في تلك الأجزاء من أوروبا حيث كان الحوار العام في أسباب هذه الحرب عند الحد الأدنى، وفق أقل تقدير.

ما يفعله أبيلو، في 70 صفحة موجزة، هو وضع الحرب في سياقها التاريخي الأوسع، ويعدد تصرفات الجانب الغربي التي سبقت غزو روسيا، ويفسر كيف كان من الممكن أن يُنظَر إليها في موسكو. كذلك يسلط الضوء على نواقيس الخطر المبكرة التي دقها رجال دولة في الولايات المتحدة، إلى أن تقدم حلف شمال الأطلسي إلى حدود روسيا قد يؤدي إلى اندلاع حرب– لاحظوا، ليس إلى توتر متصاعد، بل إلى حرب فعلية.

وكان من بينهم هنري كيسنجر؛ والدبلوماسي الراحل ومراقب الشأن الروسي جورج كينان؛ وجاك ماتلوك الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في موسكو أثناء انهيار الاتحاد السوفياتي؛ وكذلك، وفي شكل مثير للاهتمام، سفير آخر للولايات المتحدة سابقاً في موسكو، يشغل الآن منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، هو وليام بيرنز، وهو أحد المسؤولين الأميركيين القليلين جداً الذين قابلوا نظراءهم الروس منذ بداية الحرب. وهذه ليست على الإطلاق مجموعة خفيفة الوزن من الأشخاص. لكن نصيحتهم ووجهت بازدراء– يبدو هذا راجعاً في جزء منه إلى إجماع على إمكانية ردع أي رد فعل روسي.

وينظر أبيلو في ما سماه “الاستفزازات الغربية”، التي تتضمن الشعور بالانتصار بعد الحرب الباردة، والضوء الأخضر المعطى إلى دول الكتلة الشرقية السابقة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي على رغم ما أدركت روسيا أنه وعود بالعكس، وخلع رئيس أوكرانيا المنتخب ديمقراطياً عام 2014– الذي رأت روسيا أنه انقلاب موحى به من الولايات المتحدة– والطرق التي جذب الغرب بها في وقت لاحق أوكرانيا إلى الكتلة الغربية، مع اتفاق الشراكة بينها وبين الاتحاد الأوروبي والمساعدات العسكرية التي قدمها حلف شمال الأطلسي، حتى على رغم إلغائه معاهدات الحد من الأسلحة الموقعة خلال الحرب الباردة واحداً تلو الآخر، أو السماح لها بالسقوط.

في أحد الفصول، يقلب أبيلو الطاولات وينظر فرضياً في الكيفية التي قد تستجيب بها الولايات المتحدة– في ضوء مبدأ مونرو الذي لا يزال مقدساً– لنشاط معادل من قبل موسكو في جوار الولايات المتحدة. وأخيراً، ينظر في الكيفية التي كان يمكن بها تجنب الحرب في أوكرانيا لو اتخذ الغرب قرارات مختلفة في مراحل رئيسة. لقد توصل إلى الهدف الصعب.

يستطيع الفريقان المؤيدان للرأيين أن يزعما بوجود تبريرات في المستجدات. هؤلاء الذين كانوا يعتبرون روسيا دوماً تهديداً يمكنهم أن يقولوا إن الغزو يثبت أنهم على حق، في حين يستطيع أولئك الذين يرون في الغزو دفاعاً في المقام الأول تحميل تقدم حلف شمال الأطلسي شرقاً المسؤولية. وهذا يعني أن الجدال مستمر.

باستثناء أن جدالاً لم يحصل منذ الأيام الأولى للحرب، عندما بدا أن ثمة رغبة حقيقية بين واضعي السياسات في الغرب ووسائل الإعلام في فهم السبب وراء وقوع الحرب. بل سأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. إن الحجة التي ساقها أبيلو، وهي حجتي إلى حد كبير أيضاً، تهمشها فعلياً القوى القائمة على جانبي المحيط الأطلسي. ويُحرَم أنصارها من المنصات، ويُستبعَدون كمضللين، ويُوصَمون كمدافعين عن الكرملين، بل وحتى خونة.

في هذه المرحلة، قد يسأل المرء ما إذا كان من المهم حقاً أن تكون هناك وجهات نظر مخالفة تماماً تتعلق بتصرف روسيا. بالتأكيد، تتلخص الضرورة الحتمية الآن في مساعدة أوكرانيا في البقاء كدولة مستقلة. لكن وجهات النظر المخالفة مهمة، ذلك لأن من دون فهم الأسباب التي دفعت روسيا إلى غزوها، لن يكون هناك أي فهم واضح لما قد نحتاج إليه من أجل سلام دائم.

يصر هؤلاء الذين يعتبرون روسيا دولة إمبريالية عدوانية بطبيعتها على ضرورة إلحاق الهزيمة بروسيا وإجبارها على الاعتراف بخطأ أساليبها. هذا وإلا ستكون أوروبا بالكامل، بدءاً بدول البلطيق وبولندا، في خطر. ويشبهون ما يجري بألمانيا النازية والحرب العالمية الثانية، وهكذا يصبح أولئك الذين ينادون بمحادثات سلام (وأنا من بينهم) مصنفين بأنهم “مهادنون”.

ومن ناحية أخرى، إذا تصور المرء أن الحرب تعكس مخاوف روسيا من ضعفها في التعامل مع الغرب وخسارة آخر عازل لها مع تحرك حلف شمال الأطلسي نحو الشرق– ضعف تبين بوضوح في ساحة المعركة، عن طريق المصادفة– يكون من ثم الاستنتاج الذي يتعين على العالم أن يستخلصه مختلفاً تماماً. سيزعم المرء أن المطالبة بالهزيمة الكاملة أو تغيير النظام في موسكو (كما فعل بعض المسؤولين الأميركيين) لن تسفر عن أي شيء، بل إن هذا من شأنه أن يرعب روسيا فتصبح أكثر خطورة. في الواقع، قد يضيف المرء أن التحذيرات العدائية التي أطلقها الغرب في أواخر العام الماضي باسم الردع كانت ذات أثر عكسي.

قد يقول البعض إن مجرد الإعراب عن حجة كهذه يعني بيع أوكرانيا. لكن العكس هو الصحيح. إن بقاء أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة هو ما نريده جميعاً. لكن لا جدوى من ضمان الغرب بقاء أوكرانيا– وهو ما تلتزم به الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي بالضرورة من الآن فصاعداً– من دون الاعتراف بحاجة روسيا أيضاً إلى الأمن.

ولن يتسنى لجيران روسيا أيضاً أن يكونوا آمنين داخل حدودهم التالية للاتحاد السوفياتي إلا حين تشعر روسيا بالأمان. ويتلخص المطلوب لتحقيق هذه الغاية في وضع ترتيبات أمنية جديدة لأوروبا كلها، ربما استناداً إلى ذلك المبدأ القديم الخاص بالحد من الأسلحة. وإلى أن يحدث ذلك لن يتسنى تحقيق سلام دائم في أوروبا، وسيستمر التهديد بنشوب نزاعات جديدة، بل وحتى نزاعات نووية.

—————————-

التزامات روسيا كدولة انتداب.. حسب عصبة الأمم/ أسامة قاضي

منذ دخول روسيا الأراضي السورية في أيلول/ سبتمبر 2015 اعتبر السوريون أن روسيا دولة انتداب قامت بتجريب 320 نوع سلاح حسب تصريح وزير دفاعها، وقامت برمي المدنيين السوريين بكل أنواع القذائف والصواريخ، وتهجيرهم، واتبعت سياسة الأرض المحروقة كما تفعل الآن في أوكرانيا.

الفرق بين سوريا وأوكرانيا أن لدى الأوكرانيين رئيس يحب وطنه وشعبه، أما في سوريا فإن رئيسها استقوى على شعبه باستدعاء روسيا وإيران وميليشيات طائفية لقتل وتهجير الشعب السوري، إلى أن هجّر 13 مليون سوري ودمّر بنيتها التحتية، حتى تحولت سوريا إلى ثلاث مناطق نفوذ، منطقة نفوذ روسي حيث يوجد النظام السوري ومؤسساته وجيشه وشبيحته، ومنطقة نفوذ أميركي ومنطقة نفوذ تركي.

بعد 12 عاماً من العذابات السورية وانعدام السيادة السورية لازالت مناطق النفوذ الروسية ينتشر فيها الجوع وانعدام الأمن والأمان، وشحّ الوقود والخبز الكهرباء وحيث أنه بات أكثر من 95 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، بل وصل السوريون في تلك المنطقة إلى درجات من الجوع والفقر المدقع لم يعيشوها منذ الحرب العالمية الأولى، بسبب إهمال الروس لمنطقة نفوذهم إدارياً.

كل ذلك بسبب إصرار الإدارة الروسية على دعم النظام السوري وعدم الدفع بحل سياسي حقيقي يعيد اللاجئين والنازحين إلى بيوتهم بشكل آمن، لا بل آثر الروس وحلفاؤهم استمرار الاعتداء وقصف مخيمات ومناطق النازحين السوريين الذين هربوا من حمم الصواريخ والمدافع الروسية.

طالما أن الروس وقّعوا اتفاقية مع النظام السوري أن يبقوا في قاعدة حميميم داخل سوريا لمدة خمسين عاماً، وعقودا أخرى مثل الاستيلاء على مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً تمدد تلقائياً لمدة ربع قرن، وعشرات العقود طويلة الأمد، إذاً فهم لا ينوون الخروج من سوريا فهم بحكم دول الانتداب التي كانت موجودة في أوائل القرن الماضي.

على اعتبار أنه لا توجد بنود خاصة في قوانين الأمم المتحدة تخص قوى الانتداب، لذا فإنه League of Nationsينبغي علينا اللجوء للمادة 22 من قانون عصبة الأمم التي أسست 1920 ومقرها جنيف قبل الأمم المتحدة والتي فشلت في تطبيق معظم قراراتها وخاصة تطبيق المادة 2254 وعشرات القرارات التي تخص سوريا، وهو ليس بعيدا عن تاريخها في فشل تطبيق الكثير من قراراتها بسبب تركيبتها وحق الفيتو وطريقة أدائها الإداري.

حيث تصرّح المادة 22 في عصبة الأمم التي ينبغي على روسيا الالتزام بها بشكل واضح:

“إلى تلك المستعمرات والأراضي التي لم تعد، نتيجة للحرب المتأخرة، خاضعة لسيادة الدول التي حكمتها سابقًا والتي تسكنها شعوب لم تتمكن بعد من الوقوف بمفردها في ظل الظروف الصعبة للعالم الحديث، ينبغي تطبيق المبدأ القائل بأن رفاه هذه الشعوب وتنميتها يشكلان أمانة مقدسة للحضارة وأن ضمانات أداء هذه الثقة ينبغي أن تتجسد في هذا العهد.

إن أفضل طريقة لإعطاء تأثير عملي لهذا المبدأ هو أن الوصاية على هذه الشعوب يجب أن توكل إلى الدول المتقدمة التي بحكم مواردها أو خبرتها أو موقعها الجغرافي يمكنها أن تتحمل هذه المسؤولية على أفضل وجه، والتي هي على استعداد لقبولها، وأن هذه الوصاية يجب أن تمارس من قبلهم بصفتهم منتدبين نيابة عن العصبة.

يجب أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن إدارة الإقليم في ظل ظروف تضمن حرية الوجدان والدين، بشرط الحفاظ على النظام العام والأخلاق، والانتهاكات مثل تجارة الرقيق، وتهريب الأسلحة وتجارة الخمور، ومنع إنشاء التحصينات أو القواعد العسكرية والبحرية والتدريب العسكري للمواطنين لأغراض أخرى غير أغراض الشرطة والدفاع عن الأراضي، وكذلك تأمين تكافؤ الفرص للتجارة والتبادل التجاري للأعضاء الآخرين في العصبة”.

بناء على ما سبق وبما أن العلم الروسي وصور الرئيس الروسي في كل مكان في سوريا، لماذا لا يطالب العالم روسيا بأن تعلن الانتداب الرسمي على سوريا وتقوم -بحسب مبادئ عصبة الأمم- بمهامها الإدارية وتنهض بالمستوى المعيشي السوري، وتخلق فرص عمل لجيوش العاطلين عن العمل، وتضمن حرية الأفكار والدين، وتحافظ على النظام العام والأخلاق، وتحظر الانتهاكات مثل تهريب الأسلحة وتجارة المخدرات والكبتاغون بعد أن أصبحت سوريا عاصمة الكبتاغون للأسف، وتمنع إنشاء التحصينات أو القواعد العسكرية والبحرية والتدريب العسكري للمواطنين لأغراض أخرى غير أغراض الشرطة والدفاع عن الأراضي، وتقوم بتأمين الغذاء والدواء والوقود والكهرباء والماء، وتكافؤ الفرص للتجارة والتبادل التجاري مع العالم؟

الانتداب الروسي كقوة مستعمِرة لا بد أنها ستقوم بفرض تداول الروبل الروسي إلى جانب الليرة السورية، وبذلك تقوم بالتزاماتها الاقتصادية في سوريا ولها خبرات سابقة في الشيشان وغيرها، وتبقى المهمة الأكبر هي إخراج أكثر من 400 قاعدة ونقطة عسكرية لإيران وميليشياتها الطائفية من منطقة النفوذ الروسي، كي لا توجد قوتان مستعمرتان في آن معاً في موقع جغرافي واحد.

————————

ملامح التسوية القادمة.. كيف ستضع حرب أوكرانيا أوزارها؟ 

هدير عبد العظيم

كل الحروب تنتهي بالمفاوضات والتسويات لا محالة، هذا ما تؤكده “إِمَّا أشفورد”، الزميلة البارزة في مركز “ستِمسون” للدراسات، والأستاذة المساعدة غير المتفرغة بجامعة “جورج تاون”، في تحليلها الذي نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية. وقد شرحت الكاتبة 3 سيناريوهات تقدم إشارات للولايات المتحدة وشركائها الغربيين للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا لإتمام التسوية.

نص الترجمة:

بحلول نهاية أغسطس/آب 2022، انخفض تركيز الغرب على الحرب الروسية في أوكرانيا، فقد تعثر الجانبان في طريق مسدود؛ ما حرر القادة في الغرب من اتخاذ خيارات صعبة أو إمعان التفكير في مستقبل الصراع. ولكن مع مطلع سبتمبر/أيلول، نُسِفت هذه الأوهام بالتزامن مع مكاسب أوكرانية كبيرة، تبعتها التعبئة العامة الروسية، وضم روسيا المزيد من الأراضي، وشن هجمات صاروخية على المدنيين، وإطلاق روسيا تهديداتها باستخدام السلاح النووي، فاتجهت الحرب نحو مرحلة جديدة وأشد خطورة.

منذ بداية الحرب، حافظت إدارة بايدن على نهج متوازن استند إلى سياسة واقعية عن طريق تسليح أوكرانيا وتمويلها، مع الاستمرار في التأكيد على أن الولايات المتحدة لن تنخرط مباشرة في الصراع، لكن الإدارة تجنبت تماما الحديث عن أحد الجوانب الحاسمة في الإستراتيجية الحربية، وهي كيف ستضع الحرب أوزارها. أما الخبراء وصناع القرار الذين قالوا بأن الولايات المتحدة عليها دعم الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية عبر المفاوضات، فإنهم عوملوا على أنهم سُذَّج، بل وقاب قوسين من الخيانة.

بيد أن الحروب كلها تقريبا تنتهي بالمفاوضات. لقد لوَّحت موسكو في تصعيدها هذا الخريف بشبحَي نشوب حرب أوسع ضد الناتو واستخدام السلاح النووي، كما بلغت التكاليف الاقتصادية للصراع عالميا بالفعل رقما مهولا، وستزداد بالتأكيد مع حلول الشتاء. وحتى إذا بدت النهاية التفاوضية للحرب مستحيلة حاليا، فيجب على إدارة بايدن البدء في طرح الأسئلة الصعبة، والتفكير مليا في أنسب توقيت للدفع باتجاه المفاوضات، وفي أي المراحل ستكون تكاليف استمرار القتال أكبر من المكاسب المحتملة منه. وإذا لم تستعد الإدارة قريبا، فإن خيالات خطيرة لدى البعض بتحقيق أوكرانيا نصرا ساحقا قد تسيطر على استجابة واشنطن المدروسة بدقة للحرب.

التصعيد قد يُعقِّد التفاوض

على مدار 8 أشهر منذ بداية الغزو الروسي، استطاعت أوكرانيا بدعم من إدارة بايدن استعادة أراضٍ عديدة، وإلحاق دمار شديد بالقوات الروسية، مع الحفاظ على الانخفاض النسبي لخطر التصعيد الشامل. كما حرصت الإدارة على تجنب الحديث عن الخطوات التالية، زاعمة أن الأوكرانيين أحرار في اتخاذ القرار فيما هو الأفضل لمصلحتهم. لكن الإبقاء على هذا الموقف أصعب حاليا في ظل استئساد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب وتوجيهه تهديدات نووية واضحة ضد الغرب، إذ اختار بوتين تحمُّل مخاطر كبيرة جديدة بدلا من التراجع؛ ما يرجح أن هذه الحرب لن تنتهي باستسلام روسي سريع.

في الوقت ذاته، تتزايد التداعيات الاقتصادية للحرب بسرعة، فقد تدمر الوضع المالي العام في أوكرانيا، حيث أوشك النقد في البلاد على النفاد. وبحسب ما ذكره المؤرخ الاقتصادي “آدام توز” في سبتمبر/أيلول الماضي: “لو لم يرفع حلفاء أوكرانيا مساعداتهم المالية، فستكون هناك مخاوف من اندلاع أزمة اجتماعية وسياسية على الجبهة الداخلية”. وفي غضون ذلك، يضيق الخناق على أوروبا في ظل ارتفاع أسعار الطاقة الذي بدوره يُحفِّز التضخم ويزيد من احتمالية حدوث ركود شديد. كل ما سبق يجعل موقف الإدارة الأميركية القائل بأن كييف وحدها هي من يقرر موعد انتهاء الحرب موقفا غير مقبول.

واقعيا، ليس السؤال ما إذا كانت المفاوضات ضرورية لإنهاء الحرب، بل متى وكيف ستتم. ومع ذلك، يجب على صناع السياسة مواجهة ذلك الموقف المتناقض: كلما كان أداء القوات الأوكرانية على أرض المعركة أفضل، زادت صعوبة طرح التسوية التفاوضية، حتى وإن كان من مصلحة أوكرانيا التفاوض من موقع قوة. ومع تنامي خطر التصعيد الروسي، ترتفع احتمالية تصوير أي قائد غربي يتحدث عن إنهاء الحرب بأنه غير واقعي أو غير أخلاقي، أو أنه رضخ لـ”الابتزاز النووي”.

لوضع حجر أساس التسوية، يجب على الساسة الأميركيين اتخاذ خطوات لضمان عدم تباين المصالح الأوكرانية والأميركية والأوروبية. إن المصالح الأوكرانية ليست بالضرورة متطابقة مع مصالح شركائها الغربيين، إذ إن المخاطر أعلى بالنسبة إلى كييف، وفي ظل وقوع الاقتصاد الأوكراني في حالة يرثى لها بالفعل قد تدرك كييف أنه لا يمكنها تحمل الخسارة في حال التصعيد أو استمرار الحرب. ولكن الجهود التي بذلتها أوكرانيا لم تكن ممكنة لولا أسلحة الغرب وتمويله واستخباراته، كما أن الدول الأوروبية تتحمل تكاليف اقتصادية هائلة بسبب الحرب، ومن ثمّ فإن أي خطر بالتصعيد أو تبادل الضربات النووية يشكل تهديدا مباشرا للغرب نفسه. إذن، لدى داعمي أوكرانيا الغربيين مصلحة قوية في هذه الحرب، ولذا يجب أن يكون لهم رأي في طريقة إنهائها.

لا يعني ذلك أنه يجب على الغرب دفع أوكرانيا للتنازل كما طرح البعض، بل يعني أنه يجب على الولايات المتحدة وشركائها تقديم المساعدات المستقبلية بِنِيَّة وضع أوكرانيا في أفضل وضع للتفاوض، وليس بِنِيَّة استمرار الحرب. مثلا، يجب على أوكرانيا وحلفائها التركيز على المصالح الجوهرية، مثل الحفاظ على سيادة أوكرانيا وحماية سكانها، كما يجب حصر هذه الأهداف بصياغة واضحة، فلا يجب على أوكرانيا محاولة استعادة مناطقها كاملة كما كانت قبل 2014 أو معاقبة القادة الروس، بل عليها السعي وراء أهداف من غير المحتمل أن ينتج عنها تصعيد كبير، بل أن ينتج عنها سلام مستدام. ويتوجَّب على واشنطن تشجيع السعي وراء هذه الأهداف، وأن توضح لكييف -على الأقل سرّا- الحدود التي ينتهي عندها الدعم الأميركي، ومخاطر التصعيد التي يعتبرها البيت الأبيض غير مقبولة. إن وضع توقعات واضحة الآن من شأنه تقليل خطر التصورات الخاطئة لدى كييف فيما بعد.

السياسة.. داخل كييف وداخل موسكو

يجب على الساسة الأميركيين أخذ السياسة الداخلية في كل من أوكرانيا وروسيا في الاعتبار، نظرا إلى أن الدعم المحلي في كلا البلدين مهم لاستمرار أي تسوية. يحتاج الساسة إلى التركيز على بوتين وجماعة النخب الصغيرة المحيطة به، والنظر في التسويات التي قد يقبلوا بها. وبالنظر إلى حشد بوتين لبضع مئات الآلاف من الجنود الإضافيين على الجبهة، يبدو جليا أنه يسعى لتجنب خسارة مدمرة شاملة مهما كلفه الأمر. وعلى غرار الكثير من المستبدين الآخرين قبله، فإنه قد يُروِّج النتيجة السيئة للحرب على أنها مكسب؛ ما يعني أنه لعله يتوصل إلى اتفاق ما يحفظ ماء الوجه يتضمَّن الاعتراف بالحقائق الواقعية، مثل السيطرة الروسية القانونية على القرم، ثم يصوره للشعب الروسي على أنه تنازل حقيقي من الغرب.

في كييف، يواجه الرئيس الأوكراني فولوديمير زِلنسكي بيئة سياسية أكثر انفتاحا وإثارة للخلاف، بعد أن بدأت انقسامات السياسة الأوكرانية في الظهور من جديد، ومع ذلك فهو يواجه معضلة مشابهة، فقد أصبح الشعب الأوكراني أكثر اتحادا منذ فبراير/شباط، ملتفا حول الكفاح الوطني في مواجهة الغزو. وبعد مطالبة الحكومة الأوكرانية شعبها بتقديم الكثير في سبيل الحرب، فقد تجد صعوبة في تقديم أي تنازلات يمكن أن تبدو في نظر البعض مكافأة للعدو، وإذا قبل زِلنسكي تسوية غير مُرحَّب بها شعبيا، فقد يؤدي ذلك إلى هزيمته في صناديق الاقتراع. في هذه الظروف، من المرجح أن ينجح اتفاق يشعر فيه الأوكرانيون بنصر كبير.

كل ذلك يزيد من أهمية إدارة التوقعات الحالية عند الطرفين، فيجب على واشنطن تشجيع كييف لاتخاذ موقف أكثر اعتدالا بخصوص قضايا معينة، مثل القرم، التي من المتوقع طرحها في أي تسوية مستقبلية، بالإضافة إلى خفض نبرة الخطاب الحماسي، والتركيز على المكاسب الاقتصادية التي ستحصل عليها أوكرانيا عبر المساعدات الدولية لإعادة الإعمار، والتكامل الاقتصادي مع أوروبا بعد التسوية.

كذلك يجب على صانعي القرار وضع معايير أساسية واضحة للتسوية، مع التحلي بمرونة كبيرة في كثير من التفاصيل. هناك بعض النقاط لن تكون قابلة للتفاوض، على رأسها سيادة أوكرانيا وحماية الأوكرانيين، لا سيما أولئك الذين يريدون مغادرة المناطق التي تحتلها روسيا، بيد أن هناك بعض المسائل الأخرى التي يمكن التحلي بالمرونة معها، فمثلا قد يُحسَم الترسيم النهائي للحدود الإقليمية جزئيا من خلال المكاسب العسكرية على الأرض، فلا يجب على صناع القرار الأوكرانيين والغربيين أن يتبنّوا موقفا عنيدا للعودة إلى أوضاع ما قبل 24 فبراير/شباط. في النهاية، قد تكون أوكرانيا أكثر استقرارا وأسهل في الدفاع عنها في حال صارت أكثر تماسُكا جغرافيّا، وبدون شبه جزيرة القرم وبعض مناطق إقليم دونباس، وهما المنطقتان اللتان تضمان بعض السكان المؤيدين لروسيا.

بوجه عام، على صناع القرار إعطاء الأولوية للنتائج العملية لا المبادئ المجردة. مثلا، ستكون دولة أوكرانية مستقلة ذات سيادة ويمكنها الدفاع عن نفسها والتكامل اقتصاديا مع أوروبا، أفضل من تلك التي تعاني من نزاعات حدودية دائمة. فلا يزال الوضع في أوكرانيا نشطا، ولذا على صناع القرار الأميركيين تجنُّب تقييد أنفسهم الآن بوعود سيكون من الصعب تحقيقها عمليا.

في غضون ذلك، من المرجح أن يكون تخفيف العقوبات واحدا من أهم البنود في أي تفاوض، وهو البند الأكثر إثارة للتوترات السياسية بالنسبة إلى صناع القرار في الغرب، إذ يبدو أن العقوبات باتت سمة دائمة في السياسة الدولية، ومع ذلك فإن أثرها الاقتصادي والسياسي يضعف بمرور الوقت، ولذا غالبا ما تُعَد العقوبات مفيدة باعتبارها ورقة مساومة أكثر من كونها عقوبة طويلة الأمد، ولذا على صناع السياسة حاليا إمعان التفكير في كيفية استخدام تخفيف العقوبات للحصول على تنازلات روسية، فمنذ اندلاع الحرب حققت العقوبات هدفين، أولهما على المدى القصير بعقاب روسيا على غزوها أوكرانيا، وثانيهما على المدى الطويل بإضعاف الآلة العسكرية الروسية.

على الأرجح سيكون تخفيف بعض العقوبات عن روسيا شرطا أساسيّا لإبرام اتفاق سلام ناجح، لكن على صناع السياسات إمعان التفكير في اختيار تلك العقوبات التي تستحق رفعها. على سبيل المثال، قد يكون السماح لروسيا باستعادة بعض ما تملك من احتياطي النقد الأجنبي مفيدا بوصفه جزءا من أي اتفاق، بسبب ما يمثله ذلك من جاذبية للكرملين باعتباره عامل استقرار اقتصاديا على المدى القصير، ولأن الإبقاء على تجميد هذا الاحتياطي لا يُضعِف الاقتصاد الروسي إضعافا كبيرا على المدى الطويل. وفي المقابل، من المتوقع أن تحد قيود الصادرات المفروضة على روسيا من قاعدة البلاد الصناعية في مجال الدفاع على المدى الطويل.

ملامح التسوية القادمة

هناك 3 حالات قد يكون من المنطقي خلالها بالنسبة إلى الولايات المتحدة الدفع نحو التسوية: أولا، في حال استمرت القوات الأوكرانية في تحقيق نجاح كبير، وبدأت القيادة في كييف تتحدّث عن تحرير القرم. وبالنظر إلى أهمية القرم بالنسبة إلى القادة الروس، فإن إعلان مثل هذا الهدف سيرفع خطر لجوء بوتين إلى استخدام الأسلحة النووية، وتجاهله القواعد التي تحظر استخدام السلاح النووي؛ ما يشكل خطرا مباشرا على الولايات المتحدة وحلفائها من دول الناتو.

ثانيا، في حال استعادت القوات الروسية زمام المبادرة وفرضت سيطرتها مجددا على مناطق واسعة، لا سيما إذا ما بدأت في التقدم إلى ما بعد دونباس. وسيرجح ذلك أن التعبئة الروسية آتت أكلها، ومن ثمّ قد يكون من الضروري حينها إتمام تسوية للحفاظ على سيادة أوكرانيا. أما الحالة الثالثة فهي إذا ما تعثَّر الجانبان في طريق مسدود آخر، بحيث لا يستطيع أي منهما استعادة تقدمه على الآخر. وفي مثل هذا الموقف، لربما تستنتج الولايات المتحدة وأوروبا وحتى أوكرانيا وروسيا أنفسهما أن الأمر لم يعد يستحق تحمل التكاليف الهائلة لاستمرار الحرب.

للوهلة الأولى، قد يكون مستغربا أن صناع القرار الأميركيين سيكون عليهم النظر في إتمام تسوية في حال فوز أوكرانيا أو خسارتها، أو حتى في حالة عدم تحقيقها أيّا من الأمرين. ومن المؤكد أن أيّا من الحالات التي فُصِّلت آنفا غالبا ما ستنتج عنها تسويات مختلفة، بيد أن ما يجمع بين ثلاثتها هو أن نتائج المعركة على الأرض هي التي ستكشف شكل التسوية التي قد تتم. اليوم، لا تزال المعركة نشطة، ولا يزال كل جانب يعتقد أن النصر سيكون حليفه، ولن تكون التسوية ممكنة إلا حينما تتضح النتيجة على أرض المعركة أكثر وأكثر، وحتى ذلك الحين قد يساعد الدعم الغربي القوي في ترجيح السيناريو الأول بين هذه الثلاثة.

ترجح الضربات الجوية مؤخرا على كييف وكبرى المدن الأوكرانية الأخرى أن روسيا ربما تفكر في تصعيد أكبر. وعلى صناع السياسة الغربيين التفكير في تعظيم الاستفادة من العقوبات والمكاسب الميدانية لحجز أفضل مقعد ممكن لأوكرانيا على طاولة المفاوضات، ولعل الأهم من ذلك أنه يجب على صناع السياسات في واشنطن التواصل مع كييف والعواصم الأوروبية بشأن نتائج هذه النقاشات من أجل تجنب التباينات الخطيرة المحتملة في المصلحة الوطنية بين أوكرانيا وشركائها الغربيين.

كل الحروب لها نهاية، وإذا ما طرح صناع السياسة الأسئلة الجوهرية الآن بخصوص الحرب الروسية على أوكرانيا وأجابوا عنها، فإنهم بذلك يوفرون وقاية ضد التصعيد غير المرغوب فيه، ويضمنون إتمام تسوية أكثر صلابة واستقرارا حينما تصبح الظروف مواتية لذلك في نهاية المطاف.

فورين أفيرز

الجزيرة. نت

—————————

هل يسمح الغرب لبوتين بالإفلات من أوكرانيا؟/ عمران سلمان

لا تملك الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي ترف السماح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالإفلات بغنيمته من الأراضي الأوكرانية. فإن حدث ذلك لن تكون هناك دولة آمنة في أوروبا أو غيرها، لأنه سوف يعني ببساطة أنه لم يعد هناك قانون دولي وأن على الدول أن تجد طريقها بنفسها للنجاة من الدول الأكبر والأقوى، فيما سيجد أسلوب البلطجة الدولية بيئة خصبة للانتعاش والتسيّد وسوف يحل محل الأعراف والقواعد الدولية المستقرة التي تنظم العلاقات بين الدول.

لهذا لا يوجد خيار أمام واشنطن والعواصم الغربية سوى ردع البلطجي الروسي وعدم مكافأته على عدوانه، وهو ما يعني مواصلة تقديم الدعم المادي والعسكري لأوكرانيا حتى النهاية من أجل مساعدتها على تحرير أراضيها من الجيش الروسي.

هل يتسبب ذلك في إطالة أمد الحرب والأزمة نفسها؟ ربما، لكن الإطالة رغم مصاعبها وآلامها على الأوكرانيين وكذلك على المواطنين الروس، هي الخيار المتاح الذي فرضه الرئيس الروسي على الجميع.

الواقع أن خيارات بوتين نفسه تضيق مع الوقت، ويظهر لجوؤه إلى ضرب البنية التحتية لأوكرانيا بالصواريخ بما في ذلك منشآت الطاقة والمناطق الآهلة بالسكان حالة اليأس والضعف التي يعيشها. فهذا السلوك يأتي بعد الفشل في ساحات القتال، حيث يخسر الجيش الروسي ويفر أمام تقدم القوات الأوكرانية على معظم الجبهات.

ومنذ شهر أكتوبر تقريبا استرجعت قوات كييف آلاف الكيلومترات، وطردت القوات الروسية من مناطق شاسعة، بما في ذلك مدينة خيرسون في الجنوب.

وباستثناء الأيام الأولى من الحرب لم تتمكن موسكو من السيطرة على أراض جديدة، وفيما عدا شبه جزيرة القرم لا تتمتع القوات الروسية بسيطرة عسكرية ثابتة وقوية على الأرض، ويظهر حجم الضغط والهجمات

التي تشنها القوات الأوكرانية، أن الحالة المعنوية للجنود الروس في أضعف مستوياتها وخاصة في المناطق التي يحتدم فيها القتال.

ويأتي القصف الروسي بالصواريخ وكذلك المدفعية البعيدة المدى للمدن الأوكرانية للتعويض عن العجز عن التقدم ميدانيا، وكذلك لرفع معنويات الجنود الروس وأيضا لإرهاب المواطنين الأوكرانيين.

لكن هذه الأساليب الوحشية التي ربما نجحت في نزاعات أخرى خاضتها روسيا، تبدو قليلة التأثير أو غير حاسمة في هذه الحرب. فقد زودت الولايات المتحدة وكذلك بعض الدول الأوروبية أوكرانيا بدفاعات جوية قادرة على التصدي للصواريخ الروسية، ولذلك فإن معظم هذه الصواريخ يتم إسقاطها قبل الوصول إلى أهدافها. والبعض منها الذي يتمكن من الإفلات هو الذي يتسبب بانقطاع التيار الكهربائي عن السكان المدنيين، فضلا عن تدمير بعض المنشآت الحيوية.

بعبارة أخرى فإن الورقة الأخيرة التي يستخدمها الرئيس بوتين لإرهاب الأوكرانيين والضغط على الدول الغربية، أي سلاح مهاجمة المناطق والمنشآت المدنية، لا يبدو أنه يحقق غرضه أيضا.

ورغم أن الشتاء قد يؤدي إلى تراجع حدة القتال وربما إلى جمود الوضع العسكري نسبيا، وهو ما يسمح لموسكو بشراء بعض الوقت، إلا أن الميدان عموما لا يجلب أية أخبار جيدة لموسكو.

وعاجلا أو آجلا سوف يدرك الرئيس الروسي أنه لا يوجد طريق أمامه للخروج من مستنقع الحرب مع احتفاظه بالأراضي الأوكرانية.

وحال بوتين هنا مع أوكرانيا يشبه حال الثعلب مع البستان في القصة العربية المشهورة، التي درسناها ونحن أطفال. ومضمون القصة أن ثعلبا جائعا أراد أن يدخل إلى بستان ليأكل من ثماره، ولكن بسبب وجود سور عال لم يتمكن من القفز فأخذ يدور حوله حتى وجد فتحة صغيرة دخل منها بصعوبة إلى البستان، وبعد أن شبع الثعلب من الثمار حاول الخروج من نفس الفتحة فلم يتمكن بسبب امتلاء بطنه من الطعام، فاضطر إلى تجويع نفسه حتى استطاع المغادرة بشق الأنفس. وكان حاله في ذلك يقول: دخلت جائعا وخرجت جائعا.

وهذا ما يبدو أن السياسة الأميركية والغربية عموما تسعى إلى تحقيقه مع الغزو الروسي لأوكرانيا وهو حرمان موسكو من المكاسب العسكرية، وإجبارها على الانسحاب، وضمان أن أية مفاوضات مستقبلية لا بد أن تسمح للسلطات الأوكرانية باستعادة السيادة على المناطق التي احتلتها روسيا في هذه الحرب.

هل تتمكن الدول الغربية من تحقيق ذلك؟

موضوعيا لا يوجد ما يمنع من تحقيقه وإن كان من الصعب التكهن بالمدى الزمني الذي سوف يستغرقه. بيد أن الأمر الواضح هو أن هذه الدول لا تملك الكثير من الخيارات التي تجعلها تقبل بما دون ذلك.

قناة الحرة

———————————

======================

تحديث 14 كانون الأول 2022

————————–

بوتين إلى الواجهة مجدداً

كتب: المحلل العسكري

ماذا يعني أن يظهر الرئيس بوتين ثلاث مرات في أسبوع واحد؟ ماذا يعني أن يقول، وفي رد على سؤال صحافي: «لا يمكن لك أن تثق بأحد، يمكنك الوثوق بي أنا فقط»؟ لمن يوجه الرئيس بوتين هذه الرسالة؟ فهل هناك ما يزعجه في الداخل؟ وهل هناك تململ في محيطه المباشر؟ يؤكد العارفون بالشأن الروسي، أنه وحتى الآن، لا يزال الرئيس بوتين هو الأقوى والأول بين متساوين في حكم وإدارة روسيا، كما قيادة العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا. لماذا يزور الرئيس بوتين جسر كيرش مؤخراً؟ ولماذا يُكرر مجدداً ما أراده القيصر الراحل والأيقونة بالنسبة للروس بطرس الأكبر؟ ولماذا يُبرر الرئيس بوتين ما يقوم به بالاستناد إلى التاريخ بدل القانون الدولي؟ كأن يقول مرة إن المكاسب التي حققها القيصر بطرس الأكبر في البلطيق، كانت في البدء مرفوضة من العالم الأوروبي، لكنه فرضها كأمر واقع. لماذا يُعلن الرئيس بوتين أنه حقق حلم بطرس الأكبر عندما ضم بحر آزوف ليصبح بحراً روسياً داخلياً؟ لماذا يُكرر دائماً الرئيس بوتين أنه لا بد من الحوار لوقف الحرب، وهو يعرف مسبقاً الجواب الأوكراني، كما الغربي، خصوصاً الأميركي؟ لماذا لا يذكر الرئيس بوتين حتى ولو مرة واحدة أوكرانيا كدولة ذات سيادة؟

– المعضلة العملانية للرئيس بوتين

بعد أقل من عشرة أشهر تقريباً على اندلاعها، تحولت الحرب إلى ما يُسمى بالروتنة (من روتين). وصل المتحاربون إلى نقطة الذروة. فالعسكر قد استنزف، والعتاد قد استهلك، حتى مخازن الذخيرة لم تعد كما كانت، إن كان لدى المتقاتلين أو حتى عند الداعمين لهما. فهل يعني هذا الوضع أنه لا بد من توقف عملاني؟ في الحروب يكون التوقف العملاني ضرورة حتمية. لكن التوقف العملاني حالياً في الحرب الأوكرانية سيخلق المعضلة التالية لكل من الفريقين:

* حتى الآن، الاندفاعة العملانية كما زمام المبادرة هما بيد الجيش الأوكراني. والتوقف العملاني يعني إعطاء مزيد من الوقت للجيش الروسي كي يستعيد زمام المبادرة.

* من الجهة الروسية، الوقفة العملانية حالياً تعني أن بديل الانسحاب من مدينة خيرسون لم يتجسد بعد كتعويض. من هنا التركيز الروسي على مدينة بخموت في إقليم الدونباس. ومن يدري ما سيكون عليه الجيش الأوكراني في حال وقف العمليات العسكرية؟

– الجديد مع بوتين

تحدث الرئيس بوتين مؤخراً عن تغيير العقيدة النووية الروسية، وذلك باعتماد الضربات الاستباقية النووية بدل التمسك بالرد فقط بعد الاعتداء النووي على روسيا. برر الرئيس بوتين قوله بأن الغرب أيضاً، خصوصاً أميركا، تعتمد هذه المقاربة. لكن السؤال يبقى: ضربة نووية استباقية ضد من؟ هل ستكون ضد أوكرانيا؟ وما هي قيمة الهدف التي قد تبرر هذا المستوى من التصعيد؟ هل هي ضد دولة من حلف الناتو؟ فهل يُغامر الرئيس بوتين؟ وهل هي من ضمن الحرب الإعلامية لزيادة قيمة الردع الروسي ضد الناتو؟

– الجديد مع أوكرانيا

قصف الجيش الأوكراني أهدافاً عسكرية روسية ذات قيمة استراتيجية كبيرة، وذلك داخل الأراضي الروسية بمسافات كبيرة جداً.

فما معنى هذا الأمر؟

* إن قصف البنى التحتية الأوكرانية، يُبرر الرد بالمثل، وضد المركز الذي يتم القصف منه.

* قصف المطارات التي تحتضن القاذفات الاستراتيجية، التي تمتلك قدرات حمل الرؤوس النووية لهو أمر خطير جداً. فهذه القاذفات تشكل البُعد الثالث لوسائل القصف النووي الروسي، وذلك إلى جانب الغواصات في البحر، كما الصواريخ العابرة للقارات والتي تطلق من البر (2nd Strike Capabilities). فكيف يهدد الرئيس بوتين بالنووي وهو ليس قادراً على حماية وسائله النووية؟

* لكن الغريب بالأمر، وحسب معهد الدراسات للحرب، أن مصدراً في وزارة الدفاع الأميركية، كان قد صرح، بأن البنتاغون لم يعد يشدد على أوكرانيا لعدم قصف أهداف داخل الأراضي الروسية. فهل هناك شروط من البنتاغون لغض النظر؟ ممكن، وإلا ماذا يعني تسريب وزارة الدفاع الأميركية خبراً إلى مجلة «وول ستريت جورنال» أن البنتاغون كان قد عدل منظومة الراجمات «هايمارس» قبل تسليمها إلى أوكرانيا، وبشكل لا تكون هذه الراجمات قادرة على ضرب العمق الروسي؟ فهل يعني هذا التسريب أن أميركا لا تمانع في ضرب العمق الروسي، خصوصاً إذا كانت الوسيلة من صنع أوكراني محلي؟

الشرق الأوسط

——————————–

الحرب المنسية.. ماذا تستطيع روسيا أن تكسب من الأزمة المشتعلة مجدداً في سوريا/ ستيفان وولف 

لا تزال سوريا، التي ألقت الحرب الأوكرانية بظلالها عليها، بلداً شديد الانقسام والعنف، فقد اشتعلت نيران الأعمال العسكرية مرة أخرى.

وتعكس هذه الفترة الجديدة من الصراع في سوريا في ظل هجمات كل من روسيا وتركيا وإسرائيل، بعض خطوط القتال للحرب الأوكرانية وتهدد بأن يكون لها تداعيات على ساحتي القتال في البلدين.

وبعد أكثر من عقد من الحرب، تجد هناك أعداداً كبيرة من القوات الروسية والأميركية والتركية على الأرض في سوريا، فروسيا تدعم نظام الرئيس بشار الأسد، وتدعم كل من الولايات المتحدة وتركيا حلفائهما المحليين.

ظهر في سوريا خلال عقد من الزمن مجموعة من المخاطر الأمنية المحلية والإقليمية والعالمية سريعة الاشتعال، وتفاقمت هذه المخاطر بسبب الحرب في أوكرانيا. وكانت القوى العالمية والإقليمية عاملاً مهماً لكن قامت روسيا باستغلال الحرب لتظهر للعالم قوتها العسكرية.

والآن، تظهر احتمالية أن تكون روسيا المستفيد الأكبر من مقامرة تركيا العسكرية الأخيرة بشن ضربات جوية على حلفاء الولايات المتحدة المحليين في سوريا. ويمكن أن يساعد ذلك في تعزيز علاقة فلاديمير بوتين مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في وقت تحتاج فيه روسيا وبشدة إلى حلفاء مؤثرين.

عندما انفجرت قنبلة في منطقة مزدحمة في إسطنبول في 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وأسفر عن مقتل ستة أشخاص وإصابة العشرات، اتهمت تركيا قوات سوريا الديمقراطية التي تربطها أنقرة بحزب العمال الكردستاني.

وقوات سوريا الديمقراطية، التي تنفي أي صلة لها بهجوم إسطنبول، هي أيضاً الحليف الرئيسي لواشنطن في عملية العزم الصلب التي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

تعتبر الضربات الجوية التركية ضد أهداف قوات سوريا الديمقراطية في سوريا والتهديدات المستمرة بغزو بري أنباءً سيئة بالنسبة للحرب ضد “داعش” وسيئة أيضاً فيما يتعلق بالعلاقات بين واشنطن وأنقرة، حليفا الناتو. ونجحت التحذيرات، بما فيها تلك التي خرجت من وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، حتى الآن في صد حملة برية تركية في سوريا.

وأدت الضربات والتهديدات التركية إلى تعليق الدوريات المشتركة بين الولايات المتحدة والكرد ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، في الوقت الذي يشير فيه أحدث تقييم أمريكي لتنظيم الدولة الإسلامية إلى زيادة كبيرة في نشاطه في سوريا.

تداعيات على حلفاء أوكرانيا 

لا يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية المستفيد الوحيد من الضربات الجوية التركية ضد حلفاء الولايات المتحدة في سوريا، وأي انقسام بين حلفاء الناتو له تداعيات أوسع على الحرب في أوكرانيا. وبقيت كل من تركيا وهنغاريا عضوي الناتو الوحيدين اللذين لم يوافقا بعد على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف.

وترتبط معارضة التركية لانضمام الدولتين بدعم فنلندا والسويد المزعوم للمسلحين الكرد. وإن إمكانية استخدام حق النقض ضد انضمامها يمنح أنقرة مساحة أكبر لمتابعة أجندتها الخاصة في سوريا وتحد من مقدار الضغط الذي يمكن أن تمارسه واشنطن.

لعبت تركيا، جنباً إلى جنب مع الأمم المتحدة، دوراً فعالاً في تقديم المساعدة بشأن الوساطة في إتمام صفقة حيوية والحفاظ عليها وتوسيع نطاقها من أجل تسهيل صادرات الحبوب الأوكرانية. ولا يزال الرئيس أردوغان أيضاً أحد القادة القلائل في الناتو الذين يحتفظون بقنوات اتصال مفتوحة مع بوتين، وهذا أمر سيكون حاسماً إذا بدأت روسيا وأوكرانيا في التفاوض على إنهاء الحرب.

ربما تكون تركيا، عضو الناتو، هي الأقرب لروسيا، وسيكون خلاف أنقرة مع حلفائها في الناتو موضع ترحيب كبير في موسكو. وفي الوقت الذي كان الكرملين يحذّر من العمل العسكري التركي في سوريا، حاول أيضاً تعزيز التقارب بين أردوغان والأسد.

وأظهر أردوغان بعض الانفتاح على هذه الفكرة، فعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن تؤدي إلى انتقال موثوق من الحرب إلى السلام في سوريا. ولكن إذا كان هذا التقارب ممكناً، فإنه سيفتح إمكانية عودة بعض مئات الآلاف من اللاجئين من تركيا إلى سوريا وقد يمنح أردوغان منطقته الأمنية على طول الحدود التركية السورية التي طالب بها لفترة طويلة.

وشكل هذا الأساس لاتفاق عام 2019 مع واشنطن وموسكو الذي أنهت تركيا من خلاله تدخلاً عسكرياً في سوريا، وبعد ذلك كان من المتوقع أن تساعد روسيا والولايات المتحدة في تطهير الحدود التركية من المسلحين الكرد. وزعمت تركيا مؤخراً أنها لم تفعل ذلك. مع سعي أردوغان لإعادة انتخابه في عام 2023، فإن إضافة المزيد من الأمن على الحدود وتخفيف مشكلة اللاجئين من شأنه أن يحسن احتمالات فوزه بولاية أخرى.

ما تحتاجه روسيا

بالنسبة لروسيا، ليس من المهم فقط دعم حليف حيوي في أنقرة، فهي أيضاً لا تستطيع تحمل التزام أكبر في سوريا بالنظر إلى مدى سوء الحرب في أوكرانيا. إن التقارب بين أنقرة ودمشق، وبين النظام السوري والكرد من شأنه أن يعزز دور روسيا كوسيط رئيسي للسلطة في سوريا، وبالتالي وجودها ونفوذها في بلد مهم استراتيجياً في الشرق الأوسط.

سيسمح تعزيز نظام الأسد لروسيا بالحفاظ على علاقات جيدة مع إيران التي ظهرت مؤخراً كمورد للطائرات المسلحة بدون طيار التي تستخدمها روسيا في الهجمات على البنية التحتية الأوكرانية.

روسيا بارعة تماماً في لعب مثل هذه الألعاب متعددة المستويات وربط النقاط بين مسارح العمليات البعيدة جغرافياً التي تبدو منفصلة عن بعضها. إن الحقيقة القائلة بأن الحرب في أوكرانيا لم تسلك طريق روسيا مؤخراً، تجعل من المرجح أن تحاول موسكو استغلال الأزمات مثل الأزمة الحالية في سوريا لصالحها. ولن تنجح في القيام بذلك إلا إذا فشل الغرب في لفت الانتباه.

المقال كتبه ستيفان وولف لصحيفة ذا كونفرزيشن

https://theconversation.com/the-forgotten-war-what-russia-could-win-from-the-reignited-conflict-in-syria-195869

ترجمة نورث برس

————————

لماذا تنزعج أوروبا من الدور التركي في حرب أوكرانيا؟

في الوقت الذي تلعب فيه تركيا دور الوسيط بين واشنطن وموسكو بشأن الصراع في أوكرانيا، لا سيما الاتصالات السياسية وقضية تصدير الحبوب، تنزعج الدول الأوروبية من الدور التركي، هذا الانزعاج عبّر عنه منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل. فما أسباب هذا الانزعاج والتخوف؟

كثّف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصالاته الهاتفية مع أطراف نزاع الحرب الروسية على أوكرانيا سواء لتأمين الاتفاق حول مرور الحبوب الأوكرانية، أو للتخفيف من أزمة الطاقة، أو الدعوة لإنهاء الحرب بين موسكو وكييف. وبحسب بيان للرئاسة التركية فقد أجرى أردوغان اتصالا هاتفيا مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أعرب خلاله عن أمله بإنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن.

وأورد بيان صادر عن دائرة الاتصال في الرئاسة التركية أن المباحثات بين أردوغان وبوتين في آخر نسخة لها بحثت مجددا ملف الطاقة، كما تمت مناقشة القضايا الإقليمية بما في ذلك ممر الحبوب ومكافحة الإرهاب.

ويبدو أن التحرك التركي يثير حفيظة الأوروبيين، إذ عبّر منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن هذا الموقف في رسالة وجهها إلى البرلمان الأوروبي، وجاء فيها: “إن تعميق العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا يمثل مصدر قلق كبير” وفق ما أوردته مجموعة “فونك ميديا” الألمانية.

ودافع رئيس معهد الاستشراف والأمن في أوروبا، الدكتور إيمانويل دوبوي في حديثه لبرنامج “ما وراء الخبر” عن الموقف الأوروبي إزاء الدور التركي ووصفه بالمبرر، معربا عن قناعته بأن الرئيس التركي أردوغان يلعب على جبهات مختلفة، ولا يدعم المجتمع الدولي في مسألة العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.

وقال إن أنقرة تلتف على هذه العقوبات وتستفيد من أنابيب الغاز التي تمر عبر البحر الأسود، رغم أنها دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتطمح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

ولا يقر دوبوي بالدور التركي في اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، زاعما أن أنقرة تحمي تنفيذ الاتفاق لأنها تشرف على مضيقي البوسفور وهرمز اللذين تمر عبرهما ناقلات الحبوب، وهي -أي أنقرة- من عرضت خدماتها بشأن الوساطة بين الطرفين الروسي والأوكراني، وهي الوساطة التي لم تؤت ثمارها لأن الأمور غير واضحة والأجواء غير مهيأة للمفاوضات بين الجانبين.

تركيا ترفض العقوبات الأحادية

ورفض المحلل السياسي في مركز سيتا للأبحاث، الدكتور بيلجي هان أوزترك ما ذهب إليه رئيس معهد الاستشراف والأمن في أوروبا، مؤكدا أن الأوروبيين يعانون من أزمة طاقة بخلاف تركيا، وحاولوا قبل الحرب أن يتوسطوا بين موسكو وكييف لكنهم فشلوا، وحتى في مسألة العقوبات على روسيا كانت فرنسا وألمانيا قد عارضتا الموقف الأميركي لكنهما رضختا له في الأخير.

بالإضافة إلى أن الموقف المبدئي لتركيا -يتابع أوزترك- يقضي برفض العقوبات الأحادية التي فرضت على موسكو، وهي تلتزم فقط بالعقوبات التي يفرضها مجلس الأمن الدولي، ولو سارت عل نهج الأوروبيين والأميركيين لما كانت لديها فرصة الآن للحديث للطرفين الأوكراني والروسي بشأن تبادل السجناء واتفاق الحبوب، مؤكدا أن تركيا هي الجهة التي أنقذت العالم من أزمة الغذاء.

يشار إلى أنه تم توقيع وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية بإسطنبول في 22 يوليو/تموز الماضي، بين تركيا وروسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة. وتضمنت الاتفاقية تأمين صادرات الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود إلى العالم، لمعالجة أزمة نقص الغذاء العالمي التي تهدد بكارثة إنسانية.

المصدر : الجزيرة

—————————————–

الحقيقة القاسية عن الحروب الطويلة: لماذا لن ينتهي الصراع في أوكرانيا في وقت وشيك؟/ كريستوفر بلاتمان

الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وهو يردد النشيد الوطني في خيرسون بأوكرانيا في نوفمبر 2022 (الخدمة الصحافية للرئاسة الأوكرانية/ رويترز)

عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، تصورت قلة من المعلقين أن الحرب ستبقى محتدمة إلى اليوم. فالمخططون الروس لم يحسبوا حساب مقاومة القوات الأوكرانية العنيفة، ولا الدعم الحماسي الذي قدمته أوروبا وأميركا الشمالية إلى أوكرانيا، أو وجوه قصور الجيش الروسي الكثيرة. واليوم أخذ كلا الطرفين موقعه الثابت وتمسك به، ويجوز أن يتواصل القتال لأشهر، هذا إن لم يدم لسنوات.

ولكن لماذا تستمر هذه الحرب؟ معظم النزاعات تدوم وقتاً قصيراً. وغالبية الحروب، خلال القرنين الماضيين، دامت، معدلاً متوسطاً، ثلاثة أو أربعة أشهر. ويعود السبب في قصر المدة إلى أن الحرب هي أسوأ وسيلة لتسوية خلافات سياسية. وعندما يتضح كم هي باهظة تكلفة القتال، يبدأ الخصوم عادة في البحث عن تسوية.

إلا أن كثيراً من الحروب تستعر مدة أطول، بطبيعة الحال. ولا تتحول التسويات إلى وقائع جراء أسباب استراتيجية رئيسة هي: اعتقاد القادة أن الهزيمة تهدد بقاءهم شخصياً، وضعف الإحساس الواضح لدى القادة بمدى قوتهم وقوة عدوهم، وخشية القادة من تعاظم قوة عدوهم لاحقاً. وفي أوكرانيا، تتضافر هذه الديناميكيات معاً لكي تُبقي الحرب محتدمة.

بيد أن هذه الأسباب الثلاثة توضح فقط جزءاً من القضية [التي تنطوي على سر استمرار الحرب]. فثمة جانب جوهري، وهو أن لهذه الحرب جذوراً أيديولوجية عميقة، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينفي مشروعية الهوية الأوكرانية المستقلة وتمتع دولة أوكرانيا بالسيادة. ويتحدث العارفون عن حكومة غارقة تماماً في معلوماتها الكاذبة ومتطرفة الرغبة في الاستيلاء على الأراضي. وأوكرانيا، من جانبها، تشبثت بشكل جريء بمُثلها العليا. وأظهر قادة البلاد وشعبها أنهم ليسوا مستعدين للتضحية بالحرية والسيادة والاستسلام أمام العدوان الروسي، مهما كلف الثمن. والذين يتعاطفون مع هذه القناعات الراسخة يصفونها بأنها قيم ثابتة. أما المشككون فينتقدون التمسك بقيم متصلبة وعقائدية. وأياً كان المصطلح، فغالباً ما يكون المضمون هو نفسه، أي أن كل جانب يرفض الواقعية السياسية ويحارب انطلاقاً من مبادئه.

وليست روسيا وأوكرانيا حالاً فريدة في هذا الباب، لأن الإيمان الأيديولوجي هو السبب في كثير من الحروب الطويلة. ويتعين على الأميركيين على وجه الخصوص أن يتعرفوا على سمة من سمات ماضيهم الثوري الذي طبعه صدام المعتقدات، مصدر اتقاد جذوة الحرب الأوكرانية، بطابعه. وعدد من الديمقراطيات يشبه أوكرانيا، حيث تجعل المُثل التي تتمتع بقبول شعبي تقديم بعض التنازلات أمراً بشعاً. وهذا التعنت هو سبب في كثير من الحروب التي خاضها الغرب في القرن الـ21، بما في ذلك غزو العراق وأفغانستان. وغالباً ما يبتعد السلام جراء المبادئ والقيم التي يتشبث الناس بها بقوة. وهذا أمر نادراً ما يُعترف به. والحرب في أوكرانيا هي أحدث مثال على قتال يتواصل ليس جراء قضايا استراتيجية عصية فحسب، بل لأن كلا المعسكرين يكره فكرة التسوية.

لماذا لا تنتهي بعض الحروب؟

وبعض الحروب تبدأ وتستمر إذا اعتقد القادة أن في وسعهم الحصول على نتائج أفضل بواسطة القتال بدلاً من إعمال الوسائل السياسية العادية. وتخوض الدول حروباً طويلة لثلاثة أسباب مفهومة. وأول هذه الأسباب خوف الحكام على مستقبلهم ومناصبهم، وتمسكهم بالحرب لأجل هذه المناصب. واعتقاد بوتين أن الهزيمة قد تقضي على نظامه لا شك يحفزه على الاستمرار في القتال، أياً كانت العواقب على الروس.

وثانيها أن الحروب تدوم في ظروف يسودها الشك والإبهام. فإذا داخل كلا الجانبين مجرد إحساس غامض بقوته النسبية استخف بالتداعيات المدمرة للصراع. وفي كثير من الأحوال، تبدد بضعة أشهر من القتال هذا الضباب. فالمعركة تكشف عن قوة كل طرف، ومدى تصميمه، وتطرد المفاهيم الخاطئة. ويلتمس الخصوم طريقة لإنهاء الحرب من طريق اتفاق يعكس ميزان القوى الراهن والجلي. وتستغرق معظم الحروب مدة قصيرة جراء مثل هذه الاتفاقات.

وفي بعض الأحوال، ينقشع ضباب الحرب ببطء. فعلى سبيل المثال لنتأمل الوضع الحالي في أوكرانيا. تجاوز أداء القوات الأوكرانية توقعات الجميع، من غير أن يتضح إذا كان في إمكانها طرد القوات الروسية من البلاد. وقد يؤدي الشتاء البارد إلى تراجع رغبة أوروبا في المضي على تقديم المال والسلاح إلى أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، قد تظهر آثار التعبئة الجزئية التي قررتها روسيا في سبتمبر (أيلول) في غضون الأشهر القادمة. وفي دوامة الشكوك المتواصلة، قد يرى الخصمان أن إبرام اتفاق سلام مهمة عسيرة.

وأخيراً، يجادل الباحثون في السياسة والمؤرخون بأن في قلب كل حرب طويلة “مشكلة التزام”، وعرضها عجز أحد الطرفين، أو كليهما، عن الالتزام التزاماً موثوقاً بتطبيق اتفاق سلام، جراء التحولات المتوقعة في ميزان القوى. ويسمي بعضهم ذلك فخ توقيديدس، أو “الحرب الوقائية”، فيعمد حد الطرفين إلى شن هجوم من أجل تثبيت ميزان القوى الحالي قبل أن يشهد تغيراً يُفقده موقعه ويضعفه. ودعت مشكلات الالتزام إلى شن كثير من الحروب الكبيرة. فجهود ألمانيا في سبيل الحؤول دون تعاظم قوة روسيا [أدت إلى نشوب الحرب] في عام 1914. وقادت رغبة الولايات المتحدة منع العراق من بناء قوة نووية [إلى الحرب] في عام 2003. وفي مثل هذه الظروف تؤدي الاتفاقات إلى الفشل حتى قبل عقدها.

تبدو الحرب في أوكرانيا للوهلة الأولى حافلة بمشكلات الالتزام. وكلما نبه زعيم أوروبي، أو جنرال أميركي، إلى أن الوقت حان لعقد تسوية مع روسيا، رد الأوكرانيون وحلفاؤهم بأن بوتين عاجز عن الالتزام الموثوق بتنفيذ اتفاق. وأكدوا أن الكرملين مصمم بشدة على احتلال مزيد من الأراضي، ولا خيار لزعيمه، سياسياً وأيديولوجياً، غير الاستمرار في الحرب من أجل تحقيق أهدافه العسكرية. ويحذر الأوكرانيون من أن عقد تسوية الآن يتيح للروس إعادة تنظيم صفوفهم، ثم الهجوم من جديد. وعلاوة على ذلك، مزاج الأوكرانيين لا يسمح لهم بالتوصل إلى حل وسط مع من اضطهدهم. وإذا تمكنت موسكو من إقناع المفاوض الأوكراني بالموافقة على وقف إطلاق النار فإن فرص قبول الشعب أو البرلمان الأوكراني بأقل الخسائر في الأشخاص أو الأراضي، ضئيلة. ومن شأن رد الفعل الشعبي أن يفسد أي صفقة يُفاوض عليها.

ومع ذلك، ليس تصميم روسيا أو أوكرانيا من صنف مشكلات التزام تقليدية، تنبع من الحسابات الاستراتيجية والتصورات عن تغيرات موازين القوى. وبدلاً من ذلك، تجعل القوى غير المادية [من مفاهيم ومُثل ورؤى] الاتفاق صعباً. وتذكي مبادئ القادة الأوكرانيين والروس وهواجسهم الصراع. وليس ثمة صفقة وشيكة، لأن كلا الطرفين يفضل القتال على التنازل للآخر.

الحماسة والغاية

ومقاومة أوكرانيا الشديدة لأي اقتراح بعقد تسوية، ليست غريبة. وهذا التعنت نفسه يتكرر ظهوره عبر التاريخ كلما قررت شعوب مستعمرة (بفتح الميم) ومضطهدة أن تكافح من أجل نيل حريتها على رغم الصعاب. وهم يرفضون إخضاعهم لأسباب عديدة، منها مزيج من السخط والتمسك بمبادئهم. وتقديم التنازلات للإمبريالية، وقبول الهيمنة، هو أمر مقيت، حتى من وجهة نظر الضعفاء. وكما كتب فرانز فانون، الفيلسوف السياسي المناهض للاستعمار، في “المعذبون في الأرض”، كتابه الكلاسيكي في عام 1961، “نحن نتمرد ببساطة لأننا لم نعد قادرين على التنفس…”

ووجوه الشبه بين المقاومة الأوكرانية والثورة الأميركية نفسها لافتة بقوة. ففي ذلك الوقت، كما هي الحال اليوم، كانت القوة العظمى تريد تشديد قبضتها على كيان أضعف. وحاولت بريطانيا العظمى مراراً وتكرارا في الستينيات والسبعينيات من القرن الـ18، أن تكبح استقلال المستعمرات الـ13 الذاتي. وكانت القوات البريطانية متفوقة عسكرياً، ولم يكن هناك حلفاء رسميون للمستعمَرين. ويمكن القول إن السيادة الجزئية، والضرائب المتزايدة، كانتا أفضل صفقة محتملة يمكن للمستَعمَرين أن يطالبوا بها الدولة المستعمِرة (بكسر الميم). ولكن أميركيين كثيرين رفضوا هذه الصفقة. لماذا؟ كتب جون أدامز في رسالة وجهها إلى توماس جيفرسون في عام 1815 قائلاً إن الثورة الحقيقية حصلت “في عقول الناس.” وأوضح أن هذا تحقق “في سياق 15 عاماً قبل إراقة قطرة دم واحدة في ليكسنغتون”.”حصل ذلك”، مثلما لاحظ بعد بضع سنوات من خلال “تغيير جذري في مبادئ وآراء ومشاعر وأحاسيس” المستعمَرين ( بفتح الميم). وكان التنازل عن هذه المبادئ إلى ملك بريطاني غير وارد، على ما رأى كثيرون. وفي أوكرانيا، التي هاجم بوتين كيانها المستقل منذ نحو عقد من الزمان، برز التصميم نفسه. ويرفض كثير من الأوكرانيين، من حيث المبدأ، قبول الشروط الروسية أو الرضوخ في وجه العدوان الروسي، وخصوصاً عندما يعني ذلك التخلي عن مواطنيهم في المناطق التي تريد موسكو ضمها.

وهناك وجوه شبه مع فكرة قديمة تُغفل عادة في دراسة الحرب، وهي “عدم القابلية للتجزئة”، وتتعلق بشيء، أو موضوع، أو مكان، أو ضمة مبادئ، يقنع الناس أنفسهم بأنها غير قابلة للتقسيم، وليس من الممكن التنازل عنها، في الأحوال كلها. واستخدم بعض العلماء هذا المفهوم في شرح الأسباب التي جعلت أماكن مقدسة، وأوطان إثنيات، تثير حروباً طويلة تؤدي إلى التقسيم. ورفض آخرون هذا المفهوم لأنه تفسير حصري يختزل فئة ضيقة من الصراعات. وخرجت حالات “عدم القابلية للتجزئة” من نطاق الاهتمام الأكاديمي. إلا أنه مفهوم قوي، وهو قابل للتطبيق على مجموعة متفرقة من الصراعات. وعندما رفض المقاتلون الشجعان في أوكرانيا، أو الثوار المناهضون للإمبريالية في أميركا الاستعمارية وفي المستعمرات الأوروبية في أفريقيا، التنازل عن الحريات، اتخذوا ذلك الموقف لأنهم اعتبروا أن المقايضة كانت باهظة التكلفة أكثر مما يحتمل. وأدى التغيير الجذري في المبادئ والمشاعر الشعبية إلى جعل التنازل عن الأرض والحرية غير ممكن سياسياً.

وهذه ليست ظاهرة نادرة، ويبدو أنها تسود في الأنظمة الديمقراطية بشكل خاص. ويجوز القول إن المبادئ والتنازلات غير المقبولة أحد الأسباب الرئيسة التي تدعو الدول الديمقراطية إلى خوض حروب طويلة. وعلى سبيل المثال، استمرت حملة الولايات المتحدة عقدين من الزمن في أفغانستان. وسعى مسؤولو طالبان تكراراً، منذ عام 2002 إلى عام 2004، في إبرام صفقات سياسية مع حامد كرزاي، الرئيس الأفغاني آنذاك. وروى أشخاص مطلعون، أجرى مقابلات معهم المؤرخ كارتر مالكسيان، أن إدارة جورج دبليو بوش رأت “جميع عناصر طالبان متساوون في السوء”. “ومن خلال معاينة الفترة نفسها، لفت الصحافي ستيف كول إلى إعلان دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي آنذاك، أن الولايات المتحدة ترفض المفاوضة، وأن سياسة واشنطن حيال طالبان ترمي إلى ” تطبيق العدالة عليهم أو تقديمهم إلى العدالة.” ويلاحظ في كلتا روايتي مالكسيان وكول، أن إدارة بوش منعت بشكل حازم الرئيس كرزاي من السعي للتوصل إلى تسوية سلمية مع طالبان.

وكان لدى الحكومة الأميركية طبعاً أسباب استراتيجية للشك في مدى صدق طالبان. وأراد مسؤولو الإدارة، في إطار سعيهم إلى إلحاق هزيمة عسكرية كاملة بالجماعة المتطرفة، إثبات السمعة التي تصورهم أقوياء، وردع الخصوم الآخرين عن مهاجمة الولايات المتحدة. ولكن من الحماقة تجاهل أن قادة الولايات المتحدة رفضوا، طوال عقدين تقريباً، فكرة التفاوض مع طالبان من منطلق مبدأي، وليس من منطلق استراتيجي مدروس.

ولا تنفرد الولايات المتحدة برفض التعامل مع [مجموعة إرهابية]. فمرة تلو الأخرى، امتنعت الحكومات الديمقراطية، على مدى سنوات واجهت فيها المتمردين والإرهابيين، في العراق وإيرلندا الشمالية والأراضي الفلسطينية وعشرات الأماكن الأخرى، عن مجرد التفكير في محاورتهم. وأعرب جوناثان باول [مدير مكتب توني بلير، رئيس الوزراء الأسبق]، وكان كبير مفاوضي الحكومة البريطانية في إيرلندا الشمالية من عام 1997 إلى 1999، أعرب عن أسفه لهذا الموقف، في كتابه المعنون “يجلسون إلى الطاولة [للتفاوض]”. ولفت إلى أن شيطنة العدو، ورفض أنواع الحوار كلها معه، كانا ينمان عن قصر نظر، ويسببان على الدوام وفيات لا مبرر لحصولها. وفي إيرلندا الشمالية، أدركت الحكومة البريطانية، في النهاية، أنها في حاجة إلى عملية سياسية متصلة. ويقول باول إن السلام مستحيل إذا منعت الحواجز الأيديولوجية القادة من التفاوض.

خطر المبدأ 

ومع ذلك، لم تبلغ الحوادث في أوكرانيا النقطة التي تخول الأوكرانيين قبول تسوية. وحث أخيراً سياسيون واقعيون، مثل هنري كيسنجر وستيفن والت، أوكرانيا على تجاوز المعوقات الأيديولوجية [التي تعترض سبيل المفاوضات]، ومقايضة بعض السيادة بالسلام. والفرق بين هؤلاء الواقعيين والمثاليين الذين يريدون لأوكرانيا أن تستمر في القتال، بسيط. فالطرفان يختلفان على تكلفة التنازلات التي قد تضطر أوكرانيا إلى تقديمها لقاء صفقة، وعلى مستوى تصلب روسيا الأيديولوجي حين غزت جارتها.

ولكن، لا يخطئن أحد الظن، فثمة حاجة استراتيجية تدعو الأوكرانيين إلى المضي على القتال، وتدعو الغرب إلى دعمهم. وينبغي فهم مقاومة روسيا، ورفضها الحلول الوسط الكريهة التي قد تنهي الحرب سريعاً، وتنزع من روسيا الدلائل على قوتها الراسخة في الجغرافيا السياسية.

وستستمر هذه القيم والأفكار في لعب دور بارز في الحروب التي قد تشنها الديمقراطيات في المستقبل. وبات الغرب، على نحو مضطرد، أكثر اعتماداً على الحقوق مع مرور الزمن. وأصبح ملزماً، في دول كثيرة، التزام بعض المثل الليبرالية والدفاع عنها، بغض النظر عن الثمن. ويسمي الفيلسوف مايكل إغناتيف هذا التحول “ثورة الحقوق”. ويجب الاحتفاء بهذه المُثل، كما ينبغي على الحكومات الغربية أن تستمر في محاولة الالتزام بها (حتى ولو فشلت غالباً في ذلك). وهذا التوجه يجعل الغرب أقل ميلاً إلى الواقعية السياسية، أي إلى مقايضة الحقوق والمبادئ بالسلام، أو إبرام صفقات مع المستبدين من نوع غير مستساغ. وعلى هذا، فقد تتكرر الحروب، على شاكلة تلك التي تشهدها أوكرانيا، وقد يمسي إنهاؤها أشد صعوبة.

*كريستوفر بلاتمان هو بروفيسور كرسي رامالي إي. بيرسون لدراسات الصراع العالمي في كلية هاريس للسياسة العامة بجامعة شيكاغو، ومؤلف كتاب “لماذا نقاتل: جذور الحرب والمسارات إلى السلام”.

مترجم من فورين أفيرز، 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022

———————————-

لماذا وضعت إيران بيضها في سلّة روسيا؟/ مروان قبلان

لسنوات طويلة كان “عدم الثقة” الملمح الرئيس للعلاقات الروسية – الإيرانية. وحتى وقت قريب، كانت إيران تشكّك في نيات موسكو، وتشكو سلوكها اتجاهها. وكانت روسيا استخدمت إيران وقتا طويلا ورقة مساومة في علاقتها بالغرب، وأيدت جميع قرارات مجلس الأمن المتصلة ببرنامج إيران النووي، بما فيها القرار رقم 1929 لعام 2010، والذي فرض عقوباتٍ شديدة على إيران. وامتنعت روسيا عن بيع إيران أسلحة متقدّمة حتى عام 2016 (ما بعد الاتفاق النووي)، علما أن إيران سددت ثمن بعضها، واضطرّت حتى إلى رفع دعوى ضد موسكو أمام محكمة في باريس طالبت فيها بردّ ثمن الأسلحة ودفع الفوائد. وعندما تدخّلت روسيا في سورية بتشجيعٍ من إيران، صارت إيران تشكو من وجود تنسيق روسي – إسرائيلي ضدّها، تسمح روسيا بموجبه لإسرائيل باستهداف الوجود العسكري الإيراني في سورية. وآخر مناسبة تظهر فيها إيران استياءها من سياسات روسيا نحوها برزت عندما حاولت روسيا ربط موافقتها على إحياء اتفاق إيران النووي في مارس/ آذار الماضي، بإعفاء تجارتها مع إيران من العقوبات الغربية عليها، وقد سبق لوزير خارجية إيران السابق، جواد ظريف، أن اتهم في مقابلته المسرّبة الشهيرة نظيره الروسي، سيرغي لافروف، بمحاولة تعطيل التوصل إلى اتفاق عام 2015 النووي.

وعندما غزت روسيا أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، نأت إيران بنفسها عن الخطوة الروسية، وامتنعت مرتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة عن التصويت إلى جانب روسيا (صوّتت إلى جانبها أربع دول فقط، هي وسورية وبيلاروسيا وإرتيريا وكوريا الشمالية)، لكن هذا كله تغير في شهر يوليو/ تموز الماضي، عندما بدأت الاستخبارات الأميركية تتحدّث عن شحن إيران أعدادا كبيرة من الطائرات المسيّرة إلى روسيا، قبل أن يتطوّر التعاون بينهما، ليشمل إرسال صواريخ بالستية متفاوتة المديات، ولتصبح إيران بذلك مصدر إمدادٍ رئيس للسلاح لروسيا، فضلا عن إرسال مستشارين إيرانيين إلى القرم للمساعدة في التدريب على استخدام طائرات الكاميكازي. وقد اعتبر الاتحاد الأوروبي أن إيران تحوّلت نتيجة ذلك إلى شريك فعلي في حرب روسيا على أوكرانيا (واستطرادا على أوروبا) ويتجه بناء عليه إلى فرض عقوباتٍ قاسية عليها.

السؤال الذي يثير حيرة في عواصم الغرب هو لماذا قرّرت إيران أن تدعم موسكو في حربها على أوكرانيا، وما الذي تجنيه من التحالف مع حليفٍ دأب على بيعها عند كل منعطف، ويتّجه فوق ذلك إلى خسارة الحرب، ولماذا تخاطر إيران بمعاداة أوروبا ودفعها إلى التماهي مع الموقفين، الأميركي والإسرائيلي، منها؟ لا توجد إجابات قاطعة عن هذه الأسئلة، لكن الأرجح أن إيران قرّرت دعم روسيا، بعد أن فقدت كل أمل بإمكان الاستفادة من موقفها الأولي في حرب أوكرانيا، عندما ظنّت أن حاجة الغرب إلى الطاقة ستدفعه إلى رفع العقوبات عنها. وحصل التغير في الموقف الإيراني على الأرجح بسبب زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الرياض منتصف يوليو/ تموز الماضي، حيث استنتجت طهران أن واشنطن قرّرت اختيار تحالفاتها التقليدية بدلا من الانفتاح عليها. وجاء التعبير عن ذلك في أثناء زيارة الرئيس الروسي بوتين طهران، بعد يومين فقط من قمة الرياض الأميركية – العربية، لحضور قمّة مسار أستانة، وفيها قرّرت إيران تغيير موقفها من حرب أوكرانيا.

قامت الحسابات الإيرانية على الأرجح حول أن خسارة روسيا الحرب سوف يؤثر سلبا عليها، ويسمح بالاستفراد بها لاحقا، في ضوء فشل محاولة حل أزمتها مع الغرب، ومن المحتمل أيضًا أن إيران طلبت، في مقابل دعمها موسكو في أوكرانيا، الحصول على دعم روسي مماثل في سورية يلغي التفاهمات مع إسرائيل، ويؤمن حماية للوجود العسكري الإيراني فيها. وربما تأمل طهران أيضا في الحصول على تعاون روسي أكبر في تطوير صناعاتها الدفاعية، كما تشير إلى ذلك تقارير المخابرات الغربية. وربما لعب اعتقاد طهران أن الغرب، بتأييده الاحتجاجات، ربما يسعى إلى إطاحة نظامها، دورا أيضا في حسم القرار لصالح تحالفها مع موسكو. … مهما تكن أسبابها، الواضح أن طهران وضعت كل بيضها في السلة الروسية وهو أمرٌ لم يسبق أن فعلته، وقد ينطوي على مخاطرة كبرى، تتضح أبعادها خلال الشهور القليلة المقبلة.

العربي الجديد

———————————

======================

تحديث 24 كانون الأول 2022

—————————-

كييف مقابل القرم/ بيار عقيقي

بين يومي الإثنين والخميس الماضيين، تدرّجت مواقف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بين الاعتراف بأن وضع قواته في أوكرانيا “صعب جداً” والتبجّح بتحويل الصواريخ الفرط صوتية إلى قوة نووية، وصولاً إلى القول إن “روسيا تريد إنهاء الحرب وكل الصراعات تنتهي بالدبلوماسية”. وتخلّلت هذه المواقف زيارة إلى بيلاروسيا، هي الأولى له منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، للإيحاء بأنه قادرٌ على تصعيد استخدامها من “قوة إسناد” لجيشه إلى “قوة مشاركة في الحرب”. وهو ما عبّر عنه صراحة مسؤولون عديدون في مينسك، وأولهم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو.

ومع أن بيلاروسيا سعت إلى “تطمين” العالم بأنها لن تشارك في الحرب الأوكرانية، ما لم يتم التعدّي عليها، إلا أنه يُمكن ملاحظة نقاط عدة في الجدول الأسبوعي المزدحم لبوتين. التلويح بدفع بيلاروسيا، وفقاً لشرارةٍ أمنيةٍ ما، تسمح لروسيا فتح جبهة العاصمة الأوكرانية كييف مجدّداً، لقربها من الحدود البيلاروسية. وبذلك، تمنع روسيا محاولات أوكرانيا استعادة شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها موسكو بالقوة في عام 2014. كييف مقابل القرم هي المعادلة التي تحكم الصراع الميداني في أوكرانيا في الفترة الحالية.

كان الحديث، في الصيف الماضي، أشبه بالهمس عن تحرير القرم من الروس، إذ لم تكن كييف قد استعادت أجزاءً واسعة من أرضها في الشرق والجنوب بعد. عُقد منتدى القرم في أغسطس/ آب الماضي، وتحدّث فيه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن “تحريرها في وقتٍ قريب”. لم يكن أشدّ المتفائلين وقتها ليظنّ أنه بعد أربعة أشهر على المنتدى، باتت القوات الأوكرانية على بعد 84 كيلومتراً من مدينة ميليتوبول التي تسمح السيطرة عليها بشقّ الطريق نحو القرم. وأيضاً لم يكن أحدٌ ليتصوّر أنه يُمكن مهاجمة القواعد الروسية في شبه الجزيرة، وتفجير جسر القرم في مضيق كيرتش. لكنها أمورٌ حصلت، وباتت الحرب الروسية في أوكرانيا أمام منعطف حاسم ميدانياً.

وإذا اتخذ الروس قراراً بالعودة إلى كييف، من المؤكّد أنهم سيعتمدون تكتيكاتٍ مغايرة لما حصل في الربيع الماضي، حين وصلت أرتال الدبابات الروسية إلى مداخل العاصمة الأوكرانية، قبل أن تتحوّل إلى لقمة سائغة للمسيّرات ولتكتيك حرب العصابات التي اتّبعها الأوكرانيون. تراجع الروس لاحقاً. وفي القرم، لم تحدث أي عملية برّية باتجاهها بعد، إذ نجح الأوكرانيون، الشهر الماضي فقط، في استرداد مدينة خيرسون، الواقعة على مداخل شبه الجزيرة.

لكن الرسائل العلنية والضمنية للقيادات الأوكرانية أوحت بأن الجيش على مشارف بدء معركة القرم. تحدّث قائد الجيش الأوكراني، فاليري زالوجني، عن “معركة كبرى”، وعبّر زيلينسكي عن أمنيته في الجلوس على الشاطئ بعد التحرير، في مقابلة أخيرة مع المذيع الأميركي ديفيد ليترمان. والشاطئ المقصود هنا هو القرم، لا أوديسّا، حيث يمكن للرئيس الأوكراني زيارتها حالياً، لكونها خاضعة للسيطرة الأوكرانية، ففي العقل الجماعي السوفييتي، خصوصاً بشقّيه الروسي والأوكراني، تُشكّل القرم مقصداً صيفياً بين شتاءاتٍ باردة. وكلام زيلينسكي واضح في أن القرم ستتحوّل إلى هدف أوكراني.

ليس بالضرورة أن تندلع المعارك في الأسابيع المقبلة. الطقس عاملٌ مهم، والأراضي الضحلة ستشكّل مستنقعاً من الصعب الخروج منه. اللحظة المناسبة لم تحن بعد، لكن الجميع في موسكو وكييف يستعد لها. حتى أنه سرت أنباءٌ غير مؤكّدة عن مغادرة الروس والأوكرانيين الموالين لهم شبه الجزيرة الأوكرانية. يعلم بوتين وزيلينسكي أن قوة التفاوض تنبع من قوة الميدان، والسباق بين كييف والقرم سيسمح لأي منهما بتمتين موقفه. في المقابل، يبقى تفصيل مهم، ولو أنه ثانوي: باخموت، الواقعة في الشرق. هناك فشل الروس في السيطرة عليها، في ظلّ ثبات الجنود الأوكرانيين في موقفٍ دفاعي، مكرّسين نيتهم في تحضير الهجوم باتجاه القرم. سيبدّل السباق بين كييف والقرم مجرى حرب أوكرانيا، ومنظومة باتريوت شاهدةٌ على ذلك.

العربي الجديد

—————————-

بوتين والأسد وخامنئي… عواصف تضرب “الرفاق” الثلاثة/ فايز سارة

العواصف التي تضرب التحالف الثلاثي في جملته وفي داخل كل طرف فيه، تحمل مقدمات لتحولات كبرى في واقع التحالف ولكل واحد من أطرافه، وتثبت أن هذا التحالف اعجز من ان يستمر، وان كياناته مرشحة للانهيار أو لتغييرات عميقة مؤكدة.

ليس من باب المصادفة، أن الحلفاء الثلاثة روسيا وإيران ونظام الأسد، يخضعون لظروف شديدة القسوة في وقت واحد، وان الاحداث المتلاحقة التي تشهدها دولهم، ويعيش في ظلها سكانها، بلغت مستويات عالية من التردي والتدهور سواء في صورتها الخارجية، او وقائعها الداخلية بما فيها من ازمات سياسية واقتصادية واجتماعية وامنية متصاعدة، يصعب حل ومعالجة بعضها، لكن جزءاً منها، صار من المستحيل أن  تعالج على نحو ما هو الواقع عند نظام الأسد، فيما بإمكان روسيا أن تعالج وتتجاوز معظم مشكلاتها، إذا رغب حاكمها.

 ولأن ما يحصل في بلاد الحلفاء من كوارث، لا يحدث بالمصادفة، فإن السؤال عن أسبابه أمر مفروض، لكن الاجابة مرهونة بصاحب الجواب. فالحاكم القابض على السلطة في البلدان الثلاثة، عنده جواب واحد في جوهره، وإن اختلفت المفردات، إذ يحيل السبب الى الخارج من دول ومنظمات وجماعات وأفراد، يديرون مؤامرات وتدخلات هدفها الانظمة الثلاثة وقادتها، والعمل على إلحاق الضرر بسمعتها ومصالحها في المحيطين الإقليمي والدولي، فيما يحيل خصوم الحلفاء وبخاصة الدول الداخلة معهم في مواجهات سياسية وعسكرية أسباب ما تعيشه أنظمة الحلفاء إلى سياستها وتعدياتها على الدول الأخرى وعلاقاتها بالإرهاب وجماعاته، التي تتجاوز دعم الارهاب الى ممارسة إرهاب الدولة، وهو من السمات المشتركة لإيران وروسيا ونظام الأسد في سوريا.

وللحق فإن الإجابات السابقة، تتجاوز وقائع تشكل الأسباب العميقة، لما صارت عليه أحوال الحلفاء من مشكلات وأزمات طاحنة، يقف خلفها اساساً النظام الحاكم بطبيعته الدكتاتورية المستبدة، مستنداً الى ايدلوجيا ماضوية فيها تعصب وتشدد، يقترن الاستناد إليها بهدف واحد وحيد هو دعم الحاكم المستبد والحفاظ على سلطته، وتشتق من  طبيعة النظام استراتيجية السلطة في المجالين الداخلي والخارجي، بحيث لا يكون لأحد منها تأثير في حدوث أي تبدل جوهري فيها، بل يتم التعامل معها، وكأنها مسلمات مقدسة لا تقبل التعديل ولا حتى النقاش. وهو ما يبيّنه النموذج الإيراني الخامنئي وعلى جانبيه في اليسار النموذج الروسي البوتيني والسوري الأسدي على اليمين.

أتت المشكلات والأزمات الاساسية من خاصرة نهج العسكرة والتسلح وسياسات التمدد الخارجي وخوض المعارك والحروب السياسية والعسكرية، بما فيها عمليات المخابرات والجماعات الإرهابية والشركات الامنية، فإنها ارتبطت في المستوى الداخلي بإمساك مفاصل السياسة، وحصرها بالأقربين إلى النظام وأدواته، وتبني أنماط محددة من التنمية، تقوم على سيطرة النظام على الموارد والمنتجات الرئيسية، والاستغلال الكثيف لقدرات المنتجين من الأفراد والمؤسسات، برغم تمايز الطرفين، وفرض سياسات شد الأحزمة إلزاماً على الفئات الأضعف، التي لا صوت ولا تمثيل بها، ما أدى إلى تعرضها لعملية سحق متعددة الأبعاد، أغلقت أبواب اى تغيير إيجابي بطريقة سلمية، فلا يعود أمامها غير الثورة على النظام. 

ليس من باب المصادفة، أن الحلفاء الثلاثة روسيا وإيران ونظام الأسد، يخضعون لظروف شديدة القسوة في وقت واحد، وان الاحداث المتلاحقة التي تشهدها دولهم، ويعيش في ظلها سكانها، بلغت مستويات عالية من التردي والتدهور.

التجسيدات العملية في واقع الاخوة المتحالفين كثيرة لجهة مؤشرات وصول بلدانهم وأهلها إلى حفرة عميقة وكبيرة. ولعل ابرزها عند أصغر الحلفاء ثورة السوريين على نظامهم، ورفض الأسد بموافقة أخويه في طهران وموسكو الذهاب الى حل سياسي في سوريا، والأسوأ تركيز جهود الثلاثة وتضافرها لوأد الثورة، وإعادة السوريين إلى حظيرة النظام، والسعي لإعادة الأخير إلى المحيط الإقليمي والدولي، وإعادة تطبيع العلاقات معه برغم كل ما ارتكبه مع حلفائه وبخاصة جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، وما خلفته الحرب من تداعيات وآثار في سوريا ومحيطها الإقليمي والدولي.

لقد سعى الإيرانيون والروس إلى تقديم كل المساعدات والعون لنظام الأسد دون تحقيق أي نجاح. بل إن النتيجة أتت معاكسة، ويواجه النظام اليوم مجموعة انهيارات سياسية واقتصادية ومالية وادارية، لا بد أنها ستكون بين عوامل اطاحته، وهي سوف تسرع عملية سقوطه على الأقل، إن لم تحدث تدخلات كبيرة وجدية لانقاذه على نحو ما فعل حزب الله وإيران وروسيا وغيرهم مرات في الأحد عشر عاماً الماضية.

وانتقالاً من حالة نظام الأسد إلى نظام الملالي، فان إيران تواجه مشكلات عميقة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لعل الأهم في مظاهرها الهبات المتلاحقة والاحتجاجات المتكررة، والتي لا تعدم سبباً للانطلاق، ثم تتواصل وهي تفتح كل ملفات النظام وسياساته، والمثال القريب، تعبيره “الهبة الراهنة للنساء الإيرانيات”، بسبب وفاة شابة في الاعتقال لـ”خلل” في حجابها، ثم كرت السبحة، فأخذت الهبة بعداً شعبياً، شمل انحاء ايران وارتفعت الهتافات ضد سياسات النظام، وطالبت بإسقاطه، و بـ”الموت للدكتاتور” في اشارة الى المرشد علي خامنئي.

وإذا كان من غير المعروف، ان نظامي بوتين والأسد قدما أي معونة لإيران في مواجهة الهبة الشعبية، باستثناء المساندة الدعاوية- الإعلامية، فإن نظام الملالي واجه الهبة بحذر شديد مقلباً السياسات بين حد العنف المفرط الذي دأب على ممارسته منذ وصول الملالي للسلطة عام 1979، والوعد بمعالجات واصلاحات، ظهر في تطبيقاتها الاولى الطابع التلفيقي للمعالجة، بالتزامن مع الكشف عن أنيابه في مواجهة الحركة الشعبية والمناهضين لسياساته وسلوكياته، واللجوء الى اعتقالات واسعة، واصدار احكام اعدام المشاركين في الاحتجاجات.

أكبر الحلفاء وأهمهم روسيا، التي تواجه مشكلات أشد وطأة من مشكلات العهد السوفياتي البائد والتي كانت اختلاطات التنمية الاقتصادية الاجتماعية وقضايا الحريات وحقوق الإنسان أبرزها، وأهم أسباب انهيارها، وعانت منها روسيا بزعامة بوتين، وأضافت اليها، مشكلة ناتجة عن نزعات التمدد الامبراطوري سواء امبراطورية القياصرة او الامبراطورية السوفياتية المغطاة بـ”الاممية البروليتارية”، وقد بدأ بوتين رئاسته الأولى عام 1999 على وقع الحرب بالتتابع في إقليمي داغستان والشيشان الانفصاليين التابعين لروسيا الاتحادية، في أقصى جنوب غربي البلاد، واستمر في حروب طوال العقدين التاليين في جورجيا وأوسيتنيا الجنوبية وأبخازيا والقرم، ثم سوريا، حيث أعطاه تدخله العسكري والسياسي العميق فيها إحساساً بالعظمة، جعلته يتطلع نحو شرق أوروبا، فاتجه إلى أوكرانيا معتقداً أنها ستكون لقمة سائغة، تمهد له تمدداً أكبر في أوروبا.

وبدل أن تعزز نزعة التوسع سلطة بوتين، وتغطي على مشكلات سياساته الداخلية وتردياتها، فإنها فاقمت أوضاع الداخل نتيجة فشل العمليات العسكرية، وتزايد الخسائر في أوكرانيا، التي تم تصويرها بمثابة نزهة للجيش الروسي مثل معركة حلب في سوريا عام 2015، وكان من الانعكاسات الداخلية للحرب تهرب الشبان الروس من حملة تجنيد ثلاثمائة الفاُ، ودفعهم الى اتون الحرب، وتزايد موجات التنديد بسياسات بوتين، وتوالي عمليات تخريب في أنحاء مختلفة من روسيا، مازالت الشكوك تحيط بالقائمين بها.

لقد حاول حليفا بوتين في ايران وسوريا مساعدته بصورة علنية، عبر الدعم الإعلامي وتقديم إيران طائرات مسيرة، تساعده في الحرب، وإرسال نظام الأسد مجموعات من المتطوعين للقتال الى جانب القوات الروسية، لكن أثر ذلك سيكون محدوداً على نتائج الحرب.

خلاصة الأمر، أن العواصف التي تضرب التحالف الثلاثي في جملته وفي داخل كل طرف فيه، تحمل مقدمات لتحولات كبرى في واقع التحالف ولكل واحد من أطرافه، وتثبت أن هذا التحالف اعجز من ان يستمر، وان كياناته مرشحة للانهيار أو لتغييرات عميقة مؤكدة، ولعلها قريبة بالنسبة إلى نظام الأسد، ومحتملة وان احتاجت بعض الوقت بالنسبة إلى نظام الملالي. أما في موضوع روسيا، فالأمر أكثر تعقيداً، وغالباً فإن العالم بما فيه خصوم بوتين على جبهات القتال، سيذهب الى تسوية، فروسيا دولة عظمى، ليست ايران الملالي ولا سوريا الأسد.

درج

———————————–

سعال في دمشق..حمّى في طهران وموسكو/ عمر قدور

تغري لعبة المقارنة بالقول أن أحوال سوريا اليوم كأحوالها قبل قرن، أي ما يُعرف بزمن سفربرلك الذي شهد أشدّ مجاعة عرفتها البلاد. لكن هذه المقارنة باتت مجحفة جداً بحق بؤساء اليوم، فالأسلاف عاشوا أهوال تلك الحقبة في سياق حيواتهم البسيطة عموماً، وقليلة المعرفة بأحوال العالم. السوري البائس حالياً يعرف جيداً كيف يمضي العالم بلا اكتراث بمعاناته، وعندما تحضر الكهرباء يرى بعينه على الشاشات مظاهر الحياة “الطبيعية”، يرى كل ما ليس له حقّ فيه، لا لذنب ارتكبه بل فقط لوجوده في بلده.

ومن مظاهر المقارنة التي قد تحضر مع سفربرلك اقتياد الشبان السوريين قبل قرن، كمحاربين للدفاع عن السلطنة العثمانية، وهناك حكايا عن عائلات فقدت أبناءها من دون معرفة شيء عن مصيرهم وعن أي بلد لقوا حتفهم فيه. اليوم صارت العائلات عموماً أكثر معرفة بأحوال الشبان المحاربين في بلدان أخرى، مثل أوكرانيا وليبيا وأذرييجان، رغم فقدان الأخبار عن بعضهم. 

وجه التشابه هذا يستحضر معه أفول السلطنة العثمانية، ومن ثم المقارنة مع رعاة الأسد في طهران وموسكو الذين تعاني بلدانهم من ظروف بالغة السوء، خاصة بالمقارنة مع الطموحات الإمبراطورية لحكام البلدين. على ذلك، يظهر كأن السعال في دمشق هو نتيجة لحمّى الأنفلونزا في طهران وموسكو، ففي ظروف أفضل للبلدين لم يكن حال سلطة الأسد ليبلغ هذه العتبة المتردية. للتأكيد، هذا الربط لا يبرّئ حكم الأسد من المسؤولية الأولى والأساسية عمّا آلت إليه أحوال السوريين، سواء تحت سيطرته أو خارجها.

بالتشبيه مع السلطنة العثمانية، لا نذهب إلى التبشير بانهيار تام وشيك للسلطة في طهران أو موسكو، لكن ما قصدناه بالحمّى المشتدة في بلدين يحتفظ بدلالته على أحوالهما الاقتصادية على الأقل. نحن إزاء قوتين “إقليمية ودولية” بدا لعقدين على الأقل أن لهما طموحات إمبراطورية قيد التحقيق، ورأينا في المثال السوري كيف حظي توسعهما بمباركة دولية. إلا أنهما، من دون هذه المباركة تحديداً، تعودان إلى حجمهما الطبيعي كبلدين يعتمدان على النفط والغاز للنهوض بالجانب العسكري الذي يخدم هيمنة السلطة داخلياً وخارجياً.

طوال عشر سنوات تقريباً ضخّت طهران في اقتصاد الأسد حوالى ملياري دولار سنوياً، ولا معلومات عن قيمة الدعم العسكري الروسي قبل التدخل المباشر، مع ترجيح شرائه بالديْن. لقد أنفق الطرفان الإيراني والروسي مبالغ ضخمة حقاً للإبقاء على الأسد، وشهدنا تنافسهما من أجل استردادها مستقبلاً بالسيطرة على مرافق سورية حيوية. من أمثلة السيطرة على القطاعات الحيوية تلك الأخبار الواردة مؤخراً عن تبعية المشغل الخليوي الثالث للحرس الثوري الإيراني، وفي كل الأحوال فإن سيطرة طهران وموسكو على مختلف القطاعات الرابحة تمنع دخول منافسين آخرين، وتزيد من قوة الارتباط بين الحمّى في كل منهما والسعال في دمشق.

قد تزيد موسكو من حدّة الجدل في الأيام القليلة المقبلة، على خلفية رفضها التمديد لدخول المساعدات الأممية إلى الشمال السوري من معبر “باب الهوى”، وستمارس مزيداً من الابتزاز لإدخال المساعدات وتوزيعها انطلاقاً من مناطق سيطرة الأسد، أو لتقايض إدخالها بإدخال مساعدات أكبر إلى مناطقه. في كل الأحوال، تريد موسكو من الأمم المتحدة “والدول المانحة” تحمّل نفقات بقاء الأسد بإنعاشه، والموقف الروسي ليس سياسياً فقط، ولا مرتبطاً بتردي العلاقة مع واشنطن بسبب أوكرانيا؛ إنه في المقام الأول ناجم عن تدهور الاقتصادين الروسي والإيراني وانعكاسه على اقتصاد الأسد.

لا يُستبعد نجاح الابتزاز الروسي، والتهويل بحجمه إعلامياً وسياسياً، أما تأثيره الفعلي فسيكون على الأغلب ضئيلاً جداً، فوق أنه لن يكون مستداماً. ما تطالب به موسكو علناً، وتشاطرها به طهران ضمناً، أن يتبرع العالم بإنقاذ الأسد المنهار اقتصادياً، لكي يبقى معافى تحت سيطرتهما. بل أكثر من ذلك، يطمح الوصيّان إلى مشاريع إنقاذ وإنعاش مبكّر ترجع عوائدها إليهما، بحكم سيطرتهما على مفاصل الاقتصاد السوري.

ما يهمنا في التأكيد على هذا الارتباط أن الأزمة المعيشية الخانقة تحت حكم الأسد سيبقى التخفيف منها مرهوناً بتحسن أحوال الاقتصادين الروسي والإيراني، أما الشروع في حلّ مستدام لها فلن يصبح ممكناً قبل الشروع في حل سوري مستدام. لذا تفتقر إلى الواقعية الشكاوى التي راحت تظهر في مناطق سيطرة الأسد، وترى في الفساد الحكومي سبباً لتردي الأحوال، سواء طاولت الاتهامات الأسد شخصياً أو توقفت عند المستوى الوزاري.

هذه الوضعية هي استكمال لإنهاء القضية السورية، بوصفها قضية مستقلة تتطلب حلاً يراعي أسبابها وجذورها العميقة. فالقضية السورية تم تحويلها، بأدوات سورية أو من دونها، إلى محرد ملفّ من الملفات العالقة بين القوى الخارجية المتنافسة في سوريا. نحن، بسبب ذلك، أمام إنذار شديد القسوة، مفاده استمرار التدهور الحالي، أو تفاقمه، وسط عدم اكتراث القوى المتصارعة التي لا تضع في قائمة أولوياتها البؤس السوري المتفشّي. لدينا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العديد من “الملفات” التي بقيت طويلاً بلا حل، واعتاد العالم بيسر شديد على مناظر البؤس القادمة منها، مما لا يجعلنا نتفاءل بحل قريب لمأساة السوريين. 

بالعودة إلى حقبة سفربرلك، من الملاحظ أن السلطنة العثمانية كانت في طور النهاية عندما تسببت بتلك المجاعة التاريخية، وهذا ليس المثال الوحيد على اللجوء إلى الأسوأ في طور النهاية. الاستثناء السوري الحالي هو في بقاء الأسد الذي تصرف منذ عام 2011 على أنه في طور النهاية، وهو بالمعنى العميق لم يغادر هذا الطور رغم إنقاذه من السقوط. 

أفضل السيناريوهات الواقعية حالياً أن تقدّم الأمم المتحدة مزيداً من المساعدات الإسعافية، على شكل سلال غذائية ودوائية، وهو كما نعلم خيار بلا آثار اقتصادية مديدة. وربما يكون الخيار الوحيد، لأن عودة المساعدات الإيرانية والروسية مستبعدة، أقلّه بالزخم القديم الفعّال نسبياً. مع بقاء خريطة الهيمنة الحالية سياسياً واقتصادياً، لا تصعب على أحد المفاضلة بين احتمالين؛ تلبية مطالب الأسد وحليفيه بإنعاش اقتصاده وإعادة الإعمار بأموال غربية وخليجية، أو عدم الاكتراث جديّاً ببؤس السوريين، واستنتاج أيهما أقرب منالاً.

المدن

——————————–

زيلينسكي في واشنطن:نقاش اكاديمي حول السلام/ بسام مقداد

كانت زيارة زيلينسكي إلى واشنطن حدث الأسبوع، وبدأت الإشاعات عنها ترشح مطلع الأسبوع، ولم تؤكدها واشنطن إلا بعد أن إطمأنت إلى أنه فوق الأطلسي على متن طائرة تابعة للقوات الأميركية في الطريق إليها. وينقل موقع الخدمة الروسية في BBC تفاصيل رحلته في القطار من كييف إلى مطار عسكري في بولونيا، ومن ثم فوق بحر الشمال برفقة طائرة إستطلاع ومقاتلة أميركيتين، تحسباً لما يمكن أن تأتيه الغواصات الروسية التي تجوب هذا البحر. التدابير الأمنية المتشددة لم تتراخ حتى في الولايات المتحدة، فقد نقل الموقع عن مصادر شبكة تلفزة أميركية قولها بأنهم يعرفون جيداً أن لروسيا عملاء في أميركا، وبوسعها أن تجرب “عمل شيئ ما. نحن نعلم ما هو على المحك”. 

لم يكن من المتوقع أن تطول زيارة زيلينسكي إلى واشنطن التي وصلها ظهر الأربعاء في 21 الجاري، وأقفل عائداً الخميس. وتضاربت الآراء حول نتائج الزيارة بين الإعلام الروسي الموالي للكرملين والإعلام الأوكراني. فقد رأت صحيفة الكرملين vz أن “زيلينسكي حصل على قبلة يهودا في الولايات المتحدة”، وأرفقت النص بقبلة رئيسة البرلمان الأميركي نانسي بيلوسي لزيلنسكي، في حين خاطب زيلينسكي الأوكران في طريق عودته قائلاً “نعود بنتائج جيدة من واشنطن” حسب مطبوعة obozrevatel الإلكترونية الأوكرانية. 

ونشرت المطبوعة الأوكرانية عينها في 23 الجاري نصاً بعنوان “كيف ردوا في روسيا على زيارة زيلينسكي لواشنطن”. ونقلت عن الناطق بإسم الكرملين دمتري بيسكوف قوله  بأنه لم ترد في لقاء الرئيسين “دعوات حقيقية للسلام”، ولم تُسمع لا من الرئيس الأميركي ولا من الرئيس الأوكراني كلمات يمكن أن يُفهم منها الإستعداد للإستماع إلى الهواجس الروسية. وكان بيسكوف قد صرح عشية الزيارة بأنه لا ينتظر ما هو إيجابي من زيارة زيلينسكي إلى واشنطن، وأعرب عن شكوكه في أن يتبدل موقف كييف حيال عملية المفاوضات. 

تعدد المطبوعة بالتفصيل ما ستحصل عليه أوكرانيا من أسلحة نتيجة الزيارة، وتقول بان كل هذا لا يرهب روسيا التي فقدت بالحرب الأوكرانية 100 ألف قتيل. وتذكّر بحديث بوتين عن طريقة تعامله مع كل أنواع الأسلحة هذه، وخاصة مع نظام باتريوت المضاد للطيران، وتقول بأنه يسترسل بعد ذلك في أغنية المفاوضات التي تريدها روسيا فقط لتجميد الصراع، وللتشكيك بإندماج أوكرانيا الأوروبي الأطلسي، وحشد جيشه للعودة الى الحرب من جديد. 

وتقول المطبوعة “نحن نعرف كيف “ستدمر” روسيا نظام باتريوت، فإذا صدقنا تقارير وزارة الدفاع الروسية عن عدد ما دمّره الجيش الروسي من أنظمة المدفعية الرشاشة، يتبين أنه تم تدمير أكثر مما حصلت عليه أوكرانيا من هذه الأنظمة. 

الناطقة بإسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا كانت “قليلة الدبلوماسية”، حين وصفت مرتين الرئيس الأوكراني في إيجازها الصحفي ب”إبن العاهرة”. ورأت أنه بسبب موقف الغرب الداعم لأوكرانيا، يتولد لدى زيلينسكي شعور بأن “كل شيء مباح وبدون عقاب”. وقالت المطبوعة بأن زاخاروفا رأت أن زيلينسكي  ليس فقط “إبن عاهرة” الدول الغربية، بل هو أيضاً “أداتها” لمجابهة روسيا. 

موقع إذاعة “موسكو 24” الروسية نشر قبل الزيارة بيوم تعليق السفير الروسي في واشنطن فيتالي أنطونوف على زيارة زيلينسكي. ينقل الموقع عن السفير قوله بأن زيارة زيلينسكي للولايات المتحدة تؤكد أن الكلام الأميركي عن عدم نية الإدارة الأميركية الدخول في مواجهة مع موسكو، هو كلام فارغ. ورأي السفير أن الزيارة تم إخراجها على الطريقة الهوليودية. فعلى وقع التصفيق والإبتسامات الساخرة، تم الإعلان عن ضرورة مواصلة “الحرب بالوكالة” ضد “بلدنا” حتى النصر. ورأى أن الإدارة الأميركية تحشد طاقات وموارد هائلة من أجل تحقيق “الفكرة الجهنمية “النصر على الروس في ساحة المعركة”. وهو واثق من أن لا واشنطن ولا كييف مستعدتان للسلام. 

يحمّل السفير الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن إندلاع الصراع الأوكراني العام 2014. ويرى أن الولايات المتحدة تجاهلت بإصرار، بل تصنعت تجاهل “الجرائم اللاإنسانية” لنظام كييف خلال كل هذه السنوات. وحذر أنطونوف من أن تصرفات الولايات المتحدة ستتمخض عن نتائج “لا يمكن تصورها”. وأشار إلى أنه يقصد وعود بايدن بتزويد كييف بأنظمة الدفاع الجوي باتريوت. 

يشير الموقع إلى أن الرئيسين الأميركي والأوكراني عقدا الأربعاء في 21 الجاري لقاءً ألقى إثره زيلينسكي أمام غرفتي الكونغرس كلمة لمدة نصف ساعة. ويقول بأن الكلمة كانت عبارة عن شعارات عن زعامة الولايات المتحدة، وعن الثقة ب”نصر أوكرانيا”. 

المطبوعة الإلكترونية الأوكرانية المذكورة Obozrevatel نقلت عن وول ستريت جورنال الأميركية في 23 الجاري قولها بأن أوكرانيا ستقدم في شباط/فبراير القادم خطة لإنهاء الحرب. وتنسب الصحيفة الأميركية لخبراء عسكريين قولهم بأن عجز أوروبا عن مد كييف بكمية كبيرة من السلاح، حدّ من قدرة كييف على الرد على روسيا. وتقول أنه وسط الكلام عن الحرب والسلاح لا زال زيلينسكي يعقد الأمل على المفاوضات. وسبق حديث زيلينسكي عن معادلة السلام أثناء زيارته واشنطن مناقشة كييف خطة سلام من 10 نقاط. وتنسب إلى دبلوماسيين أوروبيين وأوكران قولهم بأن فريق زيلينسكي يعكف الآن على تدقيق الخطة، وعازم على تقديم أفكاره في سنوية الغزو الروسي في 24 شباط/فبراير المقبل. 

ومن دون أن تذكر شيئاً عن نقاط الخطة العشر، تقول بأن ممثلي الولايات المتحدة وأوكرانيا والناتو  صرحوا بأن موقف أوكرانيا في أي مفاوضات، سوف يرتبط بموقعها في ساحة المعركة. ولذا تريد كييف الإستعداد لمفاوضات السلام بتحقيق إنتصارات حربية. كما أن روسيا، هي بدورها، تريد تحقيق التفوق في القتال للحصول على موقع تفاوضي أفضل. إلا أن مواعيد أية مفاوضات تبقى مجهولة، وعلى الأرحج لن تحصل قبل أشهر، برأي الصحيفة الأميركية. 

وتقول المطبوعة الأوكرانية أن الولايات المتحدة أفصحت عن ثلاثة سيناريوهات لإنهاء الحرب في أوكرانيا عن طريق المفاوضات، رفض زيلينسكي إثنين منها. وكانت المطبوعة قد تحدثت عن السيناريوهات المذكورة في 22 الجاري، وتنقل عن واشنطن بوست قولها بان لكل واحد من السيناريوهات أنصاره في الإدارة الأميركية.

أحد السيناريوهات تضمنته خطة السلام التي تقدم بها زيلينسكي الشهر المنصرم، ويفترض إنسحاب روسيا من جميع الأراضي التي تحتلها الآن، بما فيها القرم ومناطق شرق الدونباس التي إحتلها الكرملين العام 2014. السيناريو الثاني يفترض الإنسحاب إلى خطوط العام 2014، بينما الثالث يفترض إنسحاب القوات الروسية، بما فيها الدونباس، لكن من دون القرم. 

السيناريوهان الأخيران لم يحظيا بتأييد زيلينسكي، وهو يرى أن السلام لا يمكن أن يحل إلا بعد أن ينسحب الروس من جميع الأراضي المحتلة. وتنقل الصحيفة الأميركية عن مسؤول أميركي رفيع المستوى قوله بأن بايدن أراد خلال لقائه الشخصي مع زيلينسكي أن يسمع رأيه الحالي كيف ينبغي أن يكون الحل. واعترف في الوقت عينه أن الحديث هو “نوع من النقاش الأكاديمي”، وذلك لأن ليس من إشارات إلى أن روسيا معنية بالحوار. وهي تريد كسب الوقت، بعد أن عجزت عن صد الهجوم الأوكراني المضاد. 

تنقل واشنطن بوست عن مسؤول أميركي رفيع قوله بأنه كان من المهم أن يستخدم الرئيس الأوكراني “الكاريزما الشخصية” لإقناع البرلمانيين الأميركيين بأن هذا هو فعلاً نضال من أجل الديموقراطية. أما زيلينسكي فكان هدفه يتمحور حول الدعوة لتزويد أوكرانيا بسلاح أقوى لشن عمليات هجومية أكثر. 

المدن

———————–

زيلينسكي عاد من واشنطن ب”نتائج جيدة”..وبوتين:سنجد مضاداً لنظام “باتريوت”

اعتبر الكرملين الخميس أن زيارة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى الولايات المتحدة لم تظهر “أي نية للإصغاء للمخاوف الروسية”، بينما قال الرئيس فلاديمير بوتين إنه يريد إنهاء النزاع في “أسرع” وقت ممكن.

وفي طريق عودته إلى بلاده، التقى زيلينسكي نظيره البولندي أندريه دودا قبل أن يصل إلى أوكرانيا بعد بضع ساعات.

وقال في تسجيل مصور من بولندا: “عدنا من واشنطن بنتائج جيدة. بشيء سيساعد حقاً”، في إشارة إلى نظام “باتريوت” الأميركي لاعتراض الصواريخ الذي كانت كييف تطلبه منذ أشهر.

من جانبه، قلّل الرئيس الروسي من فعالية هذا “النظام القديم”. وأضاف بوتين “خصومنا يعتبرون أنه سلاح دفاعي. حسناً، سنضع ذلك في الاعتبار. هناك دائما (سلاح) مضاد”.

وتابع: “ما يفعله هؤلاء لن يجدي نفعاً، فهو يطيل فقط أمد النزاع، ذلك كلّ ما في الأمر”، مؤكداً في الآن نفسه أنه يريد إنهاء الحرب في أوكرانيا في أسرع وقت، وقال: “سنسعى جاهدين لإنهائها. وكلما كان ذلك أسرع فهو أفضل بالطبع”.

من جهته، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف “حتى الآن نلاحظ بأسف أن الرئيس (الأميركي جو) بايدن والرئيس زيلينسكي لم يقولا أي شيء يمكن اعتباره نية محتملة للاصغاء للمخاوف الروسية”.

وأضاف بيسكوف أنه لم تُسمع خلال الزيارة “دعوات حقيقية من أجل السلام” أو “تحذيرات” أميركية لزيلينسكي من “مواصلة قصف مبان سكنية في بلدات وقرى منطقة دونباس” الواقعة في شرق أوكرانيا والتي يسيطر على أجزاء منها انفصاليون موالون لروسيا.

في المقابل، اعتبر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن “اليوم بشكل أساسي، لم تظهر روسيا أي اهتمام (بالانخراط) في دبلوماسية جدية” لإنهاء الحرب.

وكان الكرملين قد حذّر الأربعاء، يوم زيارة زيلينسكي للولايات المتحدة، من أن إرسال مزيد من الأسلحة الأميركية إلى أوكرانيا لن يؤدي إلاّ إلى “مفاقمة” النزاع.

وتتعرض روسيا لانتكاسات ميدانية كبيرة في الأشهر الأخيرة، ورداً على ذلك، لجأت اعتباراً من تشرين الأول/أكتوبر إلى تكتيك القصف المكثّف للبنية التحتية الأوكرانية، وحرمان ملايين الناس من الكهرباء والمياه والتدفئة في خضمّ فصل الشتاء.

وقد أثر ذلك خصوصاً على العاصمة كييف حيث ظلّ وضع الكهرباء “صعبًا” الخميس، بحسب رئيس الإدارة العسكرية للمدينة سيرغي بوبكو.

مجموعة فاغنر

في السياق، أكدت واشنطن الخميس، أن مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية الموجودة في أوكرانيا، تلقت “الشهر الماضي” شحنة أسلحة من كوريا الشمالية، وحذّرت من أن تصبح قريباً “منافساً” قوياً للجيش النظامي الروسي في ظل خسائره المتفاقمة.

وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن وزير الدفاع سيرغي شويغو أجرى جولة تفقّد للمواقع الروسية في أوكرانيا، من دون تحديد مكانها أو تاريخها.

واعتبر شويغو أن الجيش الروسي يقاتل “قوات الغرب مجتمعة”، وكشف أن موسكو تعتزم إقامة قواعد لدعم أسطولها في مدينتي ماريوبول وبيرديانسك المحتلتين في جنوب أوكرانيا.

وكان وزير الدفاع الروسي قد زار منطقة “العمليات الخاصة” قبل أيام قليلة، في مؤشر إلى رغبة موسكو في تعزيز رقابتها على عسكرييها هناك.

———————————

المفاوضات الروسية – الأوكرانية بين الواقع والمأمول/ سامي عمارة

ضرورة الحوار الروسي – الأميركي ووقف ما يطرحه الجانبان من شروط مع كل يوم جديد

عادت فكرة المفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني إلى ما هو أشبه بالطريق المسدود، فبينما عاد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، مدعوماً باستقبال “أسطوري” في البيت الأبيض والكونغرس الأميركي، إلى المغالاة في شروطه، بإضافة شرط العودة إلى خطوط 1991 (تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي)، ودفع التعويضات وتقديم الضمانات اللازمة لحماية أمن واستقلال وسيادة أوكرانيا، أعلن نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن استعداد موسكو للجلوس إلى مائدة المباحثات من دون قيد أو شرط، لكن بوتين أشار في الوقت نفسه إلى ضرورة مراعاة الواقع الراهن على الأرض، بما يعني الانطلاق من واقع ما استولت عليه موسكو من أراضٍ، سواء قبل 24 فبراير (شباط)، موعد بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أو ما قبل هذا التاريخ، في إشارة إلى ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا في 2014.

مساحات الخلاف بين الجانبين لا تزال عميقة، ومن دلالاتها ما يقول باستحالة التوصل إلى الهدف الذي ينشده كل من الجانبين، فضلاً عما يضيفانه من شروط، مع كل يوم جديد، لكن هناك من مفردات الواقع الراهن، وما يتراءى بين ثنايا التطورات الجارية، ما يشير أيضاً إلى أن هناك ما يمكن الانطلاق منه صوب “إجلاس” الأطراف المتحاربة إلى مائدة المباحثات.

فالرئيس بوتين أعلن صراحة عن استعداد بلاده إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات، والرئيس زيلينسكي سبق ووافق على ما توصل إليه وفده الأوكراني في إسطنبول من نتائج في المباحثات التي جرت مارس (آذار) الماضي مع نظيره الروسي تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

يذكر المراقبون أن تلك المباحثات توصلت آنذاك إلى موافقة الجانب الأوكراني على التخلي عن فكرة الانضمام إلى “الناتو”، ونشر الأسلحة الاستراتيجية في أراضي أوكرانيا، وحتى فاجأ زيلينسكي المنطقة والعالم بالتراجع عن هذا الاتفاق، معلناً عن شروطه “التعجيزية” حول ضرورة العودة ليس فقط إلى حدود ما قبل 24 فبراير الماضي، بل وإلى حدود عام 1991 تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.

وكانت نتائج إسطنبول يمكن أن تحول من دون ما جرى لاحقاً من تطورات، منها ضم روسيا للمناطق الأوكرانية الأربع، فضلاً عن تفادي كل ما لحق بالجانبين من دمار وخراب وضحايا بشرية هائلة.

تباين الرؤى والمواقف

الواقع الراهن يقول بتباين الرؤى والمواقف تجاه مدى استمرارية الحرب، والقدرة على تنفيذ كل من الطرفين لما يرومه من أهداف، وها هو زيلينسكي يعود من واشنطن منتشياً بما جرى من استقبال “أسطوري”، نجح هو شخصياً وبحكم نشاطه السابق كفنان ومنتج مسرحي، في وضع ما يريده من لمسات فنية، لإضفاء أكبر قدر من لمحات الإثارة والإبهار، ليزيد من تشدده وإصراره على التمسك بمواصلة القتال.

ومن هذه اللمحات مشهد تقديمه للعلم الأوكراني ممهوراً بتوقيعات عدد من المقاتلين على جبهة القتال الروسية – الأوكرانية، في أعقاب كلمته التي ألقاها بالكونغرس الأميركي، إلى جانب ما حرص على اختياره من مفردات، على غرار “أن ما تقدمه الولايات المتحدة لأوكرانيا من دعم مالي وعسكري ليس صدقة، بل هو استثمار في مجال دعم الديمقراطية والأمن العالمي”.

وكان زيلينسكي، وتعليقاً على ما قاله جو بايدن حول أن الرئيس الأوكراني “منفتح على تحقيق السلام” في أوكرانيا، تعمد الإعلان عن موقفه من المباحثات مع موسكو بتأكيد “عدم رغبته في تقديم تنازلات لتحقيق “سلام عادل”. وقال “إن العالم عادل بشكل مختلف بالنسبة لنا جميعاً، بالنسبة إلي كرئيس السلام العادل ليس حلاً وسطاً على أرضنا وسلامة أراضينا وسيادتنا، وهذا هو أهم شيء”. أضاف، “أنه ولتحقيق السلام يريد أيضاً تعويضاً عن الخسائر التي لحقت بأوكرانيا”.

أما عن ردود الأفعال في موسكو، فثمة من يقول إن ذلك كله، بما فيه ما قررت الإدارة الأميركية إرساله إلى أوكرانيا من أسلحة حديثة ومنظومات “باتريوت” التي قال الرئيس بوتين إنها “منظومات قديمة تعرف روسيا كيفية التعامل معها”، لن يحول دون ضرورة الجلوس إلى المباحثات، سعياً وراء التوصل إلى الأهداف المنشودة.

وبقدر يتسم بكثير من الاستخفاف، استقبلت موسكو الرسمية ما قاله زيلينسكي حول “أن انسحاب القوات الروسية إلى حدود عام 1991 هو السبيل الوحيد لوقف الحرب، وأن الفرق الوحيد الذي يتحدث عنه هو ما إذا كنا سنطردهم، أم أنهم سينسحبون من تلقاء أنفسهم، إذا تراجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الآن إلى حدود عام 1991، فسيبدأ مسار الدبلوماسية المحتمل”.

القول الفصل

وكانت موسكو قد كشفت غير مرة عن أن “القول الفصل” في شأن الموقف من استمرار القتال يتوقف بالدرجة الأولى على قرار الإدارة الأميركية.

ولتأكيد ذلك أعادت المصادر الروسية إلى الأذهان ما كشف عنه كثير من موفدي واشنطن إلى كييف من مواقف، بما في ذلك في معرض الاتصالات الثنائية، السرية منها والمعلنة مع الجانب الروسي، ومنها ما جرى في أنقرة بين جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي وسيرغي ناريشكين رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

كما أكد مراقبون كثيرون في موسكو وغيرها من العواصم العالمية أن المباحثات الروسية – الأوكرانية، لا بد أن تكون مسبوقة بحوار روسي – أميركي يحدد الموقف من المباحثات التي يجب أن تبدأ من دون أية شروط مسبقة.

وبغض النظر عن تباين مواقف وتصريحات الجانبين من هذه المباحثات، إلا أن هناك في موسكو من يبدو على يقين من حتمية هذه المباحثات التي قال بوتين إنها مآل أية صراعات أو مواجهات عسكرية.

رؤية معقولة للواقع

كما نقلت وكالة أنباء “تاس” عن غريغوري كاراسين رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد، ما قاله حول “أن المسؤولين الأوروبيين والأميركيين، ممن لديهم رؤية معقولة للواقع، ويراودهم القلق في شأن صراع شامل محتمل مع روسيا، سيجبرون زيلينسكي على التفاوض مع روسيا، إن عاجلاً أو عاجلاً”.

وفسر كاراسين ما خلص إليه أمس (23 ديسمبر)، بقوله “إن هؤلاء السياسيين الأميركيين القلائل قلقون من احتمال حدوث صدام كبير مع روسيا”.

وفي تلميح يرقي حد التصريح، قال كاراسين إنه “على يقين من وجود مخاوف خاصة واضحة لدى الدول الأوروبية التي في الطليعة، وقد تكون معرضة بشكل مباشر للأعمال العدائية، إنهم يفهمون هذا جيداً، لأن استراتيجيي كييف الحاليين ليس لديهم رأس”، على حد تعبيره. وذلك ما قد يفسر ما أصدره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من بيان قال فيه “إن انضمام أوكرانيا إلى الناتو سيكون خطوة صوب المواجهة ضد روسيا”.

وكان ماكرون أكثر وضوحاً لدى تفسير موقف بلاده من الأوضاع الراهنة، بما قاله في معرض حديثه إلى صحيفة “لوموند” الفرنسية، حول “أن روسيا تنظر إلى انضمام أوكرانيا إلى (الناتو) بوصفه (أمراً تصادمياً)، على رغم أنه هو نفسه لا يعتبر سيناريو قبول كييف في الحلف أكثر احتمالاً”.

كما أعاد الرئيس الفرنسي تأكيده على ضرورة أن تشمل استراتيجية الأمن والاستقرار في أوروبا ضمانات أمنية لروسيا وأوكرانيا وبقية جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

إطالة أمد الحرب

ومن الواضح في هذا الصدد، بل ومن المؤكد أن هناك من يظل صاحب مصلحة مباشرة في إطالة أمد الحرب والمواجهة التي تلقي بإسدالها على مختلف جوانب العلاقات الإقليمية والدولية، وذلك ما تبدو شواهده في تذبذب وارتباك حركة الاتصالات واللقاءات التي تتوالى منذ ما قبل اندلاع “العملية العسكرية الروسية الخاصة” التي كشفت موسكو الرسمية عن أنها استبقت بموعدها في 24 فبراير الماضي، ما كان ينتوي الجانب الأوكراني بدعم مباشر من جانب بلدان (الناتو)، شنه من عمليات عسكرية في الثامن من مارس (آذار) من العام الحالي.

ومن هنا يجرى تفسير المواقف المتضاربة من “المباحثات الروسية – الأوكرانية” التي لا يتوقف الحديث عنها منذ بدايات المواجهة العسكرية بين الجانبين.

وثمة ما يشير إلى أن المستفيدين من إطالة أمد الصراع والمواجهة المسلحة يبدون أكثر الأطراف حرصاً على التصريح بالشيء ونقيضه، وذلك يبدو واضحاً فيما يصدر من تصريحات تدعو إلى المباحثات وتبحث ظروف إجرائها، وكل ما يتعلق بموضوعاتها، في الوقت نفسه الذي يعود فيه أصحابها إلى ما ينثرونه من عراقيل على طريق بدء هذه المباحثات، من خلال ما يقدمونه من دعم مالي وعسكري، وما يقومون به من تدريبات للأوكرانيين والمتطوعين، تمهيداً للدفع بهم إلى أتون العمليات القتالية، فضلاً عن توالي الإدلاء بالتصريحات التي تتضمن مع كل يوم جديد مزيداً من الشروط التي تفرغ مجمل أهداف المباحثات من محتواها.

فما أن تحول الرئيس الأوكراني إلى طرح مزيد من شروطه، ومنها العودة إلى حدود 1991 بدلاً من 23 فبراير (شباط) 2022، حتى تحول الجانب الروسي أيضاً إلى إعلانه عن أنه “لن يتم إجراء مفاوضات جادة في شأن الضمانات الأمنية طالما بقي مدربون ومرتزقة (الناتو) في أوكرانيا، وحتى يتم التعرف على الحقائق التي تحددها روسيا على الأرض”.

وقف الأسلحة والأموال

ونقلت وكالة “تاس” عن مدير إدارة أميركا الشمالية ألكسندر دارشيف ما أشار إليه حول أنه من السابق لأوانه بدء أي مفاوضات جادة في شأن الضمانات الأمنية المرتبطة بأوكرانيا وأوروبا الأطلسية قبل “وقف ضخ الأسلحة والأموال لنظام زيلينسكي، وسحب الأفراد العسكريين من المرتزقة والمدربين الأميركيين وحلف شمال الأطلسي، والاعتراف بالحقائق التي حددناها على أرض الواقع”.

وفي حديثه إلى وكالة “تاس” أعاد المسؤول الدبلوماسي الروسي إلى الأذهان ما سبق وقدمته موسكو من وثائق إلى الإدارة الأميركية و”الناتو” منذ ما يقرب من العام، في شأن ما تطلبه من ضمانات أمنية، فضلاً عما أشار إليه أيضاً حول تعمد الأوساط الغربية خداع الجانب الروسي من خلال المماطلة وعدم تنفيذ “اتفاقيات مينسك”، إلى حين إعداد القوات المسلحة الأوكرانية وتدريبها على ما قدمته بلدان “الناتو” من أسلحة ومعدات حديثة، استعداداً لما يشهده العالم اليوم من مواجهات عسكرية في المنطقة.

وقال دارشيف إن ذلك يدعو موسكو إلى طرح شروطها حول “ضرورة وقف إمدادات الأسلحة وتحويل الأموال إلى كييف”.

——————————–

=================

تحديث 28 كانون الأول 2022

———————-

هل من حلّ في أوكرانيا؟ وماذا عن سورية؟/ عبد الباسط سيدا

المقارنة بين الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب التي شنتها السلطة الأسدية على السوريين المناهضين لاستبدادها وفسادها وإفسادها مشروعة، بل وضرورية. ويمكن إجراء هذه المقارنة من جهة الأسباب والأبعاد والمواقف الدولية والإقليمية والمحلية، إلى جانب التبعات والنتائج المباشرة والمستقبلية، المنظورة منها والمحتملة.

من بين الأسباب التي تجمع بين الحربين الاصطدام العنيف بين نزوع المستبد نحو التحكّم والسيطرة؛ ورغبة الضحايا في الحرية والكرامة ومستقبل أفضل للأجيال المقبلة. وما يضفي أهمية خاصة، إن لم نقل جاذبية، على هذه المقارنة، العامل الروسي المشترك بين الوضعين الأوكراني والسوري، فروسيا في الحالة السورية ساندت سلطة بشار الأسد عسكريا منذ البداية، وغطّتها سياسياً في مجلس الأمن، وعملت على المستوى الإقليمي لتأمين الحماية للسلطة المعنية عبر التعاون مع إيران، وإدخال المليشيات التابعة لهذه الأخيرة إلى سورية، وعقد التفاهمات، في الوقت ذاته، مع الجانب الإسرائيلي، وتقديم الضمانات المطلوبة منه. وأذكر في هذا المجال أنّنا في لقائنا مع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافرورف، في صيف عام 2012 ضمن إطار وفد المجلس الوطني السوري، قلنا له صراحة: إنّ روسيا تتحمّل المسؤولية الأخلاقية والقانونية في تزويد سلطة بشار الأسد بالأسلحة التي تقتل السوريين… وكان جوابه أنّهم يلتزمون بالعقود القديمة. فكان ردّنا عليه: ولكنّ بشار الأسد اليوم يخلّ بتلك العقود، فهو يستخدم هذه الأسلحة لقتل السوريين، لذلك لا بد من إعادة النظر في الموضوع… ولم نحصل سوى على الصمت جواباً. 

لم يبدأ التزام موسكو بالمحافظة على سلطة بشار مع التدخل العسكري الروسي المباشر الذي كان في 2015، وإنما منذ اليوم الأول لثورة السوريين على السلطة المستبدّة الفاسدة المفسدة، بل ربما قبل ذلك وهذا هو الأرجح. في حين أنّ مجموعة أصدقاء الشعب السوري اكتفت بالشعارات، وبدعم مادي وعسكري محدوديْن لم يسهما في أيّ تغييرات نوعية على أرض الواقع. وفي هذا السياق، قد تكون مفيدة الإشارة إلى زيارتنا في خريف عام 2011 إلى نيويورك ضمن وفد المجلس الوطني السوري، حيث أجرينا لقاءات مع دول شقيقة وصديقة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان لنا لقاء مع سوزان رايس التي كانت مندوبة الولايات المتحدة في المنظمة الدولية. وتبين لنا أنّ الإدارة الأميركية لم تكن مستعدة لتقديم الدعم المطلوب للسوريين، رغم تصريحات كانت تُؤكّد ضرورة احترام إرادة السوريين وتطلعاتهم. مع العلم أنه كان قد مضى، حينئذٍ، على انطلاقة المظاهرات والاعتصامات السلمية في مختلف المدن والبلدات السورية نحو ثمانية أشهر تقريباً، تعرّض خلالها المتظاهرون للقتل والاعتقال؛ كما ارتُكبت جملة مجازر بغرض إرهاب الناس، وثنيهم عن التفاعل مع الثورة. وكان من الواضح أن الاستراتيجية المعتمدة من النظام تركّز على إلصاق تهمة الإرهاب بالثورة، وتشكيل انطباع زائف لدى الراي العام السوري والعربي والدولي مفاده بأن ما يجري في سورية إنما هو صراع بين السلطة “العلمانية حامية الأقليات” و”مجموعة من المتطرّفين الاسلامويين”، وذلك لوضع العالم أمام خيارين فاسدين: الاستبداد والاستقرار المفروض بالحديد والنار، أو الإرهاب المصطنع والفوضى الوظيفية المنظمة.

شرحنا لرايس مضمون استراتيجية السلطة الأسدية، وبيّنّا لها أنّ لدى هذه السلطة تجربة طويلة في ميدان استخدام سلاح الجماعات الإرهابية لتسويق نفسها ضحية الإرهاب؛ وهي سلطة خبيرة بتقديم نفسها، في الوقت ذاته، قادرة على مواجهة الإرهاب وتفكيكه. وكان رأينا أنّ مثل هذا الإرهاب سيجد التربة الخصبة طالما أن السلطة مستمرّة في ممارسة القمع المتوحش بحق السوريين، والمجتمع الدولي مستمرٌّ في صمته اللافت؛ لا يحرّك ساكنأ في مواجهة ما يتعرّض له السوريون. 

وفي لقاءات أخرى مع مسؤولين أميركيين وأوروبيين، أكّدنا مراراً وتكراراً أن ما يحصل في سورية سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار والأمن الإقليميين، فسورية دولة مفتاحية في المنطقة، وما يجري فيها يؤثر مباشرة في العراق ولبنان ومنطقة الخليج. واستمرّ التصعيد، كما استمر تجاهل المخاطر، وحصل الروس في سورية على دور محوري عبر التفاهم مع الغرب وإسرائيل والإيرانيين. مع العلم أن روسيا، في ذلك الحين، لم تكن قد أصبحت روسيا التي أرادت ابتلاع أوكرانيا في أيام، ولا التي تطالب اليوم بنظام عالمي جديد ، تحظى فيه إلى جانب الأنظمة الاستبدادية الأخرى بدور فاعل في مختلف بقاع العالم.

ولبلوغ ذلك، لم تكتف روسيا  بدعم الأنظمة الاستبدادية وحدها، بل شجّعت أيضا التيارات اليمينية المتطرّفة في الغرب ودعمتها، وراهنت، وتراهن، على الثغرات التي تعاني منها الأنظمة الديمقراطية، خصوصا في أجواء تنامي النزعة الشعبوية، وغياب القادة الأوروبيين ممن كانوا يجسّدون في مواقفهم وسياساتهم مبادئ إنسانية، ويشدّدون على أهمية ضمان مقوّمات العيش الكريم لسائر الناس من دون أي تمييز.

واستمرّ قتل السوريين وتهجيرهم، وتوجهت قوافل المهاجرين قسراً نحو أوروبا، الأمر الذي أدّى إلى تداعيات سياسية داخلية، نجم عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإلى تنامي النزعات اليمينية المتطرّفة في إيطاليا وفرنسا والمجر والسويد وغيرها. وأعلنت التيارات المعنية بوضوح عن مواقفها المناهضة لتزايد عدد المهاجرين، كما ارتفعت حدّة الإسلاموفوبيا التي استفاد مروّجوها من ممارسات (وتصريحات) مهاجرين ممن اعتمدوا الإسلاموية أداة تعبوية في أوساط المهاجرين المسلمين في الدول الغربية. 

وجاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتكشف عن نزوع واضح لدى حكم بوتين نحو محاولة استعادة تحكّم روسيا بالدول التي تعتبرها ضمن دائرة مجالها الحيوي، وفي المقدمة منها أوكرانيا. ولكن ما حصل في أوكرانيا أن بوتين أصطدم بموقف غربي متماسك قوي رافض لمشروعه الإمبراطوري. وقد تجسّد الموقف الغربي هذا في نهج فرض العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا، وتزويد أوكرانيا بأحدث أنواع الأسلحة والتقنيات الضرورية، والمعلومات الاستخباراتية، والدعم المالي الضخم، لتكون قادرة على مواجهة الغزو الروسي، والصمود أمامه؛ على عكس ما كان عليه الحال في سورية. وبعد أشهر من الضغط الروسي المستمر، تغيرت الموازين على الأرض، واستعاد الأوكرانيون عبر الهجمات المعاكسة مساحاتٍ واسعة من أراضيهم التي كان الجيش الروسي قد احتلها وضمّها بأساليب استفزازية عنجهية، الأمر الذي أثار تساؤلات كثيرة بشأن إمكانات روسيا الفعلية، ومدى تحمّلها عمليات الاستنزاف التي تعرّضت، وتتعرّض، لها.

ولتجاوز نتائج تراجعاته، لجأ بوتين إلى تكتيك آخر سبق له أن جرّبه في الشيشان وسورية، تكتيك التدمير والترويع باستخدام الصواريخ والطيران. وفي إطار هذا التكتيك، جاء قرار تعيين الجنرال سيرغي سوروفيكين قائداً للقوات الروسية في أوكرانيا، وهو الذي عُرف باعتماده العنف المتوحش في سورية، وقبلها في الشيشان. ولم يكتف بوتين بذلك، بل دعا أيضاً إلى الاستفادة من خبرة العسكريين الذي كانوا في سورية، وهدّد باستخدام صواريخ فتاكة جديدة، وأشاد بالمسيّرات الإيرانية. وقد ألحقت الحرب الروسية على أوكرانيا، وستلحق إذا ما استمرّت، أشد الأضرار بالشعبين الأوكراني والروسي، بل والشعوب الأوروبية وشعوب العالم بأسره نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وانعكاسات ذلك على مختلف أوجه الحياة. ولذلك من الأفضل للجميع البحث سريعاً عن الحلول الممكنة التي من شأنها وضع نهاية واقعية لهذه الحرب المدمرة.

هل سيرضخ بوتين، في نهاية المطاف، لمنطق العقل، ويبدي استعداده الفعلي للإسهام في الوصول إلى حلٍّ ينهي محنة الشعبين، الروسي والأوكراني، ويطمئن الشعوب الأوروبية، ويبعد البشرية عن هواجس أفظع الكوارث، خصوصاً بعد ظهور إشارات أوحت باحتمالية وجود مقترح أوكراني للحلّ الممكن مع روسيا، ربما حمله معه الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، إلى واشنطن في زيارته قبل أيام؛ وهي إشارات تتكامل مع تصريحات أميركية سابقة عن استمرارية الاتصالات مع الجانب الروسي بخصوص الموضوع نفسه، وحتى مع تصريحاتٍ ضبابيةٍ روسيةٍ في الموضوع ذاته؟ هذا رغم الوعود الأميركية بتقديم مزيد من الأسلحة النوعية لأوكرانيا، بما فيها منظومة الباتريوت، ومزيد من الدعم المالي، إلى جانب وعود دول مجموعة السبع، وذلك مقابل التهديدات الروسية التي توحي بالإحباط قبل أي شيء آخر، باستخدام أنواع متطوّرة جداً من الأسلحة الفتاكة ضد الأوكرانيين، والتلويح حتى بالأسلحة النووية التكتيكية.

كشفت الحرب الروسية على أوكرانيا، التي تقترب من نهاية عامها الأول، عن عقد كثيرة مكبوتة لدى الجانب الروسي الذي يشعر بالتضاؤل المستمر في حجمه ودوره مقابل التماسك الغربي، وتنامي النزعة البراغماتية في الجانب الصيني الذي من الواضح أنه اكتشف أن سر قوته يكمن في مد الجسور الاقتصادية والثقافية بعيداً عن الحروب التدميرية التي تهدّد بتحويل كلّ الإنجازات الحضارية إلى كومةٍ من الرماد في طرفة عين.

وتبقى الأسئلة المشروعة: ما موقع سورية من أي اتفاق محتمل حول الموضوع الأوكراني؟ وماذا عن خطر النظام الإيراني المستمرّ على دول المنطقة وشعوبها، بل على الشعب الإيراني نفسه، بعد أن تبين للعالم أجمع أبعاد الدور الإيراني في دعم العدوان الروسي على أوكرانيا؟ هل سيُنظر إلى الحرب الروسية على أوكرانيا بأنّها من نتائج تجاهل العالم لعدوانها على الشعب السوري؟ أم سيستمر التجاهل ليستمر العدوان؟ أسئلة مفتوحة تلخص مخاوف (وتطلعات) شعوب المنطقة التي عانت الأمرّين من الصراعات والحروب وقتامة المستقبل.

العربي الجديد

————————–

عن نهاية الحرب الروسية في أوكرانيا/ مهند الحاج علي

إذا كانت جائحة “كوفيد 19” أو كورونا طبعت عامي 2020 و2021، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا، والتدخل الغربي لمصلحة الأخيرة، العلامة الفارقة للعام الحالي الذي يُشارف على نهايته غير السعيدة غالباً. ذاك أن الحرب تركت أثراً ليس بالهين على اقتصاد العالم بعدما أصابته الجائحة في مقتل، مع انعكاسات لا بد منها على السياسة مع صعود قوى شعبوية على اليمين واليسار.

لكن مواجهة الحرب، وعلى عكس الجائحة، تقع ضمن عالم السياسة، أي بالإمكان معالجتها، نظرياً على الأقل، من خلال مقاربة مختلفة عن السائد. من وجهة النظر السائدة غربياً، كان غزو أوكرانيا يتطلب موقفاً حازماً وموحداً للجم طموحات الرئيس فلاديمير بوتين، وتحديه الأمن الأوروبي. صحيح أن روسيا ترى أوكرانيا خاصرة رخوة على حدودها، لكن الأمر نفسه ينسحب على الاتحاد الأوروبي. بالنسبة للسياسيين الأوروبيين والى حد ما في الولايات المتحدة، ماذا يمنع بوتين من التمدد باتجاه دول أوروبية أخرى كبولندا والبلطيق بحجج مماثلة على ارتباط بالأمن القومي الروسي؟ وكيف بإمكاننا التمييز بين تهديد الأمن القومي الروسي، والرغبة البوتينية في استعادة الأمجاد الإمبراطورية وزمن التوسع السوفييتي؟ من المطلوب كسياسة دفاعية أوروبية وضع حد لهذا التمدد الروسي بشكل مبكر، ويُفضل أن يحصل ذلك في أوكرانيا، وليس في دول الاتحاد الأوروبي نفسه.

في المقابل، في الداخل الروسي هناك مخاوف مماثلة على ارتباط بتمدد الحلف الأطلسي وما يطرحه من تحديات للأمن الروسي، سيما أن لأوكرانيا أهمية استراتيجية لارتباطاتها الثقافية المتعددة مع روسيا. وهذا ينسحب كذلك على جورجيا ودول أخرى في المحيط الروسي شهدت تمدداً للنفوذ الأميركي والأوروبي غداة سقوط الاتحاد السوفييتي.

لكن وفي موازاة هذين المنطقين والتوجهين في السياسة، تبرز اليوم مطالب بفتح كوة في الجدار. طبعاً المطالب ليست في روسيا حيث الفضاء السياسي مُغلق وهو حكر على فريق الرئيس بوتين، بل في العالم الغربي حيث تتعدد الآراء والمواقف حيال النزاع الحالي.

لكن كيف بإمكان الغرب اجتراح سياسة مختلفة تضمن نهاية للحرب لا تُهدد الأمن الغربي ولا السيادة الأوكرانية، وتُلاقي قبولاً لدى روسيا التي تتعاطى مع النزاع الآن بصفته مواجهة وجودية؟ هذا سؤال ليست إجابته بالسهلة، بل معقدة وتتطلب استعداداً سياسياً، ومقدمات وأدواراً دبلوماسية، ربما كانت من بينها الوساطات الناجحة لإيجاد حل مقبول لصادرات القمح الأوكراني.

في العدد الأخير من مجلة “فورين أفيرز” الأميركية المتخصصة بمجال العلاقات الدولية، نُشرت 3  مقالات (بأقلام ليانا فيكس ومايكل كيماج، فلاديسلاف زبوك، ودوغلاس لندن) تُطالب بمقاربة مختلفة لا تقتصر على القوة المحض (والمقصود فيها المساعدات العسكرية لأوكرانيا) بل تدمجها مع الدبلوماسية وفتح كوة في جدار المواجهة عبر توفير مسارات لانهاء الحرب بشروط تفضيلية للغرب لكن مع حوافز لروسيا مثل رفع العقوبات وضمانات أمنية متبادلة.

من الواضح أيضاً أن شروط الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي للحل كذلك تعجيزية وتتطلب هزيمة روسية شاملة على كامل الأراضي الأوكرانية وتعويضات مالية هائلة ومحاكمات للمسؤولين الروس، علاوة على عضوية لكييف في الناتو والاتحاد الأوروبي. هذا كذلك ما تُطالب فيه الكتلة الشرقية في الاتحاد الأوروبي بقيادة بولندا ودول البلطيق (استونيا مثالاً). لكن هذا الموقف مخالف للمنطق العسكري والسياسي الذي عبر عنه بوضوح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي الشهر الماضي حين قال إن من الصعب الانتصار بالحرب عبر وسائل عسكرية فقط، واقترح بدلاً من ذلك الدخول في محادثات سلام هذا الشتاء. وقارن الوضع الحالي مع الحرب العالمية الأولى حين أدى رفض الدخول في مفاوضات الى موت ملايين البشر بلا طائل، لافتاً الى عدم اقتناص الفرصة الحالية يعني رفع مستوى المعاناة بلا طائل.

يبقى أن هذا المنطق مرفوض اليوم سياسياً في أوروبا والولايات المتحدة على حد سواء، لا بل ربما يتطلب تغييراً في القيادة، أو خرقاً فيها عبر ارتفاع كلفة هذا الخيار من أجل تحققه. ذلك أن كل طرف يُحاول تحصيل أكبر قدر ممكن من التقدم على الأرض لتعزيز موقفه في المحادثات، وهذا طبعاً كفيل باستدامة المواجهة. ولكن البدء بالمفاوضات يبدو مستعصياً اليوم، ناهيك عن انهائها بحل مقبول لكل الأطراف، لهذا قد نشهد تصعيداً أوسع على الأرض، قصفاً وتقدماً وبالمواجهات، قبل نضوج خيار التفاوض سياسياً. لكن وكما قال ميلي، سترتفع كلفة المعاناة البشرية نتيجة هذا الخيار، لكن متى كانت هذه الآلام عنصراً فاعلاً في الحسابات الدولية والاستراتيجية؟

المدن

————————–

في روسيا يطالبون بمحاكمة بوتين/ بسام مقداد

الخميس المنصرم في 22 الجاري، وفي حديث مع صحافيي الكرملين، سمى بوتين حربه على أوكرانيا “حرباً” وليس “عملية عسكرية خاصة”. المسؤولون الأميركيون إعتبروها زلة لسان، لكنهم طالبوه بالإعتراف بالواقع كما هو ووقف حربه على أوكرانيا. الإعلام الأوكراني الذي تحرص غالبيته على التحدث بالروسية إلى جانب الأوكرانية، اعتبرها مراوغة لمواجهة نتائج زيارة زيلينسكي إلى الولايات المتحدة وعودته بوعود بتلقي نوعية أكثر تقدماً من السلاح، وفي طليعتها أنظمة الدفاع الجوي باتريوت. أما إعلام بوتين فتجاهل الأمر كلياً، وركز على حديث بوتين مجدداً عن أهداف حربه على أوكرانيا، والتي تبدلت أكثر من مرة طيلة فترة الحرب. 

موقع الخدمة الروسية في BBC، وفي تعليق على كلام بوتين، نشر نصاً نقل عنوانه عن كلام وزارة الخارجية الأميركية بالقول “الخطوة التالية في الإعتراف بالواقع ـــــــ وقف الحرب وسحب القوات”. قال الموقع أنهم في روسيا يسجنون أولئك الذين يسمون “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا حرباً. لكن بوتين قال الخميس أن”حرباً” تدور في أوكرانيا. وفي اليوم التالي الجمعة ردوا على ذلك في الخارجية الأميركية بالقول بأن المَخرج واحد لدى بوتين ـــــــــ سحب القوات والتوقف عن زرع الموت والدمار في أوكرانيا. 

وأضاف الموقع بأنه منذ 24 شباط/فبراير كانت الولايات المتحدة والعالم بأسره يدركون أن “العملية العسكرية الخاصة” البوتينية، “هي حرب غير مبررة ومن دون اساس ضد أوكرانيا, وأخيراً، وبعد 300 يوم من الحرب سمى بوتين الأشياء بإسمها”، كما نقلت وكالة فرانس برس عن ممثلة لوزارة الخارجية الأميركية(لم تذكر إسمها). وأضافت الأميركية بالقول “وكخطوة تالية بالإعتراف بالواقع ندعوه (بوتين)  لوقف هذه الحرب وسحب القوات من أوكرانيا. 

ويقول الموقع أن كثيرين من منتقدي بوتين في روسيا أيضاً إنتبهوا إلى أنه تلفظ بكلمة “حرب”، إلا أنه من المبكر إعتبار ذلك خطوة للإعتراف بالواقع. فهو يعتبر، وردد ذلك أكثر من مرة، أن “الحرب” بدأت في العام 2014. الرئيس الأوكراني فيكتور يانكوفيتش الذي إنتخبه الشعب تحت شعارات التكامل الأوروبي لم يلتزم حينها بوعوده، وتحت ضغط بوتين رفض التوقيع على معاهدة مع الإتحاد الأوروبي مقابل قرض بمليارات الدولارات من الكرملين وفرّ إلى روسيا. رد بوتين على ذلك بالإحتلال ثم غزو القرم، وأقام جيشه وأجهزته كيانات إنفصالية في الدونباس. 

الخميس المنصرم كرر بوتين مرة أخرى روايته المضللة للأحداث. فقال بأن كل هذا بدأ في العام 2014 بعد الإنقلاب الذي وقفت وراءه الولايات المتحدة عينها، حين كانوا يوزعون الحلوى في “الميدان”، وقال بأنه تحدث عن ذلك أكثر من مرة، لكن هدفه ليس توسيع “مستنقع الحرب”، بل على العكس، إنهاء الحرب، و”نحن نسعى إلى ذلك وسنبقى نسعى إليه”. ويلاحظ الموقع أن مقولة بأن روسيا “لا تبدأ الحرب، بل تنهيها”  تستخدمها بروباغندا بوتين منذ شباط/فبراير وآذار/مارس المنصرمين. 

وينتهي الموقع بالنقل عمن يسميها ممثلة الخارجية الأميركية قولها بأن إعتراف بوتين بما هو بديهي واضح لا يجلب أي عزاء لشعب أوكرانيا، أو لآلاف الأسر الروسية التي قُتل أبناؤها في حرب بوتين”.

الأسبوعية المولدافية SP (البانوراما الأسبوعية) نشرت في 24 الجاري نصاً بعنوان “في روسيا يطالبون برفع دعوى جنائية ضد بوتين: سمى علناً الحرب حرباً”. يقول الموقع بأن مواقع إعلامية روسية كثيرة إنتبهت لتسمية بوتين علناً غزوه لأوكرانيا حرباً، وأحد الممثلين البلديين في بنربوربورغ طالب النيابة العامة الروسية رفع دعوى جنائية ضد بوتين لنشره الأخبار المزيفة عن الجيش الروسي. 

السلطات الروسية تسمي الحرب على أوكرانيا “عملية عسكرية خاصة”، كما سماها بوتين في كلمته التي وجهها للروس في 24 شباط/فبراير. وفي رده على سؤال أحد الصحافيين عما إذا كانت ” العملية العسكرية الخاصة” قد طالت كثيراً، أجاب بوتين بالكلام  الذي سبق أن ذكر وسمى فيه حربه حرباً. ولذلك طلب ممثل إحدى المناطق البلدية في بتبورغ يوري يوفيريف من النيابة العامة رفع دعوى جنائية ضد بوتين، وقال بأنهم حاكموا آلاف الروس هذه السنة لإستخدامهم هذه الكلمة. 

وينقل الموقع عن هيئة OVD-Info المتخصصة بالدفاع عن حقوق الإنسان والمدرجة على قائمة “عميل أجنبي” قولها بأنه منذ بداية الحرب رفعت 125 دعوى جنائية و37 دعوى لتشويه سمعة عمليات الجيش الروسي، إضافة إلى تسطير 5000 بروتوكول إداري بالتهمة عينها. 

الأسبوعية الأوكرانية Focus قالت في 23 الجاري أنه، بعد 10 أشهر من تفادي الرئيس الروسي إستخدام كلمة “حرب”، يتابع المسؤولون الأميركيون كيف سيشرح الكرملين في الأيام القليلة القادمة ما قاله بوتين في هذا الصدد. ويرى هؤلاء المسؤولون أنها، على الأغلب، كانت زلة لسان، نظراً لسياق كلمة الرئيس, وتنسب مراسلة CNN هذا إلى تصريح مسؤول لم تذكر إسمه. وينقل الموقع عن صحافي روسي وصفه لخطة حرب بوتين بأنها تتمثل في الدفاع عن ممر إلى القرم والهجوم ب 20 فرقة مع الإستخدام النشط للطائرات المسيرة.

موقع Kasparov خصص في 23 الجاري نصاً كاملاً بعنوان “هو قال كلمة محظورة” لتعليقات المدونين على ما قاله بوتين. المدون الأول قال “بينما كنت أغط بالنوم، سمى بوتين صراع روسيا وأوكرانيا “حرباً”. يبقى أن نفهم ما إن كان أحد ما في القيادة الروسية العليا قد توقع مثل هذا التطور للأحداث قبل بداية “العملية العسكرية الخاصة”، وإذا كان لا، تبرز  أسئلة حول مستوى الإطلاع والقدرة على التحليل وتوقع عواقب القرارات وطبيعتها والكفاءة المهنية. 

مدوّن آخر قال بأن بوتين إسترسل اليوم بالكلام وأخطأ، لقد تعب على الأرجح. وقال الرئيس بأن هدف روسيا هو الإنتهاء من هذه الحرب، وستواصل موسكو السعى لذلك ..”ويطرحون علي السؤال ولماذا حُكم على النائب غورينوف 7 سنوات سجن؟ ينبغي أن أرد. ماذا، ألستا نعيش في بلدنا؟”. 

مدوّن نشر تحت إسم “”مستنقع قطني” قال “بوتين اليوم سمى الحرب حرباُ وبدا عليه التردد على الفور. وقال أيضاً “إنهاء هذه الحرب”. “هنا تشويه سمعة ونشر تزييف  في خطاب واحد ـــــــ حسب قوانينه”.

المدوّن “المريد” قال “إستخدام الرئيس كلمة حرب، هل يعني ذلك تشريع الكلمة؟ أو هل مسموح للبعض، وبالمسبة للآخرين ـــــــ تشويه سمعة”. 

“الكرملين يطلب علناً المفاوضات، ويردون علناً أيضاً بالشروط. إجبار كييف على الإستسلام لم يعد وارداً، وقبول الشروط أيضاً. ويبقى أن مواصلة العمليات الحربية أصبح بلا معنى”.

مدوّن كتب يقول : “مهلاً، أعيدوا لي 30,000 روبل”. بوتين سمى “عمليته الخاصة” حرباً”. وتبين أن “هدفنا لس توسيع مستنقع الصراع هذا، بل على العكس إنهاء هذه الحرب”. “وأنا فرضت علي غرامة بسبب ذلك”. 

تلغرام قنال مدوّن … كتب يقول بأن أحد سكان تيومن (في سيبيريا) أعادت محكمة المنطقة النظر بحكم محكمة بدائية وحكمت عليه بدفع 30 ألف روبل لأنه كتب على الإسفلت “لا للح…ب”. عليهم إلغاء الحكم فوراً والتعويض عن الضرر المعنوي، ولا يهم كيف. 

بوتين نفسه سمى “العملية الخاصة” حرباً، ينبغي الآن إما معاقبته أيضاً، وإما رفع الحظر عن الكلمة التي يستخدمها بروباغانديو بوتين منذ فترة طويلة ويفلتون من العقاب.

المدن

——————————–

المختبر السوري في الغزو الروسي لأوكرانيا..بدأ بتطوير المسيّرات الإيرانية

قالت صحيفة لوموند الفرنسية أن المختبر السوري كان بلا شك، ذا أهمية فائقة لروسيا خلال غزوها لأوكرانيا حيث دُمجت المسيّرات الإيرانية في العمليات العسكرية إلى جانب قوات النظام السوري. 

وأضافت الصحيفة أن الكرملين هو الذي اختبر تقنيات “الإرهاب” التي تستهدف المدنيين من أجل إضعاف المعارضة المسلحة في سوريا بشكل أفضل، ثم قلل من شأنها: التدمير المنهجي للجسور والمدارس والمستشفيات، الاستهزاء ب”الممرات الإنسانية” من أجل محاصرة المدنيين بشكل أفضل معتقدين أنهم يفرون من الجحيم، وكان الهدف ترك السكان بين خيارَي الخضوع أو النزوح، كل ذلك على خلفية شلل الأمم المتحدة بفعل ال”فيتو” الروسي.

وأوضح الخبير الفرنسي في الشرق الأوسط جان بيير فيليو، في عموده في الصحيفة، أن الجنرال سيرغي سوروفكين الذي قاد القوات الروسية في سوريا، عينه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقيادة “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، فبدأ فوراً بدمج المسيّرات الإيرانية في موجات القصف التي تهدف علناً إلى تدمير البنية التحتية للطاقة، لكسر المقاومة الأوكرانية في الشتاء.

وأجبرت نكسات نظام الأسد العسكرية إيران، في الفترة من 2012 إلى 2013، على الانخراط بشكل متزايد في سوريا، إما بشكل مباشر من خلال الحرس الثوري أو بشكل غير مباشر من خلال ميليشيا حزب الله اللبناني، ثم الميليشيات الموالية لإيران من العراق. ترافق هذا الالتزام الإيراني مع ارتفاع في عدد الطائرات بدون طيار المستخدمة، وهذه المرة مع دخول الطائرات القتالية بدون طيار من نوع “شاهد-123” ثم “شاهد-129”.

وأثناء الحملة السورية التي أطلقها الكرملين في أيلول/سبتمبر 2015 لإنقاذ نظام بشار الأسد المهدد بالانهيار، نشأ تعاون عملياتي مكثف غير مسبوق بين القوات الروسية والإيرانية، خاصة في قاعدة التياس (T-4) الجوية بالقرب من تدمر، حيث تتعايش قوات البلدين.

وسمحت الدروس التشغيلية في المسرح السوري بحسب الكاتب، للصناعيين الإيرانيين بتطوير مسيرات “شاهد-136” الأكثر تقدماً، وهي التي قرر الجنرال سوروفيكين استخدامها بكثافة ضد أهداف مدنية في عدة موجات من القصف في أوكرانيا.

وقد استنكرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التواطؤ بين موسكو وطهران، وتبنَّتا عقوبات ضد المسؤولين عن برنامج المسيرات الإيراني، رغم نفي طهران أي مسؤولية لها عن الاستخدام الروسي لصاروخ “شاهد-136″، لأن “جزءاً من المصانع التي تصنعها ليس على أراضيها” حسب وزير الدفاع الأوكراني، مما يشير إلى قاعدة التياس؛ في تذكير مؤثر بأهمية سوريا في موضوع الحرب الأوكرانية، لأنها حقيقة، كما يقول المتخصص الفرنسي، هي مكان إصدار أسلحة الإرهاب الروسي في أوكرانيا.

—————————-

بوتين المتعثر يتموضع داخل خندقين/ مصطفى فحص

كان المفترض بالرئيس الروسي أن يخاطب شعبه ويصارحه ويعده بمحاكمة قيادته العسكرية والأمنية، لأنها تتحمل جزءا أساسيا من الهزيمة الأوكرانية، إلا أن قرار الاستمرار في إنكار وقائع الحرب دفعه مجددا إلى الرهان على قادة عسكريين فشلوا بعد 10 أشهر من مغامراته العسكرية في إثبات قدرتهم ليس فقط على تغيير المعادلة، بل في خطاب بوتين الأخير يظهر القلق هذه المرة على الأمن الوطني الروسي، وكأن خصوم روسيا وأعداءها باتوا يهددون مباشرة وحدة الأراضي الروسية.

في خطابه الأخير في 21 من الشهر الحالي، أعلن الرئيس بوتين تموضعه داخل خندقين، الأول قوة الردع النووي، وهي إشارة مزدوجة للداخل والخارج معا، أما الثاني  فهو استمرار انحيازه إلى معسكر الحرب، وهو الجهة التي لم تزل تقدم لبوتين ذرائع تبرير الحرب وتمارس ضغوطها في قمع النخب المعارضة.

في الخندق النووي يمكن القول إن الرئيس بوتين أعاد تذكير الداخل والخارج بثوابت الردع النووي، مما يعد رسالة طمأنة للشعب الروسي بأن بلاده لم تزل تحافظ على توازن الرعب النووي الذي لن يسمح لأعدائها بتهديد أمنها القومي، ويدفعهم إلى مراجعة حساباتهم الاستراتيجية قبل قيامهم بأي مغامرة ضد بلاده. حيث سعى بوتين في خطابه إلى تذكير الشعب الروسي بحجم عدائية الناتو والغرب، وحيث اتهم الناتو باستخدام قدراته كاملة ضد روسيا، معتبرا ان “منافسي روسيا الإستراتيجيين لهم هدف تاريخي هو إضعاف روسيا وتفتيتها”، لذلك ركز في خطابه على قدرات روسيا النووية ووعد بتطويرها وبتسليم الحديث منها إلى الوحدات العسكرية الاستراتيجية، فقد أكد بوتين اعتماده عليها معتبرا انها القوة التي تمثل أساس الاستقرار في العالم.

أما فيما يخص الخارج، فإن منسوب القلق مما يعتبره بوتين مؤامرة غربية على بلاده قد ارتفع إلى مستوى التلويح مجددا بالنووي، فعلى ما يبدو أن الناتو بات قريبا بما يكفي من حدوده إلى مستوى يهدد أمنه الوطني، والانخراط المتزايد من أجل هزيمة روسيا في أوكرانيا تجاوز الحدود الميدانية للحرب، وبأن الناتو لن يتردد في تهديد سلامة الجغرافيا الروسية، لذلك فإن بوتين رفع مجددا تحذيره النووي حفاظا على وحدة الأراضي الروسية التي إذا هُددت أو مُست فإنها تمثل تهديدا واضحا لسلامة نظامه، وهذا ما أكد عليه في لقاء تلفزيوني بعد خطابه أمام قيادته العسكرية، حيث قال “خصوم روسيا الجيوسياسيون [كانوا] يهدفون إلى تمزيق روسيا، روسيا التاريخية”.

أما الخندق الثاني  فهو يضم نخبا روسية حليفة له، تشكل ما بات يعرف في روسيا بمعسكر الحرب، الذي يرفض أي مراجعة ولو تكتيكية للمغامرة الأوكرانية، ويصر على التصعيد مهما كانت التكلفة عالية، لذلك يمثل خطاب بوتين الأخير وإصراره على الاستمرار في الحرب، وإيحائه بأن الجيش الروسي قادر عاى تغيير المعادلة هو المنطق التبرير نفسه الذي تروج له نخب هذا المعسكر من مراكز صنع قرار متعددة، في مقدمتها المجموعة الأمنية العسكرية المعروفة بالسيلافيكي وبعض حيتان المال من الأوليغارشية، إضافة إلى النخب السياسية القومية، الذين يشددون أن على روسيا الفوز بطريقة أو بأخرى، دون الأخذ بعين الاعتبار تداعيات هكذا موقف متشدد على الداخل السياسي والشعبي.

فمعسكر الحرب يحاول إطالة أمد الحرب أو بمعنى آخر تأجيل إعلان الهزيمة كونها ستزعزع الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وقد تتسبب بانقلاب داخل النظام السياسي أو بثورة شعبية، لذلك تتقاطع مصالح هذه النخب مع مصالح صناع القرار داخل الكرملين ليتجنبوا انهيار النظام بأي ثمن .

أمام بوتين كلام كثير ليقوله في المستقبل القريب، فالطرفان الروسي والأوكراني يستعدان لجولة جديدة من القتال قد تتجاوز الثوابت الجغرافية والاستراتيجية، فبوتين لن يسمح بالاقتراب من الحدود الجيوسياسية لبلاده، ولا زيلنسكي سيعترف باقتطاع جزء من جغرافيا بلاده، وما بينهما نووي للضغط لا للاستخدام، و”ناتو” مستمر في استخدام كافة ضغوطه. 

الحرة

————————

روسيا و2254/ جمال الشوفي

في الأمس، وفي 21 شهر كانون الأوّل الجاري، قدّم غير بيدروسون، المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا، إحاطته لمجلس الأمن، بدأها بعرض نتائج زيارته إلى سوريا ونقاش الحكومة السورية حول كيفية إحداث تقدم في العملية السياسية وتنفيذ القرار 2254.

وختمها بعرضه لقاءاته مع وزير خارجية النظام السوري، ورئيس هيئة التفاوض السورية، وضرورة استمراره في الاعتماد على مشورة المجلس الاستشاري النسوي الذي أسّسه سابقه دي ميستورا. ويبدو أن الحل السوري يُطهى على نار بلا وقود، كما هو الداخل السوري، ولا طعام يقدّم للسوريين الذين افتقدوا لكل مقومات الحياة، حسب إحاطة بيدرسون ذاتها، فالطبخة الدولية حول سوريا “حلة حصى” لم تنضج ويبدو أنها لن تنضج بعد!

مرّت سبع سنوات على القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، بتاريخ 18/12/2015. القرار الذي يعتبر لليوم البوابة الوحيدة للحل للسوري، لكنه في الوقت ذاته، الإشكالية المستعصية على الحل، حتى بدأت أطراف عدة ثورية أو معارضة، وحتى سلطوية، بغمز روسي من الخلف في الجهة الأخرى، تدعو للتخلي عنه واستصدار قرار جديد في طريقة الحل السوري.

ما يستلزم العودة لقراءة مضمونه وتحديد فقراته ودلالتها السياسية، خاصة وأن الوضع السوري اقتصادياً وسياسياً في رمقه الأخير، وبات كارثة إنسانية كبرى تفوق ما جرى في الصومال وربما أشد لعنة سياسياً على الهوية الوطنية السورية. فالقرار المتضمن 16 عشر بنداً، يشير في مقدمته وبنوده السبعة الأولى، حسبما وردت في نصه، إلى:

    عملية الانتقال السياسي وضلوع المجتمع الدولي بالعمل على تحقيقها بمرجعية بيان جنيف 2012، غير الملزم لأي طرف في سوريا، ومؤيداً لبياني فيينا بينهما، كأساس لانتقال سياسي بقيادة سوريّة. ودعوة ممثلي النظام والمعارضة السورية إلى الدخول في مفاوضات رسمية بشأن عملية انتقال سياسي مدتها ستة أشهر، تقيم حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولاً زمنياً وعملية لصياغة دستور جديد. تتبعها مرحلة لانتخابات حرة ونزيهة، في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة!  أجل هذا ما كان!

    العمل على محاربة الإرهاب المتمدد في سوريا، حيث جاء في فقرته الثامنة، وتنفيذاً للقرار 2249/2015، منع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم الدولة (داعش) وجبهة النصرة، وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطين بالقاعدة أو داعش، وغيرها من الجماعات الإرهابية، والقضاء على الملاذ الآمن الذي أقامته تلك الجماعات على أجزاء كبيرة من سوريا.

    بناء الثقة بين جميع الأطراف السورية من أجل المساهمة في فرص القيام بالعملية السياسية وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، في فقرته العاشرة. فيما تأتي الفقرات التالية كفقرات متممة تسعى للحث على وقف إطلاق النار وتجميد العمل العسكري الدائر في جميع الأراضي السورية، والتوجه للمنظمات الإنسانية بتقديم المساعدات للداخل السوري، تمهيداً للحل المفترض. فهل ثمة حل تحقق؟

في قراءة لمضمون القرار هذا يمكن ملاحظة ما يلي:

    أتى هذا القرار بعد أربعة أشهر تقريباً من التدخل الروسي العسكري المباشر بدعوة من السلطة السورية.

    تم تخفيض مقررات جنيف 1، الذي يستند إليها القرار، من هيئة حكم كاملة الصلاحيات إلى عملية انتقال سياسي تفضي لحكومة انتقالية تتقاسمها كل من المعارضة والسلطة.

    إدراج محاربة الإرهاب في ذات القرار بجوار الانتقال السياسي، فيما تمت الإشارة الواضحة لكل من داعش والقاعدة وما يتبعهما، لكن تركت الفقرات المتعلقة بغيرها عائمة دون تحديد.

    الاعتماد على النوايا الحسنة عند طرفي المعادلة السورية (السلطة والمعارضة) في الدخول بالعملية السياسية، بحيث يتجنّب القرار في متنه تحديد أي طريقة ملزمة لكلا الطرفين للدخول فيها.

السؤال الذي يطرح نفسه وقتها واليوم، لماذا وافقت روسيا على هذا القرار، وهو الذي يفيد بالانتقال السياسي؟ وبالضرورة لماذا جمّدت مفاعيله بعمل لجنة دستورية وصياغة الدستور قبل تحقيق المرحلة الانتقالية؟ وهل تمت عملية بناء الثقة تلك؟ والأهم من هذا، هل انتهى المجتمع الدولي من محاربة الإرهاب في سوريا؟ وما دور روسيا فيها؟

أسئلة تبدو للوهلة الأولى واضحة وسهلة الإجابة، لكن في مضمونها والسياق التحليلي لمسار العملية السياسية وطريقة الحل السورية تبدو أعقد وأشد عمقاً من تأثيرات نصوص لا تفترض الإلزام بأي خطوة منها، لتتكشف من خلالها آليات الصراع الدولي من خلال سوريا وعليها بآن. تلك التي تشي بمعادلات الجيوبوليتيك الدولي التي دشنتها روسيا من خلال سوريا بدايةً وتتمها اليوم في المعادلة الأوكرانية، في مقابل التوجه الغربي في ذلك، وهذا موضوع يحتاج بذاته لدراسات وأبحاث.

حقق القرار 2254 لروسيا لأوّل مرة في تاريخها:

    تبرير عملها العسكري في سوريا بمرجعية دولية تستند إلى قرار مجلس الأمن. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي والتفرّد الأميركي في قيادة الدفة العالمية عولمياً، وخلافاً لحروبها الثلاث السابقة في جورجيا والشيشان وأرمينيا، تدخل في الخط الدولي، في موقع يشابه الحروب التي قامت بها أميركيا بمرجعية مجلس الأمن.

    أصبحت روسيا شريك في محاربة الإرهاب بمرجعية دولية، يؤهلها لتحقيق طموحاتها القيصيرية بالعودة للساحة الدولية كقطب عالمي منفرد من منظار دولي شرعي، ما يفسّر موافقتها عليه من خلال إدراج فقرة الحرب على الإرهاب بموازاة الانتقال السياسي في الفقرة الثامنة منه. الأمر الذي حوّل كامل الداخل السوري لساحة عمل عسكري واسع، وإسباغ كامل الجغرافيا السورية بالإرهاب.

    مارست روسيا دورها العسكري في تفريغ سكان المدن السورية مدينة تلو الأخرى، وأضافت له ومن خلال أستانا الجمع بين تركيا وإيران، كأهم الأطراف الفاعلة في الملف السوري عسكرياً، عنوان مناطق خفض التصعيد، والتي أتت على قضم مواقع الثورة السورية مدينة تلو أخرى، بدعوى محاربة الإرهاب دون التمييز بين السوريين في مطالبهم المحقة في التغيير السياسي والقوى الدخيلة عليهم من داعش وغيرها.

    في المسار الدبلوماسي، دخلت المسألة السورية ذاتها في بوابة العطالة المطلقة حين الحديث عن حسن النوايا وبناء الثقة، من خلال اللجنة الدستورية، والتي تفيد التقارير الأممية في تعطيلها دورياً، منذ العام 2019 لليوم. ما يعني بوضوح شديد الالتزام الشكلي للسلطة السورية ومن خلفها روسيا بقرار مجلس الأمن، وبالوقت ذاته التملص من أي استحقاق يمكن أن يشكل تقدمًا في مسار العملية السياسية، فلا ثقة اليوم تبنى سوى بتفكيك المسألة السورية وحلولها الممكنة.

استفادة روسيا من القرار 2254 هي الأوضح لليوم، في حين السوريون وقعوا في مخاض الإجحاف الاقتصادي بكل أشكاله، وفي فخ العطالة السياسية المطلقة. ويبدو أن الدفع الروسي بمسار جديد لطريقة الحل السوري لم تعد تكفيه مقررات سوتشي واللجنة الدستورية، بقدر ترسيمات الواقع العسكري في الشمال السوري مع تركيا، وليس مستبعداً أن يكون هناك سيناريو جديد للجنوب السوري يطبخ على مهل. ما يحيل كامل المسألة السورية تدريجياً من حل كلي في جنيف 2012، لجزئي في 2254/ عام 2015، إلى حلول تفكيكية عامة نهايات 2022. فهل هذا ما كان يأمله السوريون؟ وهل يمكن إيجاد الطرق الملزمة للانتقال السياسي السوري بعدما تكشف للمجتمع الدولي خطأه المرعب في إيلاء روسيا حق الاستفراد بالحل السوري على طريقتها، خاصة بعد تمددها لأوكرانيا وقلب أوروبا وتهديد السلم العالمي برمته.

السوريون ينتظرون، كما كل أطفال سوريا ينتظرون تلويحة من بابا نويل، فهل من فرج قريب على أبواب العالم والعام الجديد؟

———————–

ما هي خطة زيلينسكي للسلام في أوكرانيا المكوّنة من 10 نقاط؟

يسعى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى الترويج لخطته للسلام المكوّنة من 10 نقاط، والتي طرحها للمرة الأولى في قمة مجموعة العشرين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وناقش زيلينسكي خطته مع الرئيس الأميركي جو بايدن وقادة آخرين. كما حث زيلينسكي قادة مجموعة الدول السبع على دعم فكرته في عقد قمة سلام عالمية في الشتاء والتي ستركز على خطة السلام “ككل أو بعض النقاط المحددة على وجه الخصوص”. وفيما يلي شرح للخطة وردود الفعل العالمية عليها، بحسب رويترز. 

نقاط الخطة العشر  

    الإشعاع والسلامة النووية: استعادة الأمان حول محطة زابوريجيا، أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا، التي تحتلها روسيا الآن.

    الأمن الغذائي: بما في ذلك حماية وضمان صادرات الحبوب الأوكرانية إلى أفقر دول العالم.

    أمن الطاقة: مع التركيز على قيود الأسعار على موارد الطاقة الروسية، فضلاً عن مساعدة أوكرانيا في استعادة بنيتها التحتية للطاقة، التي تضرر نصفها بسبب الهجمات الروسية.

    الإفراج عن جميع الأسرى والمبعدين، بمن فيهم أسرى الحرب والأطفال المبعدون إلى روسيا.

    استعادة وحدة أراضي أوكرانيا وإعادة تأكيد روسيا عليها وفقاً لميثاق الأمم المتحدة الذي قال زيلينسكي إنه “لا يتعلق بالمفاوضات”.

    انسحاب القوات الروسية ووقف الأعمال العدائية واستعادة حدود الدولة الأوكرانية مع روسيا.

    العدالة: بما في ذلك إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة جرائم الحرب الروسية.

    منع الإبادة البيئية والحاجة إلى حماية البيئة، مع التركيز على إزالة الألغام واستعادة مرافق معالجة المياه.

    منع تصعيد الصراع وبناء هيكل أمني في الفضاء الأوروبي الأطلسي، بما في ذلك ضمانات لأوكرانيا.

    تأكيد انتهاء الحرب، بما في ذلك وثيقة موقعة من الأطراف المعنية.

ردود الفعل   

ورفضت روسيا اقتراح زيلينسكي للسلام هذا الشهر، وأكدت موسكو أنها لن تتخلى عن أي أراض استولت عليها بالقوة، أي نحو خمس أراضي أوكرانيا، التي تقول إنها ضمتها.

وأعلن الكرملين، اليوم الأربعاء، رفضه خطة السلام، قائلاً إن مقترحات إنهاء الصراع في أوكرانيا يجب أن تأخذ في الاعتبار ما أسماها “حقائق اليوم”، في ما يتعلق بالمناطق الأوكرانية الأربع التي أعلنت روسيا ضمها إليها.

وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، وفق “رويترز”، “لا يمكن أن تكون هناك خطة سلام في أوكرانيا لا تأخذ في الاعتبار حقائق اليوم، في ما يتعلق بالأراضي الروسية مع انضمام أربع مناطق إلى روسيا. والخطط التي لا تأخذ هذه الحقائق في الاعتبار لا يمكن أن تكون سلمية”.

وكان زيلينسكي عرض خطته على قادة عالميين، من بينهم بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي تولت بلاده رئاسة مجموعة العشرين، وكان الرد على خطة زيلينسكي للسلام وقمة السلام التي اقترحها حذراً.

وخلال زيارة زيلينسكي لواشنطن في 22 ديسمبر/كانون الأول، اكتفى بايدن بالقول في تصريحات علنية إنه وزيلينسكي “يشتركان في نفس الرؤية” للسلام، وإن الولايات المتحدة ملتزمة بضمان أن أوكرانيا تستطيع الدفاع عن نفسها.

وقال مودي، الذي لم تدن حكومته صراحة الغزو الروسي لأوكرانيا، بعد تقديم زيلينسكي للخطة، إنه “كرر بقوة” دعوته لإنهاء الأعمال العدائية على الفور ونقل دعم الهند لأي جهود سلام.

العربي الجديد

————————-

الكرملين يعلن رفض خطة السلام التي وضعها زيلينسكي

أعلن الكرملين، اليوم الأربعاء، رفضه خطة سلام مؤلفة من عشر نقاط وضعها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قائلاً إن مقترحات إنهاء الصراع في أوكرانيا يجب أن تأخذ في الاعتبار ما أسماها “حقائق اليوم”، في ما يتعلق بالمناطق الأوكرانية الأربع التي أعلنت روسيا ضمها إليها.

وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف: “لا يمكن أن تكون هناك خطة سلام في أوكرانيا لا تأخذ في الاعتبار حقائق اليوم، في ما يتعلق بالأراضي الروسية مع انضمام أربع مناطق إلى روسيا. والخطط التي لا تأخذ هذه الحقائق في الاعتبار لا يمكن أن تكون سلمية”.

وتدعو الخطة إلى سحب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية المعترف بها دولياً، مما يعني تخلي روسيا عن المناطق الأربع التي أعلنت ضمها إلى جانب شبه جزيرة القرم التي استولت عليها موسكو عام 2014.

————————–

===================

تحديث 08 كانون الثاني 2023

————————

صعوبات الحل التفاوضي في أوكرانيا/ عمرو حمزاوي

خلال الأيام الماضية، أفصح بعض المسؤولين الروس عن استعداد بلادهم للتفاوض مع أوكرانيا لإنهاء الحرب والتوصل إلى تسوية سلمية. تحدث أيضا بعض ممثلي الحكومة الأوكرانية والحكومات الغربية الداعمة لها عن تفضيلهم المبدئي للحل السلمي ورغبتهم في السعي إليه شريطة أن تنسحب موسكو من الأراضي التي احتلتها وعلى الرغم من شكوكهم في النوايا الروسية. كما طالبت المؤسسات الدولية على لسان السكرتير العام للأمم المتحدة والمؤسسات الدينية على لسان بابا الفاتيكان بإنهاء الحرب وحماية أرواح الناس والممتلكات العامة والخاصة.

فهل يعني ذلك اقترابنا من مفاوضات سلام تضع نهاية للحرب الأرضية الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية 1939-1945؟ الإجابة هي على الأرجح لا، وللسببين التاليين.

أولا، لا تملك القيادة الروسية المقومات اللازمة للدخول في مفاوضات سلام ناجحة. فقد حدد فلاديمير بوتين ضم الأقاليم ذات الأغلبية العرقية الروسية والواقعة داخل الأراضي الأوكرانية إلى الوطن الأم كالهدف الأساسي «للعملية العسكرية» الذي لا يمكن التنازل عنه، وتم صياغة الخطاب الرسمي الداعم للحرب لتبرير حتمية ضم تلك الأقاليم الواقعة في الشمال الشرقي من أوكرانيا كخطوة ضرورية لحماية السكان الروس من عنف وعنصرية «المجموعات النازية» التي نشطت خلال السنوات الماضية.

هذا الهدف الأساسي لروسيا يستحيل على صناع القرار في أوكرانيا، إن فلوديمير زيلينسكي أو حكومته والجيش الذي ارتفعت معدلات تسليحه بسرعة بالغة خلال الشهور الماضية، قبوله مثلما يستحيل تصور موافقة أغلبية الشعب الأوكراني عليه بعد ويلات ودمار الحرب ومعاناة الناس من الدماء والارتحال واللجوء التي رتبها العدوان الروسي.

يصعب أيضا تصور قبول صناع القرار الغربيين، وحكوماتهم تقف في الصفوف الأمامية الداعمة لأوكرانيا عسكريا واقتصاديا وماليا وتكنولوجيا، لفوز روسيا بأقاليم هي داخل أراضي دولة مستقلة ذات سيادة. فجائزة كهذه ستعني تسليم الغربيين بكون الغزو وشن الحروب العدوانية على الغير والعمليات العسكرية داخل أراضي دولة ذات سيادة هي أمور يمكن قبولها في المنظومة الدولية والاعتراف بنتائجها المتمثلة إن في انتزاع أراضي من دول ذات سيادة أو في إفلات المعتدين من العقاب. جائزة كهذه ستعني أيضا إقرار الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بنجاح استراتيجية وسياسات بوتين في الضغط على جواره المباشر لمنع اقتراب دوله من الغرب وفي إعادة الاعتبار للقوة الروسية أوروبيا وعالميا.

لن يقبل الغرب بإعطاء بوتين جائزة للغزو والعدوان، وذلك على الرغم من ماضي الغربيين الطويل في الغزو والاعتداء على سيادة الدول المستقلة والاعتراف بنتائج الحروب المتمثلة في احتلال أقاليم وأراضي الغير وتهجير سكانها وفرض نظم أبارتايد في وجوههم. وليس نفاق الغربيين فيما خص إسرائيل واحتلالها واستيطانها المستمر في الضفة الغربية عن ذلك ببعيد.

بالقطع، ربط الخطاب الرسمي لبوتين وحكومته والمؤسسة العسكرية بين ضم الأقاليم ذات الأغلبية العرقية الروسية إلى الوطن الأم وبين ضرورة أمن قومي ثانية هي الحيلولة دون انضمام أوكرانيا لحلف الناتو ومن ثم منع المزيد من الاقتراب الجغرافي للغربيين من الحدود الروسية. غير أن إبعاد أوكرانيا عن الانضمام للناتو ودفع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى الموافقة عليه ليس بصعوبة انتزاع أقاليم خاضعة للسيادة الأوكرانية المعترف بها دوليا وضمها إلى روسيا. فواقع الأمر أن واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي لا تجمعها سياسة واحدة لجهة ضم كييف للناتو، فبينما يرفض الأوروبيون بوضوح ويشيرون إلى أهمية النظر إلى مقتضيات الأمن القومي الروسي بجدية يواصل الأمريكيون الحديث عن الأمر بأكثر من لسان ويختلفون من ديمقراطيين إلى جمهوريين حوله.

في جميع الأحوال، ليس الوصول إلى حل تفاوضي بشأن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو بمستحيل. ويمكن تصور وساطة أوروبية ناجحة في مفاوضات سلام تعرض على كييف شيئا من الارتباط التدريجي والمنظم بالاتحاد وتزيح من قائمة أولويات حكومة زيلينسكي الناتو. كما يمكن أيضا تصور إعلان الولايات المتحدة والدول الأوروبية عن عزمهم مواصلة تسليح وتدريب الجيش الأوكراني دون انضمام إلى الناتو، وكذلك تقديم ضمانات أمنية تتمثل في رفع معدلات التسليح والتدريب حال تجدد الاعتداءات الروسية.

ضم الأقاليم ذات الأغلبية العرقية الروسية وخرق السيادة الأوكرانيين هما المعضلة الكبرى لمفاوضات سلام ناجحة.

ثانيا، تورط الأمريكيون والأوروبيون، ليس فقط في فرض عقوبات واسعة على روسيا، بل في تسليح أوكرانيا على نطاق واسع وسريع وفي رفض فتح المسار التفاوضي مع بوتين وحكومته طوال الشهور الماضية.

رتب التورط الغربي في الحرب والضغط الأمريكي المكثف على الحلفاء الأوروبيين للاشتراك في تقديم السلاح والمساعدات التكنولوجية والاقتصادية والمالية لكييف نجاح الأخيرة في مواجهة الغزو الروسي وقلب الدفة عسكريا خلال الفترة الأخيرة في 2022التي نجح خلالها الجيش الأوكراني في تحرير بعض المناطق في الشمال الشرقي والضغط على الجيش الروسي وإجباره على التراجع. لم يتوقف الدمار الواقع على البنية التحتية ومصادر الطاقة وعذابات السكان بفعل الصواريخ والمسيرات الروسية والهجمات المتكررة على المدن الأوكرانية، غير أن الدعم العسكري الغربي، وهو سيستمر في 2023 بنظام باتريوت الأمريكي الذي وعدت به إدارة جو بايدن والأسلحة الألمانية الإضافية التي وعدت بها برلين، أوصل الوضع بين روسيا وأوكرانيا إلى ما يشبه التوازن العسكري مع شيء من التفوق في الشمال الشرقي لكييف التي تريد تحرير بقية الأراضي المحتلة وتفوق في قدرات التدمير في المدن والبنى التحتية وترويع السكان لموسكو.

يمكن التوازن العسكري حكومة زيلينسكي، وعلى الرغم من تواصل هجمات الصواريخ والمسيرات الروسية، من رفض التفاوض مع موسكو قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة ومن مواصلة مواجهة الجيش الروسي دون خوف من انهيار كامل لأوكرانيا واحتلال لكامل أراضيها. وقد كان ذلك الخوف في أذهان صناع القرار الأوكرانيين والغربيين في الأيام الأولى للحرب. كذلك يسمح التوازن العسكري بين الطرفين لحكومة زيلينسكي من إنتاج خطاب رسمي يقضي بحتمية «النصر» ويقنع الأوكرانيين بصغر المسافة بين ايقاف الجيش الروسي وتحرير بعض المناطق في الشمال الشرقي إلى ايقاف الهجمات الصاروخية (دور منظومة باتريوت) وتحرير كافة الأراضي. وفي خطوة تالية، يطالب الخطاب الرسمي المواطنين وبمقولات وطنية بالصبر واحتمال ويلات ودمار العدوان إلى أن يتحقق الانتصار الكامل.

لذلك بين غرب غير راغب في التفاوض، بما في ذلك الأوروبيون الذين يعانون الأمرين من تراجع إمدادات الغاز الروسي وعلى الرغم من ذلك يرفضون الوساطة وينفتحون على استمرار عسكرة الصراع وسباقات تسلح كارثية، وبين حكومة أوكرانية ترفض التفاوض قبل الانسحاب الروسي مؤيدة بموقف شعبي موال وروح وطنية متصاعدة، يمكن توقع تعثر التفاوض الجاد لإنهاء الحرب.

القدس العربي

———————–

العام 2022 الذي كشف حقيقة نظام بوتين/ بسام مقداد

مع نهاية كل عام وحلول آخر يتصدى البعض للتنبؤ بما يحمله العام الجديد، ويفضل البعض الآخر إيجاز حصيلة المنصرم بالإستناد إلى الخبرة والدراسات العلمية، وليس إلى المنجمين وضاربات الودع وترسبات القهوة في قعر الفنجان. وعلى الرغم من أن مهمة واضعي التوقعات تبدو أصعب بما لايقاس بالمقارنة مع مهمة موجزي حصيلة العام المنصرم، إلا أن العامل الشخصي يلعب دوراً مهماً في الحالتين. فما وقع قد وقع وأصبح كالإسمنت لا يتزحزح بإرادة أحد، بل يمكن دراسته وإستخلاص العبر والدروس منه، أما ما سيقع يبقى رهن الظروف والتطورات التي يصعب التنبؤ بها مهما بلغ علم الإحتمالات من دقة، ومهما تم من حشد وقائع سبق أن أسفرت عما يشبه المتوقع.  

معظم المواقع الإعلامية الروسية والناطقة بالروسية نقل توقعات مؤسسات البحث العلمي الغربية، والقليل منها نشر حصيلة العام المنصرم الذي تميز بفشل حرب بوتين الخاطفة على أوكرانيا. وتفرد موقع أوكراني في الحديث عن توقعات للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشكك بوجود العالم العربي، وقال بأن مفهوم “عالم عربي” هو على الأغلب تصوير المتخيل واقعاً.  وتكاد تجمع التوقعات على ركود الإقتصاد العالمي وتزايد معدلات التضخم في العام الجديد، وعلى إحتمال وقوع نزاعات وحروب في خليج تايوان ومضيق هرمز وشبه الجزيرة الكورية، وبالطبع في الشرق الأوسط  واستمرار الحرب الأوكرانية، إضافة إلى أزمات الغذاء والمناخ وسواها من أزمات. 

أحد أركان نظام بوتين ـونائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي ورئيس روسيا السابق دمتري مدفيديف لم يجرؤ، كما المواقع الإعلامية الروسية، على التصدي للتوقعات التي لا بد أن تتحدث عن مستقبل الحرب الأوكرانية، بل فضل نشر إيجاز لما يراه حصيلة العام المنصرم. وعلق كثيرون من المعارضين على إيجازه بأن نصحوه أن يكتب مذكراته التي ستكون، برأيهم، مذكرات إيروتيكية بإمتياز. 

الحصيلة الأولى التى رآها ميدفيديف، كما نشرتها الصحيفة الرسمية للحكومة الروسية RG كانت “النازية قريبة، لكنها لن تمر”، وأرفقها بشرح مسهب يمكن تصوره من قراءة اي موقع إعلامي ممانع. الحصيلة الثانية “الأوهام إنتهت، ما يفصلنا عن العالم الغربي أكبر بكثير مما يجمعنا”. الحصيلة الثالثة “وباء روسوفوبيا يتطلب أدوات أكثر صلابة”، الرابعة “الغرب حشر نفسه في قفص، فليبقى هناك في العزلة”. الخامسة “القيامة حتى الآن لن تقوم”، السادسة “روسيا لا تنجو”، بل تعيش، تتطور وتنتصر”. وأرفق ميدفيديف حديثه بشروحات إستهلكت أكثر من 4600 كلمة، ويبدو أن نصيحة المعارضين له كانت في محلها. 

في المقابل نشر حصيلة العام المنصرم أيضاً المؤرخ الروسي الكبير والمعارض اندريه زوبوف، الذي ترك روسيا، كما سائر المعارضين، ويقيم حالياً في براغ ويدرس في إحدى جامعاتها، بعد أن أصبح من المتعذر عليه في روسيا قول مايريده، كما قال في إحدى مقابلاته. رأى زوبوف في صحيفة Moscow times The أن نتائج العام 2022 كانت “مدعاة للمواساة”، على الرغم مما حملته لروسيا من حرب بوتين على أوكرانيا وتشديد العقوبات الغربية عليها وعزلتها التي تكاد تكون مطبقة. يشرح المؤرخ لماذا فضل الحديث عن نتائج العام المنصرم وليس عن توقعات العام الجديد، ويرى أن العام 2022 كان عاماً سيئاً للغاية. فللمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية تندلع في أوروبا حرب شاملة  تسببت بمقتل عشرات، بل فد يكون مئات آلاف القتلى، ودمار مدن وقرى أوكرانية، وهجرة ملايين الأشخاص، “فعلاً، لم تشهد أوروبا بعد 1945 سنة أسوأ من التي مرت”.

ويرى زوبوف أنه، مع ذلك، كانت نتائج السنة “أكثر من مدعاة للمواساة”. فقد إستطاعت أوكرانيا ليس فقط التصدي للعدوان الروسي، بل وإجبار أقوى جيش في أوروبا على التراجع. بعد عشرة أشهر من الحرب تم إبعاد الجيش الروسي عن مدن أوكرانية عددها الكاتب، وأخذت تتكرر هجمات الطائرات المسيّرة الأوكرانية على مطارات الطيران الإستراتيجي الروسي وعلى قاعدة سيفاستوبول البحرية الروسية، “وهذه ولا شك نتيجة إيجابية”.

السبب الثاني الذي دعاه لهذا الإستنتاج يراه زوبوف في كون نظام بوتين أظهر للعالم حقيقته. وحقيقته ليست في وحشيته وعدوانيته وخروجه على القانون وخداعه وأكاذيبه، بل في كونه إستمراراً مباشراً للنظام الوحشي، العدواني، الخارج عن القانون والمخادع الذي ثبت دعائمه في روسيا بين الأعوام 1917 و1922 وحكم بإسمها. الأساليب عينها في السياسة الداخلية والخارجية التي إعتمدها لينين وستالين وسائر البلاشفة من بعدهم، تستمر في عهد بوتين. من الواضح كلياً، برأيه، أن روسيا تحكمها “عصابة القتلة واللصوص والكذب” نفسها،  ولخداع البسطاء فقط يسمون أنفسهم إما إشتراكيين أو ديموقراطيين أو وطنيين. وهي في الحقيقة أقنعة يتقنعون بها، كما تتقنع المافيا بلباس النبلاء 

يذكّر المؤرخ زوبوف بأممية لينين ــــ تروتسكي، بعدوان ستالين المتواصل، بأزمة الكاريبي لخروشوف وبحرب بريجنيف في أفغانستان، ويعتبر بوتين خليفة هذا التقليد بالكامل: جورجيا، سوريا، أوكرانيا، “وكل ما يمكنهم الحصول عليه في بلدهم الأم”. وبوتين لا يجهد كثيراً للتستر على وراثته هذه ــــ إحياء تماثيل ستالين ودزيرجنسكي، النشيد الوطني السوفياتي ولوحة أندروبوف التذكارية. والأهم من كل ذلك يراه المؤرخ في إعتزاز بوتين بانتمائه لل kGB ــــــ “العمود الفقري  لنظام قطاع الطرق”. أحياناً يبدو وكأنه ليس هو من يحكم، بل مجموعة جنرالات “خدمة المخابرات الخارجية” SVR و kGB، والذي يعتبر بوتين في مجموعتهم “الأول بين متساوين”، والذين يحتفلون سنوياً بتاريخ تأسيس KGB-FSB في 20 كانون الأول/ديسمبر، وإحتفل به بوتين هذه  السنة أيضاً.

يقول زوبوف بأن  العالم أدرك أن ذلك النظام الذي نهب شعوب بلده وقتلها وأماتها جوعاً، هو نفسه يستمر في حكم روسيا، ومن المستحيل عقد الأمل على تحوله إلى إقتصاد سوق ديموقراطي. ويرى أن هذا الإدراك كبير القيمة، وينبغي أن يُجتث النظام على غرار سواه من الأنظمة التي كانت تسمي نفسها “شعبية ديموقراطية” أو إشتراكية في بولونبا، بلغاريا وسواها.

هذه السنة أظهرت أن الدول الديموقراطية، العالم الحر يستطيع الدفاع عن نفسه وقيمه، وأن الغرب ليس عجوزاً مترهلاً ومدمن مخدرات شاذ، بل مئات ملايين النساء والرجال الجسوريين المستعدين لتحمل الحرمان والمصاعب من أجل الحفاظ على الحرية والكرامة التي يقدرونها عالياً، والمستعدين لمد يد العون للشعب الأوكراني، وقادرين مع الأوكران على وقف عدوان الشر. وخابت جميع أحلام إستراتيجيي الكرملين عن إنهيار تحالفات العالم الديموقراطي تحت ضربات الجيش الروسي في أوكرانيا والطابور الخامس في بلدانه.

تحدث المؤرخ زوبوف عما كان حدث للعالم لو صحت توقعات الغربيين أنفسهم عن سقوط أوكرانيا خلال الأيام الأولى من الحرب، وكيف كان بوتين، وبرضى الغربيين، سيفرض نظام أمن عالمي جديد لعشرات السنين القادمة. ويقول كان العالم على بعد خطوة من ذلك، وهذه الخطوة تمت بفضل الشجاعة التي لا مثيل لها للشعب الأوكراني ووحدة العالم الديموقراطي وتضحيته الكريمة. بفضل هذه الشجاعة والوحدة والتضحية لم تتمكن السلطة الروسية من إخفاء حقيقتها، بل تعرت في طبيعتها الشيطانية المثيرة للاشمئزاز، الكارهة للبشر وطبيعة العصابات المخادعة. 

العام الجديد 2023 عليه أن يقوم بالإستنتاجات من الإنجازات العظيمة لسنة 2022 المنصرم، ومن الصحوات التي كانت صعبة ومؤلمة جدأ، لكنها كانت ضرورية. فهل سيقوم بهذه الإستنتاجات، “لن أقدم  على القيام بالتوقعات”.

المدن

—————————

إخفاقات وعيوب وتقصير… كبرياء روسيا يسقط في أوكرانيا/ نورا عامر

على غرار الكثير من المحللين العسكريين، فاجأ الأداء الضعيف للقوات الروسية في الحرب الأوكرانية، من أكبر الضباط إلى أصغر الجنود، النائب السابق لمساعد وزير الدفاع الأميركي والضابط السابق في وكالة الاستخبارات الأميركية ميك مولروي، الذي يرى أن الجيش الروسي كان يطرح نفسه منافساً لنظيره الأميركي، قبل أن يتبين اليوم أنه غير جدير بموقع أحد أقوى جيوش العالم.

وبعدما كان الجيش الأحمر يتمتع بقوة فائقة انتصر من خلالها على الجيش الألماني في معركتي ستالينغراد وكورسك في الحرب العالمية الثانية عام 1943، كشفت الحرب التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا عيوباً فاضحة.

وتحدث مولروي لـ”النهار العربي” عن فشل الجيش الروسي على جميع مستويات الحرب الحديثة، بدءاً من التخطيط العملياتي، ومناورات الأسلحة المشتركة، وصولاً إلى الخدمات اللوجستية. 

وكان  الصحافي والكاتب الألماني روجر بويز استذكر في مقالته في صحيفة “التايمز” البريطانية أمجاد الجيوش الروسية، من أيام  تهديد إيفان الرهيب باقتحام سهول شمال ألمانيا، وصولاً إلى زمن كانت   “منظمة حلف شمال الأطلسي” (الناتو) تخشى  شن الدبابات السوفيتية هجمات عبر الستار الحديدي، لمحاصرة هامبورغ وأخذها رهينة.

وعام 1981، أصدر البنتاغون كتيباً بعنوان “القوة العسكرية السوفيتية”، أظهر صواريخ موسكو بتفاصيل مروعة، فكان ذلك كافياً لإقناع المحاربين المضطربين بزيادة ميزانيات الدفاع في الشرق والغرب. 

أما اليوم، فأظهر اعتراض مكالمات هاتفية بين الجنود الروس في أوكرانيا وعائلاتهم وأصدقائهم خيبة الأمل السائدة. وقال أحد العناصر لصديقته: “أخذ بعض الرجال دروعاً من الجثث الأوكرانية لحماية أنفسهم… دروع الناتو أفضل من دروعنا”. وقال لأمه: “كان الجيش يضم 400 جندي مظلي، لكن نجا منهم 38 فقط، لأن قادتنا أرسلوهم إلى الموت”.  

ولطالما اشتكى الجنود من قادتهم، لكن الجهود الحربية التي يقودها بوتين اليوم باتت حاسمة لبقائه السياسي، في ظل نقص العناصر على الجبهات الأوكرانية المختلفة والإدارة السيئة للتعبئة الجزئية وفقدان الكرملين لما يعرف بـ”فضاء المعلومات”. وتحتدم اليوم السجالات الشرسة عبر التلفزيون الحكومي، وتنتشر انتقادات صريحة للقادة في الميدان، كما يسود شعور بأن النظام يفقد نفوذه.

والواقع أن تقدير روسيا للذات يرتبط بمكانة جيشها، وهي علاقة تعود إلى ما قبل الشيوعية. وبعد الأداء الروسي البائس في حرب القرم في خمسينيات القرن التاسع عشر، التي قُتل فيها 200 ألف شخص، شرع القيصر ألكسندر الثاني في إصلاح الجيش وتحديث الاقتصاد. وبعدما بدا الجيش الروسي أحد أعظم جيوش العالم، سُحق  في حرب عام 1905 ضد اليابان. وأدى ضعف القيادة العامة إلى الهزيمة في ساحة المعركة، ما أطلق إصلاحات مجزأة في التعليم العسكري وإصلاحاً اجتماعياً غير مكتمل، وأدى ذلك بدوره إلى اندلاع أعمال ثورية ومزيد من القمع. 

ويبدو أن الحرب في أوكرانيا تكتسب مكاناً في هذا العرض المحبط.

 عقب الثورة الروسية الأولى الملقبة بـ”ثورة شباط” (فبراير) 1917، تنازل القيصر الروسي نيكولا الثاني عن عرشه، معلناً بذلك نهاية النظام الإمبراطوري. فانهارت الإمدادات وخرجت الطوابير أمام المواد الغذائية عن السيطرة. وشهدت ميزانية الدولة حالة من الفوضى، لا سيما أن الحرب تتسبب بتضخم، ما يدفع الاضطرابات إلى ذروتها.

 ودفع التمرد عام 1905 حكام روسيا إلى وضع مأسوي. وحلت مكان النظام الامبراطوري حكومة الأمير غيورغي لفوف، التي انهارت بعد أشهر، لتمهد الطريق أمام حكومة ألكسندر كيرنسكي. وبعد أشهر قليلة، أطلق البلاشفة ثورة ثانية عرفت بـ”ثورة تشرين الأول” (أكتوبر)، وأدت إلى قيام الاتحاد السوفيتي.

ووصف المؤرخ الراحل نورمان ستون ثورة عام 1917 بأنها “تمرد ضخم”، مشيراً إلى أن الجيش بقي في المقدمة، لكنه لم يكن قادراً على القيام بأي عمل هجومي، وبالكاد يتمكن من الدفاع.

مع ذلك، يرى بوتين علاقة أكثر إثارة للقلق بين الجيش الساخط والاستقرار في الداخل، إذ كان انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان عام 1989 بداية رمزية لانهيار الاتحاد. وسعى بوتين في حروبه على مر السنين إلى التعويض عن الخسائر وإعادة هيكلة القوات المسلحة. فوعد الجنرالات بالاستقرار وزيادة الأجور والاستفادة من أسعار النفط المتزايدة. وكانت الخطوات تدريجية، لكنها جاءت بمثابة ارتياح لكبار الضباط، الذين يعتبرون سلفه بوريس يلتسين غريب الأطوار. وكانت خطة بوتين مبتذلة ولكن من السهل استيعابها، وهي تتمثل بمنح الجيش دوراً مركزياً في استعادة الكبرياء الوطني وتأكيد هيمنة روسيا على جيرانها والعالم.

وفي حرب الشيشان الثانية عام 1999، قصف بوتين، الذي كان في حينه رئيساً للوزراء يطمح لخلافة يلتسين، مدينة غروزني مستخدماً القنابل الحرارية لإسقاط مجمعات سكنية كاملة. وشاع تعقب المتمردين كما ظهرت أسلحة جديدة، منها طائرات الاستطلاع المسيرة. وكانت هذه الأفعال قبيحة لكنها ساعدت في ترسيخ بوتين كحليف للغرب في الحرب العالمية.    

ولم تتضح المشكلات المتعلقة بحرب بوتين للغرب إلا عندما شنت موسكو، عشية أولمبياد بكين عام 2008، هجوماً استمر خمسة أيام ضد جورجيا، التي كانت برئاسة ميخائيل ساكاشفيلي. وكان الأخير يميل إلى الغرب وينتمي إلى النوع الذي يفضله بوتين بين الأعداء، إذ كان معرضاً لأخطاء، ولديه جيش ضعيف، يكاد يضم 30 ألف رجل، فلم يحظ بفرصة أمام الروس. ووضعت جورجيا علمها في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وجندت مرتزقة، من دون أن تبذل جهداً كبيراً للاستيلاء على العاصمة تبليسي.

مع ذلك، كشفت العملية الخاطفة في جورجيا عن الكثير من نقاط الضعف في هيكل الجيش الروسي، رغم أنها كانت بقيادة محترفين. فبدت الطائرات المسيرة صاخبة، ما سمح بإسقاطها بسهولة. وأحرق الجنود ذخائرهم في أقل من يوم، وأُسقطت طائرات بنيران صديقة، كما قصفت روسيا مطارات خاطئة. في حينه، تبين أن محاولات بوتين لم تكن كافية.

الحرب السورية  

أقنعت عيوب هذه العملية بوتين بالتراجع. لكن بحلول عام 2014، ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها بدون وقوع أي خسائر. وبعد ذلك جاء التدخل المفاجئ في الحرب السورية، حيث سمح القصف الجوي الروسي للرئيس السوري بشار الأسد بحصار حلب. ودافع المرتزقة الروس من منظمة “فاغنر” عن منشآت الأسد للطاقة، ومنحت الاستخبارات العسكرية الروسية النظام السوري درعاً واقياً. فسيطرت روسيا على المجال الجوي السوري، واعتبر بوتين تدخل دولته نجاحاً لإصلاحاته العسكرية.

وأظهرت سوريا كيف يمكن أن تكون القوة الجوية الروسية وخبرة الحرب الحضرية حاسمتين في الحفاظ على نظام صديق ونفوذ روسي في الشرق الأوسط.

وسرعان ما بدأ الضباط المشاركون في عملية ضم القرم والحرب السورية بإلقاء محاضرات في الأكاديميات العسكرية الروسية. وارتفعت مبيعات الأسلحة الروسية في الخارج ارتفاعاً حاداً، وكذلك شعبية الوظائف العسكرية.

إخفاقات الجيش الروسي في أوكرانيا 

في المقابل، فاجأت الحرب في أوكرانيا الأوساط السياسية والعسكرية وأظهرت فشل بوتين والجنرالات الروس. وبرزت ثلاث مشاكل أساسية تجنبها بوتين خلال 22 سنة من الحكم، أبرزها الستار المظلم الذي يخفي نطاق التعبئة.

ويرى البعض أن الوضع الصعب في روسيا سيدفع إلى إعادة تعريف “العملية الخاصة” في أوكرانيا على أنها “عملية لمكافحة الإرهاب”. وقد يمنح ذلك النظام امكانية الاعلان عن الأحكام العرفية في المناطق الأقرب من الحدود الأوكرانية.

وكشفت محادثات تعود إلى آذار (مارس)، رصدتها الاستخبارات الأوكرانية واطلعت عليها صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية حديثاً عن مذابح وإطلاق نار عشوائي لاستهداف أوكرانيين. وتشمل الجهات المعنية بتنفيذ ذلك وحدات كانت تعتبر من نخبة الجيش الروسي، منها فوج الحرس 331 المحمول جواً.

وانعكست هذه الفوضى على الداخل، إذ تضاءل عدد الرجال في مدينة يبلغ عدد سكانها 12 مليوناً، وتراجع عدد المثقفين، الذين غالباً ما يحملون جوازات سفر تمكنهم من الانتقال إلى الخارج. وفر معارضون للكرملين خوفاً من السجن أو الاضطهاد، لكن غالبية الرجال الذين غادروا في الأسابيع الأخيرة إما تم استدعاؤهم للخدمة في الجيش، أو حاولوا تجنب التجنيد، وشعروا بالقلق إزاء اغلاق روسيا الحدود. وتوجه حوالي 200 ألف رجل إلى كازاخستان المجاورة، حيث يمكن للروس الدخول بدون جواز سفر. وفر عشرات الآلاف من الأشخاص الآخرين إلى جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وإسرائيل والأرجنتين وأوروبا الغربية.

واللافت أن الانتقادات تأتي من جميع أركان القوات المسلحة، حتى الذين يريدون القتال، لكنهم يشعرون بالإحباط بسبب الانهيار داخل التسلسلات الهرمية العسكرية.

واشتكى جنود الاحتياط الذين حُشدوا حديثاً في مدينة كازان علناً للسلطات العسكرية المحلية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين بتدريب عسكري حقيقي قبل إرسالهم إلى أوكرانيا. وقال أحدهم: “لم نطلق رصاصة واحدة خلال أسبوع… تم نقلنا إلى ميدان إطلاق النار وتلقينا دروساً نظرية. اليوم أمضينا ثلاث ساعات في سحب سلاح من المستودع، وأربع ساعات في استعراض عسكري، ثم ثلاث ساعات أخرى في إعادة الأسلحة”. وأضاف: “لا نتهرب من التجنيد، بل نستجيب لنداء الوطن، رغم أن الكثيرين لديهم إعفاءات صحية، لكننا لا نريد أن نذهب للقتال في الصفوف الأمامية بدون أي تدريب”. 

 وإلى جانب هذا الخداع الجماعي للقوات المستقبلية، تبرز مسألة ثقافية داخل الثكنات تزيد من وحشية السلوك في ساحة المعركة. ويُجبر المجندون الشباب على ترتيب أسِرة الجنود الأكبر سناً وتلميع أحذيتهم ووضع سيجارة تحت وسائدهم والاستعداد لعواقب التباطؤ في تنفيذ ذلك.

في النتيجة، أطلقت هذه الاخفاقات حركة مناهضة للحرب، يدفعها غضب متصاعد بسبب عدم كفاءة المجهود الحربي، ما قد يكون أكثر خطورة على بوتين.

ويشدد مولروي على ضرورة تحديد الكرملين أهدافه الاستراتيجية والالتزام بها. وفي وقت زعمت روسيا أنها غزت أوكرانيا جزئياً بسبب مخاوفها من توسع “الناتو”، أكد مولروي أن الحلف لم يكن ليتوسع لولا غزو أوكرانيا، مشيراً إلى ضم فنلندا والسويد، وهي خطوة لم تتخذها الدولتان طوال الحرب الباردة. وخلص إلى أن روسيا حققت بأخطائها ما كانت تخشاه، إذ أصبح “الناتو” أكثر أهمية مما كان عليه منذ أكثر من 30 سنة، وأعاد إحياء دوره.

لذا، استبعد مولروي إمكانية فوز بوتين في أوكرانيا، لا سيما أنه لجأ إلى كل الوسائل المتاحة تقريباً باستثناء السلاح النووي، بما في ذلك الانتهاكات الجسيمة لقانون النزاعات المسلحة. وفي وقت تتلاشى القوة القتالية الروسية، يواصل الغرب بقيادة الولايات المتحدة، دعم أوكرانيا بأنظمة أسلحة أكثر تطوراً تعزز قدراتها العسكرية.

النهار العربي

——————–

=======================

تحديث 18 كانون الثاني 2023

——————————–

عن ليونة روسية في مجلس الأمن حيال سورية/ حسين عبد العزيز

على غير العادة، سارت جلسة مجلس الأمن، المخصّصة لمناقشة تمديد الآلية الأممية لإدخال المساعدات إلى سورية، بيسر وسهولة، فلم يحدُث أي تهديد روسي باستخدام حق النقض (الفيتو)، ولم يحدُث أي اعتراض أو مطالبة روسية بتعديل في فقرات مشروع القرار كما حدث في الجلسات السابقة على مدار الأعوام الثمانية الماضية. وحتى النظام السوري ذاته، وعلى غير العادة، لم يقدّم أي اعتراضات على نص مشروع القرار 2672، كما فعل في جلسات عديدة سابقة، حيث تجري الأمم المتحدة مشاورات غير رسمية مع الأطراف المعنية بالمسوّدة (والتي لا تكون أعضاء في مجلس الأمن) من مبدأ سيادة الدول أولا، ومن مبدأ الحرص على تعاون جميع الدول التي يخصها الأمر ثانيا. ولم يختلف نص القرار الدولي 2672 عن منطوق القرار السابق 2642 في يوليو/ تموز من عام 2022، فقد نصّ القرار الجديد، كما السابق، على أن مجلس الأمن يقرّر تمديد العمل بالإجراءات التي أقرّها في الفقرة الثانية من قراره 2642 (2022)، وتمديد العمل بالفقرتين الثانية والثالثة اللتين أقرّهما قراره 2642 (2014)، ستة أشهر، أي حتى 10 يوليو/ تموز 2023، وذلك فقط عبر معبر باب الهوى الحدودي.

ودعا القرار الجديد، كما القرار السابق، جميع الدول الأعضاء إلى الاستجابة بخطوات عملية لتلبية الاحتياجات الملحّة للشعب السوري في ضوء التأثير الاجتماعي ـ الاقتصادي والإنساني العميق الذي أحدثته جائحة كوفيد 19 على سورية، باعتبارها بلدا يمرّ بحالة طوارئ إنسانية معقّدة. وحث القرار على تكثيف مزيد من المبادرات لتوسيع الأنشطة الإنسانية في سورية، بما في ذلك المياه والصرف الصحي والصحة والتعليم والكهرباء، حيثما تكون ضرورية، لاستعادة الوصول إلى الخدمات الأساسية ومشاريع الإنعاش المبكّر التي تضطلع بها المنظمّات الإنسانية.

تواصل روسيا، منذ سنوات، الضغط على الأمم المتحدة لتعطيل الآلية الأممية عبر الحدود واستبدالها عبر الخطوط، أي جعل المساعدات تصل إلى دمشق، على أن يوزّعها النظام السوري إلى كل المناطق، بما فيها تلك الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية وتلك الخاضعة للسيطرة الكردية. ولكن هذه الاستراتيجية لقيت وتلقى معارضة غربية شديدة، لأن من شأن تسليم النظام السوري ملف المساعدات، أن يعني تحكّمه فيها حسب مصالحه، فضلا عن أن إدخال المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري عبر دمشق سيعرقل وصول المساعدات بسبب بيروقراطية النظام السوري من جهة، والبعد الجغرافي من جهة أخرى.

ومع نجاح روسيا في إغلاق ثلاثة معابر حدودية (معبر اليعربية ـ ربيعة، باب السلام ـ نجو بينار، درعا ـ الرمثا)، وفي تقليص مدة تمديد الآلية الأممية من 12 شهرا إلى ستة أشهر، وإجبار الأمم المتحدة على دعم عمليات الإنعاش المبكر، لم تقدم هذه المرّة على ممارسة أي ضغط حيال هذا الملف، ويعود ذلك إلى سببين رئيسيين: الأول، التقارب الذي ترعاه روسيا بين تركيا والنظام السوري، حيث تخشى روسيا من أن يؤدّي تشدّدها تجاه الآلية الأممية لإدخال المساعدات إلى إثارة غضب أنقرة في وقت تحتاج فيه روسيا إلى تركيا أشدّ الحاجة، سواء تعلق الأمر بالملف الأوكراني أو بملف التقارب مع دمشق. وبالنسبة لتركيا، يعد ملف إدخال المساعدات عبر الحدود (باب الهوى ـ جيلفا جوزو)، عاملا رئيسا في دعم مشروع إعادة توطين اللاجئين السوريين الموجودين في أراضيها داخل الأراضي السورية، ذلك أن إعادة مليون لاجئ سوري كما هو مخطط له من الحكومة التركية، سيزيد الضغط الإنساني في الشمال السوري، ومن شأن إيقاف إدخال المساعدات عبر الحدود أن يؤدّي إلى كارثة إنسانية تدفع السوريين للهروب إلى تركيا، في وقتٍ يعمل فيه الرئيس أردوغان إلى التخفيف من عبء اللجوء السوري.

الثاني، تدهور الأوضاع الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام، وهو وتدهور كان الأسوأ خلال الأعوام العشرة الماضية، فقد انخفضت الليرة مقابل الدولار خلال شهرين من 5200 ليرة سورية للدولار الواحد إلى نحو 7000 ليرة للدولار الواحد، وفُقدت مادتا البنزين والمازوت، فيما يستمر انقطاع الكهرباء لنحو عشرين ساعة في اليوم الواحد. وقد أدت كل هذه الأمور إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع الغذائية وفي المواصلات، وأجبرت حكومة النظام على خفض دعم الوقود للموظفين الحكوميين بنسبة 40%.

ويعود السبب الرئيسي للتدهور السريع للأوضاع الاقتصادية في الأشهر القليلة الماضية إلى عاملين: تشديد الولايات المتحدة منعها وصول ناقلات نفط إلى سورية، مستغلة الأزمة الروسية في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية في إيران، حيث تمنع واشنطن ناقلات نفط إيرانية عديدة من المرور عبر قناة السويس، في وقت تمنع فيه إيران ومليشياتها في العراق من إدخال النفط عبر معبر البوكمال على الحدود العراقية. الضربات العسكرية التركية عبر الحدود ضد المواقع التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، أدّت إلى إيقاف عمل بعض حقول النفط، ما خفض الإنتاج الذي يباع جزءٌ كبير منه إلى النظام السوري بأسعار منخفضة.

وأمام الخشية من تدهور الأوضاع الاجتماعية نتيجة الأزمة الاقتصادية، ظهرت ليونة روسيا والنظام السوري، وقد قال مندوب الأخير لدى الأمم المتحدة بسام صباغ: “إن سورية تؤكد على ضرورة توفير الكهرباء ومستلزمات الطاقة للخدمات الأساسية، وإقامة مشاريع الطاقة المتجددة الداعمة لقطاع الكهرباء، وإضافة قطاعات حيوية ضمن مشاريع التعافي المبكر، وخاصة دعم العمل الميداني في مجال إزالة الألغام والمخلفات غير المنفجرة، إلى جانب زيادة حصة مشاريع التعافي المبكر بشكلٍ أكبر في إطار خطة الاستجابة الإنسانية، والتوسع في تلك المشاريع كما ونوعا، ودعم الجهود الرامية إلى توفير الخدمات الأساسية لضمان العودة الكريمة والآمنة والطوعية للاجئين، وتقديم الدعم للعائدين داخل سورية”.

وتدعم الأمم المتحدة وشركاؤها مشاريع الإنعاش المبكر ودعم سبل المعيشة في خمسة مجالات متمايزة، هي: إصلاح وترميم البنى التحتية المدنية الحيوية، إزالة الأنقاض والنفايات الصلبة، الأنشطة المدرّة للدخل وإجراءات التدخل المستندة إلى السوق، التدريب المهني والتدريب على المهارات، التماسك الاجتماعي وإجراءات التدخل المجتمعية.

العربي الجديد،

———————————

بوتين..تشكيلات وقف الحرب أم تصعيدها/ بسام مقداد

في 11 الشهر الجاري أجرت وزارة الدفاع الروسية تشكيلات دورية في قيادة “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، حل بموجبها قائد الأركان الروسية فاليري غيراسيموف مكان القائد السابق سيرغي سورافيكين. وجرى تعيين الأخير نائبا لقائد العملية إلى جانب جنرالين آخرين. وتتواصل التخمينات حول الهدف من التشكيلات الجديدة بعد أن جرى تغيير قائد العملية أكثر من مرة منذ إندلاعها في شباط/فبراير العام المنصرم. والمستهجن في التشكيلات الجديدة هو تعيين قائد الأركان مكان القائد السابق، حيث من المفترض أن تتولى قيادة الأركان كل شؤون الجيش الروسي وعملياته وهو من صلب صلاحياتها في كل جيوش العالم. وهذا الأمر جعل الكثيرين يفسرونه بأن الأركان العامة كانت مستبعدة من “العملية الخاصة”، ويشرف على تسييرها مكان آخر. لكن التفسير الذي يجمع عليه معظم المراقبين والمحللين أن التشكيلات الجديدة تمهد للهجوم الروسي في الربيع القادم. ويرفع من حظوظ هذا التفسير ما أعلنته وزارة الدفاع من أن للتشكيلات ترتبط بتوسيع مهمات “العملية الخاصة”، ورفع مستوى التنسيق بين مختلف أسلحة القوات المسلحة، وكذلك رفع مستوى تأديتها وفعلية قيادتها. وتدعم وزارة الدفاع تبريرها للتشكيلات بتعيين قائد العملية السابق سورافيكين وقائد سلاح المشاة ونائب قائد الأركان نواباً للقائد الجديد.

صحيفة القوميين الروس Sp نشرت في 14 الجاري نصاً بعنوان “”إختراق غيراسيموف” الربيعي، هو ما يخشاه الغرب”، وأرفقته بآخر ثانوي “كلما تنوعت التقنيات التي يرسلها الناتو، كلما إبتعدت أوكرانيا عن إنشاء جيش جاهز فعلاً للقتال”.

تغلب على نص الصحيفة لغة البروباغندا المعهودة في كل نصوصها. لكن معظم النص كرسته لمقتطفات موجزة مما نشره الإعلام الغربي من تعليقات على التشكيلات الجديدة. قدمت للنص بالقول أن مهمة غيراسيموف الرئيسية ـــــ شن هجوم ربيعي حاسم، حيث سيتعين عليه طرد القوات الأوكرانية بعيداً عن حدود الدونباس التي يخطط الجيش الأوكراني شن “عمليات تخريبية” منها.

تنقل الصحيفة عن CNN قولها بأن الأشهر القادمة ستكون حاسمة في ظل قيادة غيراسيموف، حيث سيتم زج قوات الإحتياط في المعركة من الذين تم تجنيدهم في ربيع السنة الماضية. ولأنه كان ويبقى قائد الأركان العامة بوسعه تحسين التنسيق بين مختلف أسلحة القوات المسلحة، وهو ما يشكل المهمة الرئيسية عشية الهجوم الحاسم. كما سيجمع غيراسيموف بين قيادته المباشرة للحملة في أوكرانيا مع دور المفاوض الرئيسي مع الولايات المتحدة بشأن تسوية النزاع. إضافة إلى المرات العديدة التي تواصل فيها غيراسيموف مع القيادة العسكرية الأميركية خلال العام المنصرم، إتصل آخر مرة مع قائد أركان الجيوش الأميركية مارك ميللي في تشرين الثاني/نوفمبر حين وقعت القذيفة الأوكرانية الضادة للصواريخ في بولونيا (حينها أكدت جميع المصادر أن صاروخاً روسيا تحطم فوق قرية بولونية).

تقول الصحيفة لاحقاً بما لا يفهم منه إن كانت تواصل النقل عن CNN أو أنها تعلق على الكلام. فترى أن غيراسيموف قد يستخدم الجمع بين موقعيه للضغط في المفاوضات على الولايات المتحدة، وهو ما يتناسب كلياً مع إستراتيجية الحرب الهجينة التي أدخلها غيراسيموف العام 2013  في العلم العسكري الروسي.

تنقل الصحيفة عن معلق في ال”واشنطن بوست” قوله بأن غيراسيموف أمام تحدٍ جدي بجعل “العملية الخاصة” عالية التقنية أكثر. فالوسائل منخفضة التقنية التي تستخدم الآن في حرب الإستنزاف التي تقتصر على تبادل القصف المدفعي وعمليات الدبابات لم تعد كافية في هجوم الربيع. غيراسيموف سوف يزود القوات المهاجمة ليس بالأسلحة الحديثة، بل بالأسلحة عالية التقنية، والتي تتضمن الطائرات المسيّرة، الأسلحة المتحركة ووسائل الإرشاد عبر الأقمار الإصطناعية. كما على غيراسيموف تعزيز الإتصالات بين القوات المهاجمة والمدافعة.

موقع INOSMI في نوفوستي المتخصص بترجمة الصحافة العالمية نقل في 15 الجاري عن المطبوعة الكرواتية Advance قولها في العنوان الطويل لنصها عن تعيين غيراسيموف قائداً لمجموعة القوات الروسية في أوكرانيا بأنه “أهم قرار عسكري لبوتين”، وبأنه “ضربة قوية لأنصار الإجراءات المتشددة، نهاية مرحلة التراجعات وبداية مقاربة جديدية نهائية”. تقول المطبوعة أن القرار سيسمح لروسيا في المستقبل القريب بتغيير مسار “العملية الخاصة” بعمليات هجومية واسعة ونشيطة”.

ترى الصحيفة أنه حين تجري مناقلات في القيادات العليا في خضم الصراع المسلح، فهذا يعني أن الأمر ليس كما يرام. منذ مدة قريبة أجرت روسيا عملية مناقلات وسط القيادة، ومن جديد تبدل قيادات”العملية الخاصة”.

تقول الصحيفة أن قائد العملية السابق سيرغي سورافيكين معروف في الإعلام كشخص متصلب وقاسٍ يستطيع أن يغير الواقع على الأرض في فترة قيادته “العملية الخاصة”، “لكن هذا لم يحصل كما نرى”. وتلقت روسيا في فترة قيادته ضربات قاسية، وكان إستبداله “متوقعاً جداً”، لكن حلول غيراسيموف مكانه “اثار دهشة الكثيرين”.

وتشير الصحيفة إلى أن المدونين وناشطي التواصل الإجتماعي الروس المعادين للغرب ينتقدون بشدة فاليري غيراسيموف. والسبب الأول لهذه الإنتقادات هو الميزانية الكبيرة التي أنفقتها روسيا في عهده (يتولى قيادة الأركان منذ العام 2012) لتحديث الجيش الروسي وتسليحه، لكن من دون نتيجة. فالكثيرون كانوا يتوقعون أن تخوض روسيا الحرب في أوكرانيا كدولة عظمى، لكن، وبدلاً من ذلك، تخوض المعارك على المستوى عينه مع أوكرانيا. صحيح أن أوكرانيا تتلقى إمدادات سلاح كبيرة من الغرب، لكن الصحيح أيضاً أن مقاتليها يتمتعون بروح معنوية أرفع بكثير مما لدى الروس.

حين بدأ وضع روسيا على الجبهة يتدهور جدياً، بدأت حملات إنتقاد حاد تشن على غيراسيموف، وخاصة من رئيس مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين والزعيم الشيشاني رمضان قاديروف. بلغ الرجلان في إنتقادهما غيراسموف بأن إتهماه بتدمير الجيش الروسي، ووصفاه بأنه ضعيف يتوارى بعيداً عن الجبهة. لم يتناول كلا الرجلين بوتين بالإنتقاد، مع العلم أن إنتقاد غيراسيموف هو، بمعنى ما، إنتقاد لبوتين، لكنهما لم يوفرا وزير الدفاع سيرغي شويغو من إنتقادهما.

ترى الصحيفة أن تعيين غيراسيموف كان رسالة من بوتين لمن كان يتوقع ويطالب بإقالته من منصبه. وتقول بأن روسيا تكشف عاهاتها المزمنة  في الفترات الآولى من حروبها، ثم تعمل على تسويتها لاحقاً. والمرحلة التي قاد فيها سيرغي سورافيكين والقائد الذي سبقه تميزت بكونها مرحلة كشف العاهات، ولذلك جاء تعيينه نائباً لقائد العملية، وليس إقالته، رسالة من بوتين لمن بنى حساباته على إبعاد “الفاشلين” من منافسيه.

مدونة نشرت على موقع Kasparov المعارض نصاً مقتضباً بعنوان يعني ما الفائدة من المناقلات. ترى أن الجميع مصدوم من جماعة بريغوجين حتى العسكريين، فهم لا يفهمون معنى القرار، وبعض العارفين يعتبرونه خطوة “بنت لحظتها” ومفاجئاً. وهو ليس ترفيعاً لغيراسيموف، ففي الفترة الأخيرة تتخذ الخطوات ليس لبلوغ أمر ما، بل لتفادي أمر ما. وبما أنه ليس من “إنجازات” في الفترة لأخيرة، بوتين غارق في المناظرات بشأن المسائل الروسية الأبدية: “من المسؤول” و “ما العمل”؟

الخلاصة: بوتين يبحث عن تكتيك فعال في ظل الخسارة “الزاحفة”، ويحاول إعادة ترتيب حجارة الشطرنج. غيراسيموف يبدو له مقنعاً الآن، لكن غداً سيبدو له شخص آخر، ويذهب غيراسيموف. كم مرة وجه بوتين الإهانة علناً لكبار مرؤوسيه، “كلهم حمقى”، لكن لا يوجد سواهم. هذا هو منطق قرار بوتين. لكن المشكلة ليست في الأشخاص، بل في المهمات المطروحة.

—————————

=================

تحديث 28 كانون الثاني 2023

———————

معركة بوتين الأخيرة: بشائر الهزيمة الروسية وأخطارها/ ليانا فيكس و مايكل كيماج

كان من المفترض أن تكون حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا تتويجاً لإنجازاته، وإثباتاً للتقدم الذي أحرزته روسيا منذ انهيار الإمبراطورية السوفياتية عام 1991. وكان يفترض أيضاً أن يشكل ضم أوكرانيا خطوة أولى في إعادة بناء إمبراطورية روسية. لقد كان بوتين ينوي فضح حقيقة أن الولايات المتحدة خارج أوروبا الغربية هي “نمر من ورق” [أي أنها دولة قوية ظاهرياً وضعيفة في الواقع] وإثبات أن روسيا، إلى جانب الصين، قدر لها أن تؤدي دوراً قيادياً في نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

بيد أن الأمور لم تسر بهذه الطريقة. صمدت كييف، وتحول الجيش الأوكراني إلى قوة هائلة، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى الشراكة الوثيقة مع الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين. في المقابل، أظهر الجيش الروسي تفكيراً استراتيجياً وتنظيماً ضعيفين، وتبين أن النظام السياسي الذي يقف وراءه ويدعمه غير قادر على التعلم من الأخطاء المرتكبة. وفي ظل وجود أمل ضئيل في أن تتمكن دول الغرب من أن تملي على بوتين تصرفاته، سيتعين عليها الاستعداد للمرحلة التالية من الحرب الكارثية التي اختارت روسيا شنها.

في الواقع، تتسم الحرب بطبيعة لا يمكن التنبؤ بها. وأدى مسار الصراع إلى إبطال التكهنات المبكرة الواسعة الانتشار بأن أوكرانيا ستسقط بسرعة، إذاً من المستحيل استبعاد تبدل مسار الظروف بشكل مفاجئ. وعلى رغم ذلك، يبدو أن روسيا تتجه نحو الهزيمة، إلا أن ما ليس معروفاً على وجه اليقين هو الشكل الذي ستتخذه هذه الهزيمة. وفي ذلك الإطار، هناك ثلاثة سيناريوهات أساسية، سيكون لكل منها تداعيات مختلفة على صانعي السياسة في الغرب وأوكرانيا.

الكلام ليس سبيلاً للنجاة

سيكون من الصعب لا بل من المستحيل ربما محاولة إقناع بوتين بالهزيمة من خلال المفاوضات (بينما سيصبح ذلك أكثر ترجيحاً في عهد خليفة له). وسيطالب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي موسكو بالتخلي عن مزاعمها بأحقيتها في الأراضي التي تسيطر عليها روسيا شكلياً في دونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزابوريجيا، بيد أن بوتين سبق أن أقام احتفالاً كبيراً متفاخراً بضم هذه المناطق، ومن المستبعد أن يغير موقفه بعد هذا التباهي والاستعراض الوطني على رغم سيطرة روسيا الضعيفة على هذه المنطقة. وأي زعيم روسي، سواء كان بوتين أو أي شخص آخر، سيعارض التنازل عن شبه جزيرة القرم، وهي جزء من أوكرانيا ضمته روسيا عام 2014.

والجدير بالذكر أن الظروف على أرض الواقع في روسيا يجب أن تكون مواتية لتقديم تنازلات. وسيتعين على القيادة الروسية الجديدة أن تتعامل مع جيش محبط والمراهنة على رأي عام راضخ وراض بالاستسلام. ومن الممكن أن يصبح الروس في النهاية غير مبالين إذا استمرت الحرب من دون حل واضح. لكن من المرجح أن يستمر القتال في أجزاء من شرق أوكرانيا، وأن تظل التوترات بين البلدين شديدة.

وعلى رغم ذلك، ربما يؤدي الاتفاق مع أوكرانيا إلى تطبيع العلاقات مع الغرب. وسيشكل ذلك حافزاً قوياً لزعيم روسي أقل عسكرة من بوتين، وسيجذب عدداً كبيراً من الروس. يمكن أيضاً إقناع القادة الغربيين بالضغط من أجل مفاوضات ترمي إلى إنهاء الحرب، بيد أن العقبة هنا هي التوقيت. في الشهرين الأولين بعد غزو فبراير (شباط) 2022، أتيحت لروسيا فرصة للتفاوض مع زيلينسكي والاستفادة من قوتها في ساحة المعركة. ولكن بعد الهجمات المضادة الناجحة التي شنتها أوكرانيا، لم يكن لدى كييف سبب وجيه للتنازل عن أي شيء على الإطلاق. ومنذ الغزو، صعدت روسيا الموقف ورفعت حدة أعمالها العدائية السابقة عوضاً عن إظهار استعداد لتقديم تنازلات. لكن من الممكن أن ينجح زعيم أقل عناداً من بوتين في دفع أوكرانيا إلى التفكير في التفاوض. وفي مواجهة الهزيمة، ربما يلجأ بوتين إلى التهجم على المسرح العالمي. لقد وسع بشكل مطرد إطار اتهاماته في هذه الحرب، مدعياً أن الغرب يخوض معركة بالوكالة ضد روسيا بهدف تدمير البلاد. وكانت خطاباته عام 2022 عبارة عن نسخ أكثر جنوناً لخطابه في مؤتمر ميونيخ الأمني قبل 15 عاماً الذي شجب فيه الاستثنائية الأميركية، بحجة أن الولايات المتحدة “تجاوزت حدودها الوطنية من كل النواحي”.

في الواقع، إن خطاب بوتين الذي يعتبر مزيجاً من التبجح والترهات وجس النبض كان يهدف إلى حشد الروس عاطفياً. ولكن هناك أيضاً منطقاً تكتيكياً وراء ذلك: على رغم أن توسيع الحرب خارج أوكرانيا لن يساعد بوتين في الفوز بالمنطقة التي يتوق إلى السيطرة عليها، إلا أنه قد يمنع أوكرانيا والغرب من كسب الصراع. وتمهد لغة بوتين العدائية الطريق للتصعيد ومواجهة القرن الـ21 مع الغرب التي ستسعى روسيا من خلالها إلى استغلال ميزاتها الخاصة كدولة مارقة أو إرهابية.

ربما تشمل أدوات المواجهة الروسية استخدام الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية داخل أوكرانيا أو خارجها. ويمكن لبوتين تدمير خطوط أنابيب الطاقة أو البنية التحتية الموجودة في قاع البحار أو شن هجمات إلكترونية على المؤسسات المالية في الغرب. وقد يكون استخدام الأسلحة النووية التكتيكية هو ملاذه الأخير. في خطاب ألقاه في 30 سبتمبر (أيلول)، أثار بوتين موضوع هيروشيما وناغازاكي، وقدم تفسيرات مشوشة لمرحلة نهاية الحرب العالمية الثانية. ولكن بعبارة ملطفة، هذه المقارنة غير دقيقة. إذا كانت روسيا ستستخدم سلاحاً نووياً تكتيكياً في أوكرانيا، فهذا لن يجعل كييف تستسلم. وأحد الأسباب هو أن الأوكرانيين يعرفون أن الاحتلال الروسي يعادل زوال بلادهم، بينما كان الوضع مختلفاً بالنسبة إلى اليابان عام 1945. إضافة إلى ذلك، كانت اليابان تخسر الحرب في ذلك الوقت. في المقابل، اعتباراً من أواخر عام 2022، فإن الجهة الخاسرة كانت روسيا، القوة النووية.

ستكون عواقب أي هجوم نووي كارثية، وليس على الشعب الأوكراني فحسب. وعلى رغم ذلك، ستستمر الحرب، ولن تقدم الأسلحة النووية مساعدة تذكر للجنود الروس على الأرض، بل ستواجه روسيا بسببها غضباً دولياً. حتى هذه اللحظة، لم تدن البرازيل والصين والهند الغزو الروسي، ولكن لا توجد أي دولة تدعم موسكو حقاً في حربها المروعة، ولن يدعم أي منها استخدام الأسلحة النووية. لقد أوضح الرئيس الصيني شي جينبينغ ذلك علناً في نوفمبر (تشرين الثاني)، فبعد أن التقى بالمستشار الألماني أولاف شولتز، أصدر بياناً أعلن فيه أن القادة “يعارضون بشكل مشترك استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها”. وإذا تحدى بوتين هذا التحذير، فسيتحول إلى شخص منبوذ ومعزول، معاقب اقتصادياً وربما عسكرياً من قبل تحالف عالمي.

إذاً، بالنسبة إلى روسيا، فإن التهديد باستخدام أسلحة نووية له فائدة أكبر من استعمالها حقاً على أرض الواقع، بيد أن بوتين قد يتابع سيره في هذه الدرب: فعلى رغم أن الغزو كان خطوة غير مدروسة على الإطلاق، إلا أنه أقدم عليها. وإذا اختار كسر المحرمات النووية، فمن غير المرجح أن يرد حلف “الناتو” بالمثل، وذلك من أجل تجنب المخاطرة بوقوع مواجهة نووية كارثية. في المقابل، من المرجح أن يرد الحلف بالقوة التقليدية من أجل إضعاف الجيش الروسي ومنع مزيد من الهجمات النووية، مما يخاطر بحدوث دوامة تصعيدية إذا ردت روسيا بدورها على “الناتو” بهجمات تقليدية.

حتى لو أمكن تجنب هذا السيناريو، ستبقى لهزيمة روسيا بعد الاستخدام النووي تداعيات خطرة، إذ إنها ستخلق عالماً يفتقر إلى التوازن النووي غير المثالي الذي كان موجوداً في الحرب الباردة وخلال حقبة استمرت 30 عاماً بعد الحرب الباردة. وستشجع القادة في جميع أنحاء العالم على اللجوء إلى الأسلحة النووية، إذ سيبدو بالنسبة إليهم أن سلامتهم لن تكون مضمونة إلا من خلال الحصول على أسلحة نووية وإبداء الاستعداد لاستخدامها. وسيترتب على ذلك عصر انتشار فوضوي، الأمر الذي سيلحق ضرراً بالغاً بالأمن العالمي.

العبء ثقيل

حتى الآن، لم ينتفض الجمهور الروسي لمعارضة الحرب. ربما يكون الروس متشككين في شأن بوتين وغير واثقين بحكومته، بيد أنهم في الوقت نفسه لا يريدون لأبنائهم وآبائهم وإخوانهم الذين يرتدون الزي العسكري أن يخسروا في ساحة المعركة. بعد أن اعتاد معظم الروس على مر القرون على مكانة روسيا كقوة عظمى وعلى عزلتهم عن الغرب، فإنهم لا يرغبون في أن تصير بلادهم مجردة من أي قوة ونفوذ في أوروبا، علماً أن ذلك سيكون نتيجة طبيعية لهزيمة روسيا في أوكرانيا.

على رغم ذلك، فإن حرباً طويلة من شأنها أن تلزم الروس مستقبلاً قاتماً ومن المحتمل أن تشعل شرارة ثورية في البلاد. لقد وقعت إصابات كثيرة في صفوف الروس، ومع تنامي قوة الجيش الأوكراني فهو قد يتسبب في خسائر أكبر. وفي الواقع، كان نزوح مئات آلاف الشباب الروس، ومن بينهم كثيرون من ذوي المهارات العالية، مثيراً للعجب. بمرور الوقت، سيؤدي مزيج الحرب والعقوبات وهجرة الأدمغة إلى أضرار جسيمة، وقد يلقي الروس اللوم في النهاية على بوتين الذي انطلق في مسيرته الرئاسية معلناً نفسه مؤيداً للتحديث والتجديد. والجدير بالذكر أن الروس بمعظمهم كانوا بمأمن من حروبه السابقة لأنها بشكل عام حدثت بعيداً من الجبهة الداخلية ولم تكن تحتاج إلى تعبئة جماهيرية لسد النقص في صفوف الجنود. ولكن هذه ليست الحال بالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا.

تمتلك روسيا تاريخاً عريقاً في تغيير النظام في أعقاب الحروب الفاشلة. لقد ساعدت الحرب الروسية- اليابانية في 1904–1905 والحرب العالمية الأولى على اندلاع الثورة البلشفية. ثم عام 1991، جاء انهيار الاتحاد السوفياتي بعد عامين على انتهاء المغامرة العسكرية السوفياتية السيئة في أفغانستان. كذلك، اندلعت ثورات في روسيا عندما فشلت الحكومة في تحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية ولم تكن تستجيب للأزمات. عموماً، ما شكل الضربة القاضية كان انهيار الأيديولوجيا الأساسية التي اتبعتها الحكومة، مثلما حدث عندما فقد النظام الملكي والقيصرية شرعيتهما في روسيا وسط الجوع والفقر والجهود الحربية المتعثرة عام 1917.

إن بوتين معرض للخطر في كل تلك التصنيفات المذكورة، إذ إن إدارته للحرب مروعة، وبطريقة موازية فالاقتصاد الروسي يشهد انكماشاً تحت حكمه. وفي مواجهة هذه الاتجاهات الكئيبة، استمر بوتين في ارتكاب الأخطاء نفسها، وبقي مصراً طوال الوقت على أن الحرب تسير “وفقاً للخطة”. في الحقيقة، يمكن للقمع أن يحل بعض مشكلاته، فالقبض على المعارضين ومحاكمتهم قد يهدئ الاحتجاجات في البداية، بيد أن قبضة بوتين الحديدية تنطوي أيضاً على خطر إثارة مزيد من الاستياء.

وإذا أطيح بوتين، فمن غير الواضح من سيخلفه. للمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة عام 1999، فإن “سلطته العمودية”، وهي عبارة عن تسلسل هرمي حكومي شديد المركزية يعتمد على الولاء للرئيس الروسي، فقدت بعضاً من عموديتها. وهناك متنافسان محتملان خارج هياكل النخبة التقليدية، هما يفغيني بريغوزين، رأس مجموعة “فاغنر”، وهي مجموعة عسكرية تعاقدية خاصة وفرت المرتزقة للحرب على أوكرانيا، ورمضان قديروف، زعيم جمهورية الشيشان. ربما يميلان إلى التخلص تدريجاً من بقايا سلطة بوتين العمودية، مما يشجع الاقتتال الداخلي في النظام على أمل الحصول على موقع مهم في هيكل السلطة الجديد لروسيا بعد رحيل بوتين. يمكنهما أيضاً محاولة الاستحواذ على تلك السلطة. لقد سبق أن بدآ يمارسان ضغوطاً على قيادة الجيش الروسي ووزارة الدفاع رداً على الإخفاقات في الحرب، وحاولا توسيع قواعد سلطتهما بدعم من القوات شبه العسكرية الموالية. في المقابل، يمكن أن يأتي متنافسون آخرون من دوائر النخبة التقليدية، على غرار الإدارة الرئاسية أو مجلس الوزراء أو الجيش وقوات الأمن. ومن أجل إحباط المكائد المحاكة في القصر، أحاط بوتين نفسه بأشخاص متوسطي القدرة وغير مميزين على مدى الـ20 عاماً الماضية. لكن حربه الفاشلة تهدد قبضته على السلطة. وإذا كان يصدق خطبه الأخيرة حقاً، فربما يكون قد أكد لمرؤوسيه بأنه يعيش في عالم الخيال.

هناك فرص ضئيلة جداً بأن يكون الرئيس الروسي المقبل ديمقراطياً موالياً للغرب. والأرجح أن يتولى المنصب زعيم استبدادي على الطراز البوتيني. في الواقع، يمكن لقائد من خارج السلطة العمودية إنهاء الحرب والتفكير في علاقات أفضل مع الغرب. في المقابل، فالزعيم الذي يأتي من داخل الكرملين في عهد بوتين لن يحظى بهذا الخيار لأن السمعة التي ستلازمه هي أنه كان داعماً للحرب. والجدير بالذكر أن التحدي المتمثل في أن تصبح بوتينياً بعد بوتين سيكون تحدياً هائلاً.

وأحد التحديات المطروحة هو الحرب التي لن يكون من السهل لخليفته أن يديرها، لا سيما إذا كان يشارك بوتين حلم استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى. أما التحدي الآخر، فيتمثل في بناء الشرعية في نظام سياسي من دون أي من مصادره التقليدية. لا تملك روسيا دستوراً يمكن التحدث عنه ولا نظاماً ملكياً. أي شخص كان يتبع بوتين سيفتقر إلى الدعم الشعبي ويجد صعوبة في تجسيد الأيديولوجية السوفياتية الجديدة [النيو سوفياتية] والإمبريالية الجديدة [النيو إمبريالية] التي أصبح بوتين يجسدها.

في أسوأ الأحوال، ربما يؤدي سقوط بوتين إلى اندلاع حرب أهلية وتفكك روسيا. وسوف يتم التنازع على السلطة في القمة، وستتشرذم سيطرة الدولة في جميع أنحاء البلاد. يمكن أن تكون هذه الفترة بمثابة صدى لـ”زمن الاضطرابات”، أو ما يعرف بـ “سموتا” smuta في اللغة الروسية، وهي أزمة خلافة استمرت 15 عاماً في أواخر القرن الـ16 وأوائل القرن الـ17 تميزت بالتمرد وغياب القانون والغزو الأجنبي. ينظر الروس إلى تلك الحقبة على أنها فترة إذلال يجب تجنبها بأي ثمن. ويمكن أن تشهد مشكلات القرن الـ21 في روسيا ظهور أمراء الحرب من الأجهزة الأمنية والانفصاليين العنيفين في المناطق المنكوبة اقتصادياً في البلاد التي تضم بمعظمها أعداداً كبيرة من الأقليات العرقية. وعلى رغم أن روسيا الغارقة في الاضطرابات قد لا تتمكن من إنهاء الحرب رسمياً في أوكرانيا، إلا أنها ببساطة قد تعجز عن إدارة هذه الحرب، وفي هذه الحالة يمكن لأوكرانيا استعادة سلامها واستقلالها بينما تنزلق روسيا إلى الفوضى.

وكيل الفوضى

إن غزو بوتين لأوكرانيا، باعتباره الخطوة الأولى في إعادة تشكيل إمبراطورية روسية، كان له تأثير معاكس. فالحرب أضعفت قدرته على استعمال القوة والعنف مع جيران روسيا. وعندما خاضت أذربيجان مناوشة حدودية مع أرمينيا في العام الماضي، رفضت روسيا التدخل نيابة عن أرمينيا، على رغم أنها حليف رسمي لها.

وهناك ديناميكية مماثلة في كازاخستان. لو استسلمت كييف، كان من الممكن أن يقرر بوتين غزو كازاخستان بعد ذلك، إذ إن هذه الجمهورية السوفياتية السابقة تضم عدداً كبيراً من السكان من أصل روسي، وبوتين لا يحترم الحدود الدولية. وهناك احتمال آخر يلوح في الأفق الآن: إذا شهد الكرملين تغييراً في النظام، فربما يحرر كازاخستان من قبضة روسيا تماماً، مما يسمح لتلك الدولة بأن تكون ملاذاً آمناً للروس المنفيين. ولن يكون هذا هو التغيير الوحيد الذي يطرأ على المنطقة. في جنوب القوقاز ومولدوفا، ربما تتجدد الصراعات القديمة وتشتد. ويمكن أن تواصل أنقرة دعم شريكتها أذربيجان ضد أرمينيا. وإذا فقدت تركيا مخاوفها من الإدانة الروسية، فهي قد تحث أذربيجان على المضي قدماً في شن مزيد من الهجمات على أرمينيا. في سوريا، سيكون لدى تركيا سبب لتكثيف وجودها العسكري في حال تراجعت روسيا.

إذا انتشرت حال من الفوضى في روسيا، فمن الممكن أن تتصرف جورجيا بحرية أكبر. سوف يزول ظل القوة العسكرية الروسية الذي خيم على البلاد منذ الحرب الروسية- الجورجية عام 2008. وقد تواصل جورجيا سعيها إلى العضوية في الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف، على رغم تجاهل ترشحها للانضمام في العام الماضي بسبب الاضطرابات في الداخل والافتقار إلى الإصلاحات الداخلية. إضافة إلى ذلك، إذا انسحب الجيش الروسي من المنطقة، قد تندلع النزاعات مرة أخرى بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية من جهة وبين جورجيا وأبخازيا من جهة أخرى. ومن المحتمل أن تظهر هذه الديناميكية أيضاً في مولدوفا ومنطقة ترانسنيستريا الانفصالية، حيث يتمركز الجنود الروس منذ عام 1992. وربما يشكل ترشح مولدوفا لعضوية الاتحاد الأوروبي الذي أعلن عنه في يونيو (حزيران) 2022، مهرباً لها من هذا الصراع الطويل الأمد. ومن المؤكد أن الاتحاد الأوروبي على استعداد لمساعدة مولدوفا في حل النزاع.

إن التغييرات في القيادة الروسية قد تزعزع بيلاروس، حيث يتلقى الديكتاتور ألكسندر لوكاشينكو دعماً بالأموال والقوة العسكرية الروسية. إذا سقط بوتين، فعلى الأرجح سيكون لوكاشينكو هو التالي. وتوجد بالفعل حكومة بيلاروسية قائمة في المنفى: أصبحت سفيتلانا تيخانوفسكايا التي تعيش في ليتوانيا، زعيمة المعارضة في البلاد عام 2020 بعد أن سجن زوجها لأنه حاول الترشح ضد لوكاشينكو. ولكن يمكن إجراء انتخابات حرة ونزيهة، مما يسمح للبلاد بإنقاذ نفسها من الديكتاتورية، إذا نجحت في الانعزال عن روسيا. وإذا لم تستطع بيلاروس نيل استقلالها، قد يمتد الصراع الداخلي الروسي المحتمل إلى هناك، الأمر الذي سيؤثر بدوره في جيران مثل لاتفيا وليتوانيا وبولندا وأوكرانيا.

إذا كانت روسيا ستتفكك حقاً وتفقد نفوذها في أوراسيا، فإن جهات فاعلة أخرى مثل الصين ستتدخل لتحل مكانها. قبل الحرب، كانت الصين تمارس في الغالب نفوذاً اقتصادياً أكثر منه عسكرياً في المنطقة. لكن هذا كله بدأ يتغير، فالصين تتقدم في آسيا الوسطى، ومن الممكن أن تكون دول جنوب القوقاز والشرق الأوسط مناطق الغزو التالية.

إن روسيا مهزومة ومزعزعة داخلياً قد تستدعي اعتماد نموذج جديد للنظام العالمي، إذ إن النظام الدولي الليبرالي السائد يتمحور حول الإدارة القانونية للقوة، ويشدد على القواعد والمؤسسات المتعددة الأطراف. لقد كان نموذج المنافسة بين القوى العظمى، وهو المفضل لدى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، يدور حول توازن القوى، باعتبار أن مجالات النفوذ تشكل ضمنياً أو ظاهرياً مصدر النظام الدولي. إذا تعرضت روسيا لهزيمة في أوكرانيا، فسيتعين على صانعي السياسة أن يأخذوا في الحسبان وجود القوة وغيابها، لا سيما غياب القوة الروسية أو تراجعها الشديد. وسيكون لتقليص حجم روسيا تأثير في الصراعات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك تلك المندلعة في أفريقيا والشرق الأوسط، ناهيك عن أوروبا. وعلى رغم ذلك، فإن روسيا المتقلصة أو المكسورة لن تكون بالضرورة تبشيراً بعصر ذهبي يعم فيه النظام والاستقرار.

في الواقع، ستمثل روسيا المهزومة تغييراً ملحوظاً بالمقارنة مع العقدين الماضيين عندما كانت البلاد قوة صاعدة. خلال تسعينيات القرن الماضي وحتى العقد الأول من هذا القرن، طمحت روسيا بشكل اعتباطي إلى الاندماج في أوروبا والشراكة مع الولايات المتحدة، وانضمت إلى مجموعة الثماني ومنظمة التجارة العالمية. إضافة إلى ذلك، ساعدت في جهود الحرب الأميركية في أفغانستان. في الأعوام الأربعة التي كان فيها ديمتري ميدفيديف رئيساً لروسيا، من 2008 إلى 2012، بدا ظاهرياً، بعيداً مما يكمن خلف الكواليس، أن روسيا تجاري النظام الدولي القائم على القواعد.

لكن ربما كانت روسيا القادرة على التعايش سلمياً مع الغرب مجرد وهم منذ البداية. لقد رسم بوتين صورة تبدو توفيقية في وقت مبكر من فترة رئاسته، على رغم أنه كان يخفي في داخله ربما كراهية للغرب وازدراء للنظام القائم على القواعد وحماسة للهيمنة على أوكرانيا طوال الوقت. على أي حال، بمجرد أن عاد إلى سدة الرئاسة عام 2012، انسحبت روسيا من ذاك النظام القائم على القواعد. وسخر بوتين من النظام باعتباره مجرد تمويه يغطي هيمنة الولايات المتحدة. ثم انتهكت روسيا بعنف سيادة أوكرانيا من خلال ضم شبه جزيرة القرم، وأعادت ترسيخ نفسها في الشرق الأوسط من خلال دعم الأسد في الحرب الأهلية في سوريا، وأقامت شبكات من النفوذ العسكري والأمني الروسي في أفريقيا. وأسهمت روسيا الحازمة والصين الصاعدة في ظهور نموذج من المنافسة بين القوى العظمى في بكين وموسكو وحتى في واشنطن ما بعد ترمب.

على رغم أعمال العدوان التي ارتكبتها روسيا، وترسانتها النووية الكبيرة، فهي لا تعتبر بأي حال من الأحوال منافساً نظيراً للصين أو الولايات المتحدة، بيد أن أطماع بوتين وانتهاكاته في أوكرانيا توحي بأنه لم يدرك هذه النقطة المهمة. ولكن نظراً إلى أن بوتين قد تدخل في مناطق مختلفة حول العالم، فإن وقوع هزيمة في أوكرانيا تمزق أوصال روسيا، سيشكل صدمة مدوية بالنسبة إلى النظام الدولي.

من المؤكد أن الهزيمة قد تكون لها عواقب إيجابية على عدد من البلدان المجاورة لروسيا. وفي ذلك السياق، لا نحتاج إلى النظر إلى ما هو أبعد من نهاية الحرب الباردة، عندما سمح انهيار الاتحاد السوفياتي بظهور أكثر من 12 دولة حرة ومزدهرة في أوروبا. في الحقيقة، إن تحول روسيا إلى الداخل قد يساعد في التشجيع على فكرة “أوروبا الكاملة والحرة”، على حد تعبير الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في وصفه للتطلعات الأميركية المتعلقة بالقارة بعد انتهاء الحرب الباردة. في الوقت نفسه، يمكن للفوضى في روسيا أن تخلق دوامة من عدم الاستقرار، إذ إن الغوغائية بين القوى العظمى ستتغلب على المنافسة القائمة بين تلك القوى، مما سيؤدي إلى سلسلة من الحروب الإقليمية وتدفق المهاجرين وعدم الاستقرار الاقتصادي.

ربما يكون انهيار روسيا كذلك معدياً أو يشكل بداية سلسلة من ردود الفعل، وفي هذه الحالة لن يستفيد أي من الولايات المتحدة أو الصين لأن كلاهما سيكافح لاحتواء التداعيات. عندئذ، سيحتاج الغرب إلى تحديد أولويات استراتيجية. سيكون من المستحيل محاولة ملء الفراغ الذي قد تتركه الهزيمة الروسية غير المنظمة، وفي آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ستحظى الولايات المتحدة وأوروبا بفرصة ضئيلة لمنع الصين وتركيا من ملء هذا الفراغ. وعوضاً عن محاولة إقصائهما، فالاستراتيجية الأميركية الأكثر واقعية التي يمكن اعتمادها تتمثل في محاولة كبح نفوذهما وتقديم بديل، بخاصة لهيمنة الصين.

كيفما كان الشكل الذي ستتخذه هزيمة روسيا، فإن تحقيق الاستقرار في شرق أوروبا وجنوب شرقها، بما في ذلك البلقان، سيكون مهمة شاقة. وفي جميع أنحاء أوروبا، سيتعين على الغرب أن يجد إجابة إبداعية للأسئلة التي اعتبرت مستعصية بعد عام 1991: هل روسيا جزء من أوروبا؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، كم ينبغي أن يبلغ ارتفاع الجدار بين روسيا وأوروبا، وما هي الدول التي يجب أن تحيط بها؟ وإذا كانت روسيا جزءاً من أوروبا، فأين ستندمج بالتحديد وكيف؟ أين تبدأ أوروبا وأين تنتهي؟ وسيكون دمج فنلندا والسويد في “الناتو” مجرد بداية لهذا المشروع. وفي الواقع، تسلط بيلاروس وأوكرانيا الضوء على الصعوبات في حماية الجناح الشرقي لأوروبا إذ إنهما آخر دولتين قد تتخلى فيهما روسيا عن تطلعاتها كقوة عظمى. وحتى إذا دمرت روسيا فهي لن تفقد كل قدراتها العسكرية النووية والتقليدية.

في السنوات الـ106 الماضية، تحطمت نسختان من روسيا، واحدة عام 1917 والأخرى عام 1991. وفي المرتين، أعادت روسيا تشكيل نفسها. إذا ضعفت القوة الروسية، يجب على الغرب الاستفادة من هذه الفرصة من أجل تشكيل بيئة في أوروبا تعمل على حماية أعضاء “الناتو” وحلفائه وشركائه. وستوفر هزيمة روسية فرصاً كثيرة وإغراءات عدة، من بينها توقع اختفاء روسيا المهزومة من أوروبا. لكن روسيا المهزومة تلك ستعيد فرض نفسها يوماً ما وستسعى إلى تحقيق مصالحها وفقاً لشروطها. لذا، يجب أن يكون الغرب مستعداً سياسياً وفكرياً لاندحار روسيا ثم لعودتها من جديد.

    ليانا فيكس هي باحثة في الشؤون الأوروبية بمجلس العلاقات الخارجية ومؤلفة كتاب “دور ألمانيا في السياسة الأوروبية تجاه روسيا: قوة ألمانية جديدة؟” Germany’s Role in ?European Russia Policy: A New German Power

    مايكل كيماج أستاذ تاريخ في الجامعة الكاثوليكية الأميركية وزميل رفيع في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. من عام 2014 إلى عام 2016، عمل في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية.

مترجم عن فورين أفيرز / يناير-فبراير 2023

—————————

كي لا نحسد الأوكران على مصيبتهم/ عمر قدور

تناقلت الأنباء قبل أسبوع خبر مصرع الطيار الروسي رومانوف أنطون ميخائيلوفيتش بالقرب من سيفيرودونتسك شرق أوكرانيا. رومانوف كان أحد طياري قاعدة حميميم في سوريا، حيث نفّذ 165 غارة جوية، ولا بد أنه تميّز بما قتَله من سوريين كي يكرّمه الأسد بوسام على ذلك. هو خبر يمكن تثقيله بالدلالات، فالطيار ربما نُقل إلى أوكرانيا بعد الخبرة والتمرس بالضحايا السوريين، وقُتل هناك بعدما حُرم السوريون من الأسلحة التي تمكنهم من التصدي له. في سوريا كان يصول ويجول بطيارته مرتاحاً، وكذلك هو حال قيادته في موسكو التي لطالما أعلنت أن وجودها العسكري في سوريا يُغطى بجزء من ميزانية التدريب، بينما تُضطر بسبب الحرب على أوكرانيا إلى تعبئة مئات الألوف من احتياطي جيشها.

على صعيد متصل، وفي دلالة على الدعم الغربي الذي تناله أوكرانيا، اجتمع يوم الجمعة الفائت وزراء دفاع الدول الداعمة وأعضاء حلف الناتو، وهو الاجتماع الثامن من نوعه، وهيمنت عليه جهود إقناع برلين كي تسمح لكييف بالحصول على دبابات ليوبارد 2 الألمانية. إنه خبر آخر يشير إلى مدى انغماس الغرب في التفاصيل الميدانية، في حين كان قليل الحساسية إزاء استغاثات السوريين. 

نحن نكاد نسمع لمرتين كل أسبوع خبراً جديداً عن حزمة مساعدات غربية لأوكرانيا، وبكلفة باهظة حقاً. وقد برزت مؤخراً في واشنطن مطالبات من نواب للحزب الجمهوري بإرسال دبابات أمريكية، ما يخالف التوقعات عن عرقلة الجمهوريين تدفق المساعدات. أما أصوات النواب الأمريكيين المطالبين بدعم السوريين ضد الأسد فكانت قليلة جداً، وضعيفة بتأثيرها على الإدارتين الديموقراطية والجمهورية، باستثناء إقرار العقوبات الاقتصادية. 

إلى جوار الأخبار العسكرية، عادت التهديدات الغربية باستخدام أموال الأثرياء الروس المجمَّدة في إعادة إعمار أوكرانيا لاحقاً، وهي تهديدات موجَّهة إلى الحلقة المقرَّبة من بوتين، لدفع أفرادها إلى الضغط عليه. هذه التهديدات، التي لا ترتكز إلى القوانين الدولية أو المحلية، هي مرآة للعجز أمام سياسة التدمير المنهجي الواسع الذي تعتمده القوات الروسية.

إذا كنا قد بدأنا بالأنباء التي تكشف تمييز الغرب بين السوريين والأوكران، لصالح الأخيرين الذين ينالون دعماً غير محدود، فلعل آخر هذه الأخبار يكشف عن جانب يُختزل غالباً بعبارة من نوع أن “بوتين ينتقم لعجز قواته ميدانياً وضعفها التقني باستهدافه منشآت غير عسكرية”. وهذا العبارة في أحسن أحوالها تدين سلوك بوتين المنافي لقواعد الحرب، وكأن طائراته وصواريخه لم تقصف المستشفيات والمدارس وأفران الخبز في سوريا، وكأنها لم تدمّر غروزني من قبل!

تزويد أوكرانيا بالدبابات الألمانية الضرورية للمقاومة، في حال إقراره، لن يكون حلاً سحرياً عاجلاً. هناك المدة الضرورية لتدريب الأوكران، وهنا مستلزمات الدعم اللوجستي بما فيها توفير الصيانة التي لا تتطلب إعادة تأهيل تامة. بعض التقديرات الغربية يذهب إلى أن استخدام الدبابات الألمانية، ربما مع عدد رمزي من الأمريكية، قد يستغرق حتى نهاية العام ليكون ضمن الحد الذي يمكّن القوات الأوكرانية من المبادرة الهجومية الفاعلة.

حتى يتحقق ذلك لن يقف بوتين متفرجاً، ومن المتوقع بقوة أنه سيزيد من استهداف كل ما تطاله صواريخه وطائراته ومدفعيته في الأراضي الأوكرانية. من المتوقع أيضاً أن القوات الروسية ستسعى خلال الشهور القليلة المقبلة إلى استغلال فارق العدد بينها وبين القوات الأوكرانية، بإرهاق الأخيرة عبر الهجوم على كافة الجبهات، وعبر قصف ما وراء خطوط الجبهة لإرهاق الداخل الأوكراني برمّته.

هي معركة غير متكافئة، يخوضها بوتين بلا خطوط حمر يرتدع عندها، بخلاف الغرب وأوكرانيا. الأخيرة لا تستطيع مثلاً استخدام الأسلحة الغربية في قصف خطوط الإمداد داخل الأراضي الروسية، وحتى السماح باستخدام تلك الأسلحة في استهداف شبه جزيرة القرم المحتلة تحوطه المحاذير من أن تعتبره موسكو اعتداء على أراضيها، لتردّ باستخدام أسلحة غير تقليدية.

إن قواعد الاشتباك، التي تمنح أفضلية لموسكو، قائمة فوق تدمير أوكرانيا وإيقاع عدد ضخم من الضحايا فيها. يحدث هذا بموافقة الغرب الذي لا يريد استفزاز بوتين، و”جرّه” تالياً إلى استخدام أسلحة كيماوية أو نووية تكتيكية، وهذه الموافقة مع استمرار دعم أوكرانيا تمضي في سيناريو وحيد هو حرب استنزاف طويلة الأمد، لا يسمح فيها بوتين بأن يُهزَم، ويتحاشى فيها الغرب كسره على نحو يستفزه نووياً.

من المؤكد أن الروس أيضاً سيضطرون إلى تقديم عدد ضخم من القتلى، فوق أثر العقوبات الغربية على معيشتهم، إلا أن ذلك لن يردع بوتين، لأن هذا النوع من الأنظمة مجرَّب ومن المعلوم أنه يرفض الاعتراف بالهزيمة أو الفشل حتى سقوطه. ومن المعلوم أيضاً أن الغرب، باستثناء زلة من زلات اللسان المعتادة لبايدن، لا يطرح هدف إسقاط بوتين عبر إذلاله في أوكرانيا، مع احتساب النجاح للأخير بتسويق حربه أمام الروس كقضية أمن قومي وكرامة وطنية.

يكاد يكون السيناريو الغربي في أوكرانياً مشابهاً لدعم فصائل معارضة في سوريا بهدف استنزاف الأسد، تحت عنوان دفعه إلى الحل السياسي لا إسقاطه، وقد استمر لأربع سنوات قبل التدخل العسكري الروسي وما تلاه. لنا بالمقارنة، مع الانتباه إلى فارق القدرات التدميرية التي يمتلكها بوتين، أن نتخيل الثمن الباهظ الذي سيدفعه الأوكران في حال استمرار حرب الاستنزاف لسنوات. 

إن الفوارق التي تميل لمصلحة الأوكران بالمقارنة مع السوريين تتضاءل بموجب هذا السيناريو المرجَّح حالياً، والدعم الغربي غير المسبوق لا يحابي الأوكران بقدر ما يعكس الاختلافَ في موازين القوى هناك، والتهديدَ الذي يشكله انتصار بوتين على المنظومة الدولية ككل بدءاً من خطره على دول البلطيق. كنا في مثال نعرفه جيداً قد شاهدنا واحداً من أضخم الحشود الدولية لتحرير الكويت، أيضاً للحفاظ على التوازنات الدولية والإقليمية، وشاهدنا كيف توقفت آنذاك الحشود القادرة على إسقاط صدام رغم أنه لا يملك ترسانة نووية. في الواقع لا يُحسَد الأوكران على مصيبتهم، ولا يخفف منها أن تكون أحياناً أقل من المصيبة السورية، أو أن يحظى اللاجئ الأوكراني في أوروبا بمعاملة تفضيلية. هي فوارق ضئيلة الشأن، بل ربما تسمح بالقول أن الأوكران سوريون ببشرة ولون عيون مختلفين.

المدن

———————–

الحرب الأوكرانية على حافة تحول مهم..إذا وصلت “ليوبارد” و”أبرامز

نقلت شبكة “سي إن إن” عن مسؤولين أميركيين أن الإدارة الأميركية تضع اللمسات الأخيرة على خطط لإرسال دبابات “أبرامز” الأميريكية الصنع إلى أوكرانيا ويمكن أن تصدر إعلاناً في أقرب وقت هذا الأسبوع. فيما قال البنتاغون إنه لا يوجد لديه ما يعلن عنه بهذا الشأن.

30 دبابة

وقال المسؤولون الأميركيون إن الإدارة سترسل ما يقرب من 30 دبابة لكن توقيت التسليم الفعلي للدبابات ما زال غير واضح. ويستغرق الأمر عادة بضعة أشهر لتدريب القوات على استخدام الدبابات بشكل فعال.

ويمكن أن يكون الإعلان عن الدبابات جزءاً من محاولة لكسر الجمود الدبلوماسي مع ألمانيا، والتي كانت قد أبلغت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، أنها لن ترسل دباباتها من طراز “ليوبارد” إلى أوكرانيا ما لم توافق واشنطن أيضا على إرسال دبابات “أبرامز”.

لكن المتحدث باسم البنتاغون باتريك رايدر قال خلال مؤتمر صحافي ليل الثلاثاء: “في الوقت الراهن لا يوجد لدي أي شيء للإعلان عنه، وسنحيطكم علماً بالطبع حين نحسم أمرنا”.

وأضاف “نحن كالسابق على اتصال وثيق بالأوكرانيين وشركائنا الدوليين بشأن احتياجات أوكرانيا العاجلة للمساعدات العسكرية، بما في ذلك طويلة وقصيرة الأمد”. وأكد أن الولايات المتحدة ستدرب العسكريين الأوكرانيين على استخدام دبابات “أبرامز” في حال اتخاذ القرار بتوريدها.

دبابات ليوبارد

يأتي ذلك فيما منحت ألمانيا الضوء الأخضر لتسليم دبابات ليوبارد إلى أوكرانيا، على ما أعلن المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفان هيبشترايت في بيان الأربعاء. وستسلم ألمانيا، من جانبها، 14 دبابة من طراز “ليوبارد 2A6” إلى أوكرانيا من مخزون جيشها، كما ستسمح بذلك للدول الراغبة في تزويد كييف بالدبابات التي بحوزتها.

وكانت مجلة “دير شبيغل” الألمانية قد نقلت عن مصادر أن المستشار الألماني أولاف شولتز قرر تسليم دبابات إلى أوكرانيا بعد “شهور من الجدل”. وأضاف التقرير أن إرسال دبابات إلى أوكرانيا سيكون جزءاً من جهد أكبر للحلفاء.

وقالت المجلة إن القرار يتعلق بمجموعة واحدة على الأقل من دبابات “ليوبارد 2” من طراز “إيه-6” سيتم توفيرها من مخزون الجيش الألماني في بوندسفير. وذكرت أن حلفاء آخرين، في الدول الإسكندنافية على سبيل المثال، يعتزمون الانضمام إلى ألمانيا في تزويد كييف بدبابات “ليوبارد”.

وكانت عدد من الدول الغربية، بينها بولندا، قد اشترطت موافقة ألمانية المسبقة قبل تسليم دبابات “ليوبارد” تملكها، إلى كييف.

وتعتبر الدبابات أقوى سلاح هجومي تم توفيره لأوكرانيا حتى الآن، حيث أنها مصممة لمواجهة العدو وجهاً لوجه بدلاً من إطلاق النار من مسافة بعيدة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح مع التدريب اللازم، فيمكن أن تسمح لأوكرانيا باستعادة الأراضي من القوات الروسية.

وبدأت الولايات المتحدة بتزويد أوكرانيا بدبابات “تي-72” التي تم تجديدها من الحقبة السوفيتية، لكن الدبابات الغربية الحديثة هي جيل متقدم من حيث قدرتها على استهداف مواقع العدو.

ونفى مسؤولو البنتاغون والبيت الأبيض في وقت سابق، أن يكون لخطر التصعيد مع روسيا أي علاقة بالقرار الأميركي بتأجيل قرار إرسال الدبابات، فبدلاً من ذلك، كان القلق هو مدى صعوبة تشغيل وصيانة القوات الأوكرانية للدبابة “أبرامز” وما إذا كانت ستكون فعالة في ساحة المعركة في أوكرانيا.

مناورات روسية

في الأثناء، أعلنت وزارة الدفاع الروسية الأربعاء، أن الفرقاطة “الأدميرال غورشكوف” أجرت اختبارات لقدراتها الهجومية غرب المحيط الأطلسي. وقالت في بيان، إن الفرقاطة “أدميرال أسطول الاتحاد السوفيتي غورشكوف”، قامت بمحاكاة حاسوبية لصواريخ “زيركون” التي تتجاوز سرعة الصوت.

ويزيد مدى صواريخ “زيركون” عن 900 كلم، وتتحرك بسرعة أكبر بأضعاف من سرعة الصوت، مما يجعل من الصعب الدفاع ضدها. ولم يذكر البيان أن الفرقاطة أطلقت صاروخاً.

وأجرت هذه الفرقاطة تدريبات في البحر النرويجي، بداية كانون الثاني/ديسمبر، بعد أن أرسلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المحيط الأطلسي في إشارة للغرب بأن موسكو لن تتراجع عن الحرب في أوكرانيا، بحسب “رويترز”.

المدن

—————————–

الغرب لم يعد يخشى انتصار أوكرانيا على روسيا/ دينيس سولتيس

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

هل تخلص الغرب من خوفه من انتصار أوكرانيا في الحرب مع روسيا؟ – لطالما تردد الغرب بشكل جماعي في تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية ربما تبدو تصعيدية في عين المعتدي الروسي وتعجل بقدوم ضربة نووية.

وتكمن المعضلة هنا في أن فعالية التهديدات النووية الروسية في إنتاج التردد والردع الذاتي الغربي (وهو أمر مفهوم بالنظر إلى العواقب الوخيمة المحتملة) تعطي موسكو حافزا لتكرار تهديداتها. وهكذا تأرجحت السياسة الغربية بين تقديم مساعدة عسكرية كافية لأوكرانيا لتجنب الهزيمة، وبين النوايا لتقديم مساعدة كافية لتحقيق نصر صريح. وكان مكمن الخوف الغربي السائد هو أن النصر الأوكراني الملحوظ، مثل تحرير متوقع لشبه جزيرة القرم، قد يدفع روسيا إلى توجيه ضربة نووية. وعليه، لم يستطع الغرب صياغة أهداف واضحة ورد منطقي على العدوان الروسي.

“رامشتاين 9” وأوكرانيا (1)

مع ذلك، ظهر تحول تكتوني في التفكير الغربي بشكل واضح من اجتماع “رامشتاين 9” لمجموعة الاتصال الخاصة بالدفاع عن أوكرانيا المكونة من 51 دولة في 20 كانون الثاني (يناير). وقد خلصت المجموعة إلى تزويد أوكرانيا بأسلحة هجومية ثقيلة بكميات تكفي لانتصار القوات المسلحة الأوكرانية، الذي يُفهم على أنه تحرير جميع الأراضي التي تحتلها روسيا حتى الحدود المعترف بها دوليًا للعام 1991. ويعتقد عدد من الخبراء الآن بأن احتمال قيام روسيا بتوجيه ضربة نووية ضئيل للغاية. وقد تحدثت كل من الصين والهند ضد الضربة النووية، وسوف يقيد حظر اقتصادي قد يفرضه العالم كله ضد روسيا يد الكرملين، ناهيك عن الأعمال العسكرية التي قد تقوم بها الولايات المتحدة أو دول حلف شمال الأطلسي.

تغيّر الرأي السياسي أكثر ما يكون في ألمانيا، التي كانت في يوم من الأيام الدولة الأكثر ترددا في إرسال المساعدة العسكرية إلى أوكرانيا، وأصبحت الآن واحدة من مقدميها الرئيسيين. ومع ذلك، لم توافق ألمانيا على السماح للدول المتحالفة التي اشترت مخزونات من دبابات “الفهد 2″، (Leopard 2)، بنقل هذه الدبابات إلى أوكرانيا. و”الفهد” هي الدبابات الأكثر توافرا بأعداد كبيرة، بالإضافة إلى كونها الأكثر ملاءمة للظروف الأوكرانية. وقد عرضت العديد من الدول الثلاث عشرة التي تمتلك دبابات “الفهد” المساهمة ببعض الدبابات؛ وأعربت بولندا عن استعدادها لإرسال 100 دبابة أو أكثر إلى أوكرانيا على الفور. وما تزال الحكومة الألمانية مترددة في الموافقة على عمليات النقل على الرغم من الضربة الصاروخية الروسية الأخيرة التي استهدفت مبنى سكنيًا في أوكرانيا، هذه المرة في مدينة دنيبرو، حيث قتل 44 مدنياً على الأقل وأصيب عدد أكبر.

بعد التطورات المثيرة للإعجاب في منطقتي خاركيف وخيرسون في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر)، لم تتمكن القوات المسلحة الأوكرانية من المضي قدمًا بسبب عدم كفاية المعدات وضعف القدرة اللوجستية، والطقس الممطر، والتكتيك الروسي الناجح المتمثل في إلقاء حشود من المُدانين المدربين بالكاد أو غير المدربين وغيرهم من المهمشين اجتماعيا مقابل خطوط القوات الأوكرانية. وقد سمح هذا التكتيك، جنبًا إلى جنب مع تذبذب الموقف الغربي، للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن يبيع على جيشه والجمهور احتمالية تحقيق نصر روسي نهائي.

بينما تعثر تقدم القوات المسلحة الأوكرانية، نجحت الهجمات الروسية التي لا هوادة فيها على مدن دونباس في باخموت وسوليدار في الشرق، على الرغم من كونها مكلفة للغاية وتكسب القليل من الأرض، في منع القوات المسلحة الأوكرانية من شن هجمات في الجنوب. كما منح هذا الوضع الروس مساحة للتنفس ومجالًا لتدريب المزيد من جنود الاحتياط. وتوقع الكرملين تعبئة أولية لنحو 300.000 جندي، وربما يرتفع العدد إلى 500.000 أو أكثر بحلول الربيع أو الصيف، ليتم إضافتهم إلى ما يقرب من 150.000 أو 200.000 جندي موجودين بالفعل في أوكرانيا. وسوف يكون شن هجوم أوكراني في الربيع الآن أكثر صعوبة وتكلفة مما كان يمكن أن يكون في وقت أبكر.

مع ذلك، في كانون الأول (ديسمبر) الماضي أعلن الجنرال الكبير في القوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوجني Valeriy Zaluzhnyi، أنه من أجل شن هجوم كبير، تحتاج القوات الأوكرانية إلى طلب 300 دبابة قتال رئيسية إضافية، و500 قطعة مدفعية حديثة، و600 أو أكثر من المركبات القتالية المدرعة. وقد قطع اجتماع “رامشتاين -9” شوطًا طويلاً نحو تلبية طلب زالوجني، ويبدو أنه شكل نقطة تحول مهمة في السياسة الغربية بهذا الخصوص.

كان اجتماع “رامشتاين -9” حافلا بالأهمية السياسية. فهي المرة الأولى التي يرسل فيها الغرب معدات هجومية بشكل واضح وحيث تكون الكميات كبيرة. ويبدو أن الغرب قد تغلب على خوفه من انتصار أوكرانيا وتعهد بدعمها، ربما بطريقة لا رجعة فيها.

تكمن الأهمية العسكرية لنتائج الاجتماع المذكر في أن القوات المسلحة الأوكرانية ستتمكن على الأرجح من الوصول إلى ساحل بحر آزوف، وبالتالي إغلاق الممر البري الروسي المؤدي إلى شبه جزيرة القرم. وهذا الموقع الاستراتيجي الروسي في جنوب أوكرانيا ضعيف بطبيعته، حيث يتمدد فيه الجيش الروسي على جبهة طويلة وضيقة. وستحاول القوات المسلحة الأوكرانية إيجاد نقطة ضعف في الجبهة؛ وإذا نجحت في ذلك، فسوف تقسم الجيش الروسي إلى نصفين، بينما يتم عزل القوات الروسية غرب النقطة، وفي الجنوب في شبه جزيرة القرم، عن الإمدادات القادمة من الشرق. يدرك الروس هذا الاحتمال. وبالتالي، تبدو محاولاتهم لتحصين ميليتوبول في الغرب وشبه جزيرة القرم في الجنوب فاترة. ومن المرجح أن تتركز الجهود الروسية الرئيسية في منطقة دونباس التي تشكل هدفًا سياسيًا لبوتين منذ أمد طويل، وإلى الشمال في منطقتي خاركيف وتشرنيهيف، المتاخمتين لروسيا واللتين توفران لوجستيات مواتية.

ولكن، بعد مرور ما يقرب من عام على بداية الحرب، تدهور الجيش الروسي بشدة. وفقد تقريبًا كل مجموعته التي بدأ بها من الدبابات الحديثة والعربات المدرعة. وتسببت قذائف المدفعية الكثيفة والعشوائية في تلف سبطانات قطع المدفعية بشدة وفقدان دقتها. كما فُقد العديد من صغار الضباط وأجزاء كبيرة من الجيش المحترف. ويبدو أن الروس محددون بثلاث استراتيجيات تتمثل إحداها في استمرار الهجمات الصاروخية المرعبة على المناطق المدنية الأوكرانية. وسوف تُشن هذه الهجمات بشكل خاص لأن أوكرانيا لن يكون لديها دفاع ضد صواريخ Kh-22 الأسرع من الصوت لعدة أشهر إلى أن يتم تثبيت وتشغيل عدد قليل من أنظمة “باتريوت” المضادة للصواريخ وتدريب الأفراد على استخدامها. وتتمثل الإستراتيجية الثانية في إخراج الدبابات ومعدات المدفعية القديمة من الحقبة السوفياتية من المخازن وتجديدها، لكنَّ هذا قد يكون صعبًا من الناحية الفنية.

تتمثل الإستراتيجية الثالثة -الرئيسية- في إلقاء حشود من جنود المشاة ضد خطوط القوات العسكرية الأوكرانية والتغلب على هذه الخطوط من خلال الوزن الهائل للأعداد فقط. وقد أظهر هذا التكتيك المكلف للغاية بعض النجاح في باخموت وسوليدار -النجاح بمعنى أن قوات المشاة الروسية أثبتت قدرتها على الاستمرار في الضغط على الرغم من الخسائر البشرية الهائلة. ويمكن للقيادة السياسية والعسكرية الروسية استخدام هذا التكتيك لأنها غير مبالية على الإطلاق بالخسائر. وحتى الآن، قام بالكثير من القتال والموت جنود من غير الروس من الشرق، مثل البوريات والأُدمورت (2)، ومن الجنوب، مثل الداغستانيين، والإنغوش، والشيشان القاديروفيون. وينضم إلى هؤلاء مجموعات من الروس المهمشين اجتماعيًا، القادمين من السجون ومن أطراف روسيا المنكوبة بالفقر، إلى جانب جنود ما تسميان بجمهوريتي لوهانسك ودونيتسك والمتعاونين والمدنيين المجندين قسراً من مناطق الاحتلال الأوكرانية الأخرى. لذلك، لم تتأثر الطبقة الوسطى العرقية الروسية في المدن الكبيرة نسبيًا بالتعبئة، وتمكن الكرملين من إدارة أي مشاعر مناهضة للحرب في البداية.

ما الذي سيحدث تاليًا؟

خلاصة القول أن المسرح مهيأ ليشهد حمامات دم كبرى هذا الربيع. وهناك بعض الأمور التي لا يمكن تجاوزها. والقائمة أقصى على الجانب الأوكراني. الأوكرانيون يقاتلون من أجل بقائهم ضد الإبادة الجماعية الصريحة التي تنفذها روسيا، ولذلك لا يشكل الخضوع بالنسبة للأوكرانيين خيارًا. وما يزال تصميمهم على القتال عالياً، وقد تحسنت معنوياتهم وقدراتهم بعد تلقي أحدث شحنة من الأسلحة الهجومية. وليس الأوكرانيون متفاجئين ولا خائفين من التحركات الروسية المستمرة، ويعتقد بعض الخبراء العسكريين الأوكرانيين أن الفولاذ سوف يسود على اللحم البشري، كما كان النمط التاريخي المعتاد. قد يكون الإجهاد الذي قد يصيب الغرب على المدى الطويل هو الشيء الذي لا يمكن التغلب عليه، على الرغم من أن اجتماع “رامشتاين-9” أشار إلى أن الإجهاد ليس مشكلة في الوقت الحاضر.

لكن قائمة الأشياء التي لا يمكن تحقيقها أطول على الجانب الروسي. أولاً، ليس من المؤكد أن سياسة التجنيد ستكون ناجحة وأن الجيش سيكون قادرًا على تزويد الجنود بما يكفي من المعدات الشخصية والمركبات والأسلحة. والسؤال ذو الصلة هو ما إذا كانت روسيا ستتمكن من تكثيف صناعاتها الحربية في ضوء العقوبات المفروضة على المكونات والانحدار العام للاقتصاد. وثمة عامل آخر أيضًا هو أن مخزونات الذخيرة قد نضبت إلى حد كبير، وقد لا يكون من الممكن استبدالها بسهولة.

الأمر الأخير، وربما الأساسي، الذي لا يمكن التغلب عليه في الجانب الروسي هو الجانب السياسي المتعلق بإدارة الحرب نفسها. إذا تمكنت القوات المسلحة الأوكرانية من إغلاق الجسر البري الروسي المؤدي إلى شبه جزيرة القرم، فإن هذا يعني أن نظام بوتين، بعد عام من القتال العنيف والنفقات، لم يربح شيئًا تقريبًا. وسيؤدي ذلك، على الأقل، إلى تبادل اللوم والاتهامات بين الجمهور الروسي والجيش والحكومة. وسوف تتراجع سلطة بوتين بشكل حتمي، ولو أن مقدار هذا التراجع يبقى شيئًا مرهونًا بما تخبئه الأيام.

ولكن بشكل عام، يبدو أن “رامشتاين-9” قد شرع في أن يجعل من تحقيق نصر عسكري أوكراني كامل شيئاً قابلاً للتفكير فيه، ومقبولًا، على حد سواء.

*دينيس سولتيس Dennis Soltys: أستاذ كندي متقاعد في السياسة المقارنة يعيش في مدينة ألماتي في كازاخستان.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: The West Isn’t Scared of Ukraine Beating Russia Anymore

هوامش المترجم:

(1)”رامشتاين-9″، نسبة إلى مكان انعقاد الاجتماع، قاعدة “رامشتاين” الجوية، وهي قاعدة للقوات الجوية الأميركية تقع في ولاية راينلاند بالاتينات في جنوب غرب ألمانيا. وهي بمثابة مقر للقوات الجوية للولايات المتحدة في أوروبا -والقوات الجوية في أفريقيا، وكذلك للقيادة الجوية لحلف شمال الأطلسي.

‏(2) ‏‏البوريات‏‏ ‏‏Buryats: هم ‏‏مجموعة عرقية‏‏ ‏‏منغولية‏‏ موطنها جنوب شرق ‏‏سيبيريا،‏‏ وتتحدث ‏‏لغة البوريات‏‏. وهم واحدة من أكبر مجموعتين من السكان الأصليين في ‏‏سيبيريا‏‏ ، حيث الأخرى هي ‏‏الياكوت.‏‏ تعيش غالبية البوريات اليوم في وطنهم الفخري، ‏‏جمهورية بورياتيا‏‏، وهي ‏‏قسم فيدرالي‏‏ ‏‏لروسيا‏‏ يمتد على طول الساحل الجنوبي ويمتد جزئيا على بحيرة بايكال. وتسكن مجموعات أصغر من البوريات أيضاص في أوست-أرديا بورياتأوكوغ، وأجين-بوريات أوكوغ اللتين تقعان إلى الغرب والشرق من بورياتيا على التوالي، وكذلك شمال شرق ‏‏منغوليا‏‏ ‏‏ومنغوليا الداخلية ، الصين‏‏. شكلوا تقليديًا المجموعة الفرعية الشمالية الرئيسية ‏‏للمغول‏‏.

(2) الأُدمورت ‏Udmurt‏‏ هم شعب فنلندي أوغري مرتبط ‏‏بماري‏‏ إلى الغرب ‏‏وكومي‏‏ في أقصى الشمال حيث استقر الأدمورت، وأصبحت المنطقة تحت سيطرة خانات قازان في القرنين 14 و15، وانتقلت إلى السيطرة الروسية في العام 1552 في عهد ‏‏إيفان الرابع‏‏ الرهيب. وتأسست المنطقة المعروفة باسم فوتسكايا المتمتعة بالحكم الذاتي في العام 1920، وتم تغيير اسمها إلى ‏‏أوبلاست‏‏ أودمورت ذاتية الحكم في العام 1932 ورُفعت إلى وضع جمهورية تتمتع ‏‏بالحكم الذاتي‏‏ في العام 1934، وأصبحت جمهورية في أوائل التسعينيات. ومن بين سكانها الروس، والأدمورت، والتتار، والماري، والأوكرانيين-ما يقرب من ثلاثة أرباعهم حضريون. تشمل المدن الرئيسية للجمهورية، ‏‏سارابول‏‏ ‏‏وفوتكينسك‏‏ ‏‏وجلازوف‏‏ وإيجيفسك (أوستينوف سابقا).‏

الغد

———————————

القوى العظمى ليست قوية للغاية/ روبرت فورد

الأسبوع الماضي، ذكرتني الأنباء القادمة من أوكرانيا والصين والولايات المتحدة، مرة أخرى، بأننا ندخل في نظام عالمي جديد، حيث لا تملك أي دولة واحدة الهيمنة على النظام، وثمة حاجة أكبر للجهود الدبلوماسية الحكيمة لتجنب الحرب.

ومع اقتراب الذكرى الأولى للاجتياح الروسي لأوكرانيا، يبدو واضحاً أكثر من أي وقت مضى أن روسيا تمثل قوة آخذة في التراجع. فقد عجزت روسيا، تحت قيادة بوتين، عن اجتياح أوكرانيا، رغم أن سكان روسيا ثلاثة أضعاف سكان أوكرانيا، واقتصاد الأولى قرابة عشرة أضعاف حجم اقتصاد الثانية.

ومع ذلك، تتَّسم التكنولوجيا الروسية والتنظيم الروسي بمستوى متدنٍ، بينما يشيع الفساد داخل النظام.

والأسوأ بالنسبة لروسيا، أن عدد سكانها يتراجع. فقد انخفض بمقدار مليون نسمة عام 2021، وبنصف مليون أخرى خلال النصف الأول من عام 2022. ومن بين أسباب هذا التراجع فرار العمال المتعلمين والأصغر سناً من البلاد؛ هرباً من الحرب عام 2022. الواضح أن بوتين سيواجه مشكلة هائلة في إصلاح هذه المشكلات، وربما لن يتمكن من حلها.

ورغم انشغال واشنطن بالحرب الأوكرانية، يركز غالبية المحللين الأميركيين ليس على روسيا، وإنما على الصين. وفي الأسبوع الماضي، عاينا إشارة مهمة على تزايد الضعف الصيني، وذلك مع تراجع عدد سكان الصين للمرة الأولى منذ عام 1961. ومع أن الانخفاض لم يتجاوز 850 ألفاً فقط من إجمالي عدد سكان يبلغ 1.4 مليار شخص، فإن عدد سكان الصين سيستمر في الانكماش.

وقدر تقرير أصدرته الأمم المتحدة العام الماضي أن عدد سكان الصين سيتضاءل بمعدل 109 ملايين بحلول عام 2050. وتوقع تقرير صادر عن أكاديمية شنغهاي للعلوم الاجتماعية أن يتراجع عدد سكان الصين إلى 600 مليون نسمة بحلول نهاية القرن.

ومع انكماش أعداد السكان، ستنكمش كذلك قوة العمل، وفي الوقت ذاته ستزداد أعداد العمال المتقاعدين داخل الصين. وبذلك، ستتباطأ عجلة النمو الاقتصادي المرتبطة بوفرة العمالة الرخيصة، وبالتالي ستنخفض العوائد الضريبية، بينما ستضطر الحكومة الصينية لإنفاق المزيد على المعاشات والرعاية الصحية. ومع أنه باستطاعة بكين إنفاق المزيد على القوة العسكرية اليوم، فإنَّها ستحظى على المدى الطويل بعدد أقل من الموارد المالية لإنفاقه على الجانب العسكري.

ورغم ذلك، ليس بإمكان الأميركيين الاحتفال بهذه الأنباء. ففي الأسبوع الماضي، هدد الجناح اليميني المتطرف من أعضاء الحزب الجمهوري داخل مجلس النواب بإعاقة محاولات وزارة الخزانة اقتراض المزيد من الأموال. ومن دون مزيد من الاقتراض، يجب أن تقلص وزارة الخزانة من إنفاقها على البرامج المدنية والعسكرية. في الوقت ذاته، ستشهد معدلات الفائدة على السندات الأميركية ارتفاعاً هائلاً، الأمر الذي سيتسبب في نهاية الأمر بصدمة كبرى للاقتصادين الأميركي والعالمي.

ومن المذهل متابعة حجم الفوضى التي يمكن لعشرين عضواً محافظاً متشدداً داخل الكونغرس إلحاقها بالبلاد. ومع ذلك، تبقى القضية التي هي محل اهتمامهم الرئيسي مبررة. وإذا كان ينبغي للصين القلق بخصوص سداد تكاليف المعاشات والرعاية الصحية، فإنه ينبغي كذلك للولايات المتحدة الشعور بالقلق، لأن الإحصاءات الحكومية الأميركية تكشف أن عدد الأميركيين الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً سيتضاعف تقريباً إلى 95 مليوناً بحلول عام 2060. في الوقت ذاته، نجد أن أموال المعاشات والرعاية الصحية تلتهم نصف الموازنة السنوية الأميركية.

ومن المحتمل أن تتمكن وزارة الخزانة من تجنب أزمة مالية كبرى حتى مطلع الصيف. وعليه، فإنه لا يزال هناك وقت أمام الكونغرس والرئيس لإيجاد حل.

وحتى إذا تم النجاح في تجنب أزمة مالية عام 2023 ستظل أميركا تعاني من ضعف مالي جوهري مع تقدم سكانها في العمر. ومن الصعب أن نعرف كيف يمكن للموازنة العسكرية الأميركية التهام أكثر من ربع الموازنة الحكومية على المدى الطويل، مع اقتراض الأموال من شبكات رؤوس أموال أميركية ودولية.

وبذلك يتضح أن أياً من القوة الأميركية أو الصينية أو الروسية لن تهيمن أي منها على العالم مستقبلاً على النحو الذي كانت عليه الهيمنة الأميركية عالمياً في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي.

على الجانب الآخر، ستتوافر أمام قوى صاعدة أخرى مساحة واسعة للمناورة والتفاوض. على سبيل المثال، ستتمتع الهند قريباً بعدد أكبر من السكان عن أي دولة أخرى في العالم (مثلما كتب المؤرخ نيال فيرغسون، فإن عدد السكان وحده ليس مؤشراً على النفوذ العالمي، إذ تملك إندونيسيا رابع أكبر عدد سكان في العالم، لكنها ليست القوة الرابعة عالمياً).

والملاحظ أن بعض الشركات الأجنبية بدأت بالفعل تتجنب الصين، وتوجه مشروعاتها الاستثمارية لدول أخرى مثل الهند. ويطلق بعض الخبراء الاقتصاديين على هذا التحول اسم «إعادة العولمة».

في الوقت ذاته، استفزت روسيا والصين الأوروبيين واليابان ودفعتهم إلى زيادة حجم مؤسساتهم العسكرية. ويسعى الأوروبيون واليابان كذلك نحو تعزيز تحالفاتهم العسكرية مع الولايات المتحدة في مواجهة التهديدات الروسية والصينية، لكنهم سيعمدون في الوقت ذاته إلى استغلال منظمة التجارة العالمية لإعاقة السياسات التجارية التي تضع أميركا أولاً.

ومن بين الأمثلة الأخرى على صعود نظام عالمي متعدد الأقطاب، شراء الصين المزيد من النفط الإيراني، والسياسات الهندية (والتركية) الرامية لإبقاء علاقات سياسية وتجارية جيدة مع روسيا، رغم السخط الأميركي إزاء ذلك.

لقد أخطأ بوتين عندما ظن أن باستطاعته استغلال الانقسامات داخل هذا النظام العالمي الجديد، بحيث يتمكن من الاستيلاء على أوكرانيا. وتوقع بوتين الحصول على مزيد من المساعدة من الصين، وعلى قدر أقل من وحدة الصف داخل الغرب.

ويكشف ذلك أن التغييرات على مستوى موازين القوة، أو مجرد التقدير الخاطئ لتغيير في قوة نسبية، سيزيد مخاطر الحرب، الأمر الذي يؤكد أهمية الاستخبارات الدقيقة والدبلوماسية الحكيمة للحفاظ على التوازنات والاستقرار على الصعيد العالمي.

الشرق الأوسط

—————————-

===================

تحديث 25 أذار 2023

—————————-

عشية حرب عالمية ثالثة/ منير الربيع

يبدو العالم وكأنه عشية حرب عالمية ثالثة. هي قائمة عملياً ولكن بشكل غير مباشر. وإلى جانب صراعها العسكري فيها صراعات كثيرة لا تخلو من الصراع الفكري بين منظّريّ ومطلقي نظرية الدياليكتيك على تناقضهما، بين هيغل الذي يؤمن بروح التاريخ والتي لا بد لها أن تتجه نحو الأصح. وبين ماركس الذي أوقف الديالكتيك على قدميه كما يقول بعدما كان هيغل قد أوقفه على رأسه. إنها الحرب بين الغرب والشرق. علماً أن الغزو الروسي إلى أوكرانيا ربطاً بالمواقف التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشية الغزو فعلت فعلها في دفع الغرب كلها ولا سيما أوروبا إلى الاستفاقة.

طوال السنوات الماضية كان بوتين يرتكز على جملة مقومات دفعته إلى اعتبار نفسه دائم الانتصارات. منذ دخوله إلى جورجيا، مروراً بحاجة ألمانيا وفرنسا إلى إرضائه لعدم التورط في حرب. بعدها أقدم على ضم القرم ولم يرف جفن أحد، في الموازاة، كانت تتنامى شعارات حول الانقسام الغربي وهو ما كان يشهد وقائع واضحة ومشهودة، من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى الأزمة التي يعيشها النظام الرأسمالي ولا سيما دول في الاتحاد الأوروبي من أزمات مالية واقتصادية، وصولاً إلى النزعات اليمينية ومواقف دونالد ترامب في الانسحاب من حلف شمال الأطلسي وعدم تمويله. كل هذه النقاط دفعت بوتين إلى الحمية والانقضاض. فكان انقضاضه عنصراً في استعادة الغرب للملمة نفسه، واستجماع موقفه والعودة إلى حرب الوجود والفكرة. والصراع على قيادة العالم والسيطرة على الاقتصادات ومنابع النفط والطاقة وممراتها وطرق التجارة. ثمة من يشبه وجود شي جين بينغ في موسكو، كوجود موسوليني في برلين عشية الحرب العالمية الثانية.

في خضم هذا الصراع، ينقسم العالم إلى قسمين، العالم الأوتوقراطي والثيوقراطي، مقابل النظام العالمي القائم على الديمقراطية والحرية والمجتمع المفتوح المبني على حرية الفرد. القسم الاول يصارع ضد أي مد ديمقراطي وهو ما يتضح بكلام الرئيس الروسي في مهاجمته للعالم الغربي، انطلاقاً من شعاره الحفاظ على الخصوصية الروسية فيما القيم الغربية لا تمثله. بينما القوى الديمقراطية، ومن لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي إلى اليوم، شمل قارات ودولاً كثيرة، ما عدا حالات مستعصية أو ممانعة. يبدو العالم العربي كحالة مستعصية، وهو ما تجلى في هزيمة الربيع العربي، علماً أن هذه الهزيمة هي تأجيل مؤلم لاستحقاق الديمقراطيات وأنظمة الحرية وحقوق الإنسان، والتحرر الاجتماعي.

النموذج الصيني هو إقرار بتفوق النظام الرأسمالي ورفض الأيديولوجية السياسية للرأسمالية. ولذلك تتحدث الصين عن خصوصية دينية قومية لتجديد شرعية الحزب الحاكم. أما روسيا كذلك الأمر، فقد أخذت بالرأسمالية الاقتصادية التي لا بديل عنها، ولكنها عملت على تأليف أيديولوجيا قومية شوفينية تحت مسمّى الخصوصية الأوراسية، المستمدة من التاريخ واللغة والثقافة مع الحفاظ على البعد الديني الأرثوذكسي. أما إيران فهي نظام قائم على أن لا بديل للرأسمالية ولكن في المقابل الحفاظ على الخصوصية الدينية التي تضمر وعياً قومياً حاداً والرغبة في عظمة إمبراطورية فارسية.

طموحات روسيا، بخلق مجال حيوي محيط فيها، يعيد لها الهيمنة على العالم الأرثوذكسي الصربي والبلقاني وفي شرق ووسط أوروبا، بالإضافة إلى دول البلطيق وصولاً إلى وسط آسيا، إلى جانب إحياء الحلم المتجدد دائماً في الوصول إلى المياه الدافئة. أما الحلم الصيني فيتجسد بإمبراطورية آسيوية إمبريالية تنافس الإمبريالية الأميركية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، على الأقل من خلال تقاسم النفوذ في المحيط الهادئ والهيمنة على كل شرق آسيا. وعليه ثمة قرارات مشتركة بين روسيا، الصين، كوريا الشمالية، والملحقات، تقضي بمواجهة الغرب لشعورهم بأن كل قيم الغرب أو النموذج الغربي، هو عبارة عن مدّ لا يتوقف ويجب إيقافه.

هذا من أبرز المؤشرات على الحرب العالمية الثالثة التي تدور رحاها بالتقسيط، وعنوانها الكبير “الحرب الروسية الأوكرانية”. وهذا يعني أن انكسار أوكرانيا يعني خضوع أوروبا لإملاءات روسيا. وهنا يجدر الإشارة إلى أن الخطاب القومي الروسي يستعيد أدبيات الحرب العالمية الثانية من خلال اتهام أوكرانيا بالنازية، كما اتهم حلف شمال الأطلسي بالغزو الهتلري للاتحاد السوفييتي. بينما عندما يستشعر الغرب إمكانية الهزيمة الأوكرانية فهذا يعني أن دولاً عديدة ستدخل الميدان.

في اللحظة التي حط فيها شي جين بينغ في موسكو، كان رئيس وزراء اليابان يزور أوكرانيا، والتوقيت لا بد أن يكون متعمداً ومقصود، وبالتالي مشهد الصراع في الباسيفيك هو نفسه مشهد الصراع في أوكرانيا. وكانت لحظة بداية الغزو لأوكرانيا ارتجف أهل تايوان، تحسباً منهم لقيام الصين بشن هجوم عسكري، وفي اللحظة التي بدأ فيها تسليح الغرب لأوكرانيا بدأ فيها تدفق السلاح إلى تايوان. وهذا يجعل هذه المعركة من أوكرانيا إلى الباسيفيك معركة واحدة وقائمة. بناء عليه يمكن اصطلاح توصيف ما يجري بـ “الحرب العالمية الثالثة” والتي يرفقها دائماً الخطر النووي، فعدا ذلك وبالمعنى الأيديولوجي فهي شبيهة جداً بالحرب العالمية الثانية وما لم يستكمل سنة العام 1989 أي دمقرطة العالم، هناك محاولات لاستكماله في خضم هذه الحرب القائمة اليوم. أي حدث في المحيط الهادئ الذي يعج بالأحداث وبالغواصات النووية، على وقع التعاون الواضح بين اليابان، تايوان، نيوزيلاندا، أستراليا مع الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى متعاونة على “تطويق الصين”.

على وقع هذه التطورات، يأتي الاتفاق السعودي الإيراني في المنطقة برعاية صينية، وهو أمر لا بد له أن يستفز الأميركيين بالتحديد. لا سيما أن الأمور تسارعت منذ الإعلان عن هذا الاتفاق، إلى زيارة الرئيس الصيني إلى روسيا والتوقيع على اتفاقيات استراتيجية. فيما الاتفاق السعودي الإيراني كأكبر مصدرين للنفط والغاز مع الصين كأكبر مستورد للمنتجين وكـ “إمبراطورية” طامحة لخطة “الحزام والطريق” يضع قلب الشرق الأوسط في خضم هذه الحرب وتطوراتها. عملياً، فإن المعركة التي تخوضها روسيا وتؤدي إلى استنزافها عسكرياً ومالياً واقتصادياً، في مقابل الأزمات المتلاحقة التي تعيشها إيران سياسياً ومالياً واقتصادياً، تجعل السعودية والصين الطرفين الأقوى في هذه المعادلة. علماً أن السعودية تحرص على تصفير مشكلاتها وعدم الانحياز إلى أي جانب في هذه الحرب. لكنها أقدمت على الاتفاق مع إيران برعاية الصين بعد التخاذل والتآمر الأميركي. هذا سيلقي على السعودية مسؤولية واهتماماً بشكل أكبر. إذ ستكون الصين وروسيا في حاجة إلى استقطابها، نظراً لموقعها وقدرتها الاقتصادية الهائلة، في حين سيسعى الغرب إلى استعادتها وهذا لا بد أن يكون له أثمان. في حين يبقى الأخطر هو إشعال المنطقة كجزء من التخريب ونوع من إدخال الشرق الأوسط في خضم هذا الصراع.

تلفزيون سوريا

————————–

المرتزق الطموح/ فراس بورزان

فيلهيلم رتشاد فاغنز أصبح معروفاً لدى كثيرين من غير المهتمين بالموسيقى الكلاسيكية ليس بفضل نتاجه الموسيقي الذي اعتبر امتداداً لمدرسة بيتهوفن الرومانسية، بل بفضل إطلاق يفغيني بريغوجين اسمه على جيشه الخاص من المرتزقة.

المفارقة المثيرة للسخرية أن بريغوجين يقدم نفسه على أنه قومي روسي محافظ، إلا أنه فضل الموسيقي الألماني على كبار الموسيقيين الروس مثل تشايكوفسكي وجلينكا وكورساكوف، كذلك لم يمنعه احتفاء هتلر بفاغنر واعتباره أن أعمال فاغنر تجسيد موسيقي لفكرة التفوق العرقي الآري.

غالباً فكرة فاغنر نابعة من سياسة محاكاة ساخرة وعنيفة يغذيها الاستياء والغضب والخوف، هذه الفكرة يشير إليها إيفان كراستيف في أحد كتبه عن فشل التحول الديمقراطي في دول ما بعد الشيوعية على أنها شكل مفيد من أشكال التقليد للبقاء على قيد الحياة في بيئات معادية، النموذج الذي قلده الكرملين في حالة فاغنر كان نموذج بلاك ووتر للخدمات الأمنية الأميركية التي اشتهرت بسبب عملها في العراق.

المخيلة الروسية في التقليد لم تتوقف عند حدود النموذج الأميركي، توسعت في تطويره بشكل تجاوز حدود النموذج الأصلي لتصبح فاغنر ليست مجرد شركة للخدمات العسكرية والأمنية بل جزء من استراتيجية الحرب الهجينة.

التحول من الخارج إلى الداخل

خلال العقد الماضي طورت روسيا استراتيجية الحرب الهجينة، يمكن اعتبار احتلال القرم هو أول تطبيق ناجح لهذه الاستراتيجية، ضعف الرد الغربي على احتلال القرم أغرى الكرملين بالتوسع من خلال استخدام تكتيكات الحرب الهجينة في سوريا وليبيا وعدة دول إفريقية مثل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي.

تنطلق استراتيجية الحرب الهجينة من إدراكها لمحدودية قدرات وموارد روسيا في مواجهة الولايات المتحدة، وتركز على نهجين رئيسيين هما الدفاع الثابت والهجوم المحدود والنشط، بالنسبة للدفاع الثابت فهو ذو بعد إقليمي قريب معني باتخاذ إجراءات عسكرية وأمنية سريعة لحماية حدود روسيا ونفوذها في محيطها الجيوسياسي، أما الهجوم المحدود والنشط فهو ذو بعد دولي يستهدف دعم أهداف السياسة الدولية الروسية، ويتكون من مزيج من التكتيكات التي تشمل حملات التضليل المعلوماتية التي تستهدف إثارة الفوضى وإضعاف الثقة لدى الرأي العام في الدول الغربية باستخدام ترسانة متنوعة من وسائل الأعلام الموجهة مثل شبكة RT وسبوتنيك، الاختراق السيبراني، وإقامة العلاقات مع سياسيين ونشطاء غربيين من جماعات وأحزاب اليمين المتطرف.

فاغنر لدى تأسيسها كانت جزءا من تكتيكات الهجوم المحدود والنشط، فالكرملين وظفها كأداة فاعلة ومنخفضة التكلفة في السياسة الدولية، دورها الرئيسي تعزيز العلاقات الأمنية الروسية مع الأنظمة الاستبداية أو الحركات المتمردة في الدول الهشة، بالتالي يمكن اعتبارها الذراع الطويلة الخشنة للكرملين في نشاطاته الخارجية.

ساهمت الحرب في أوكرانيا في تغيرموقع فاغنر في استراتيجية الحرب الروسية، حيث غيرت موقعها من نهج الهجوم الدولي إلى نهج الدفاع الإقليمي القريب، وبالتالي انخرطت فاغنر تدريجياً في المعارك إلى جانب الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا، ما أدى إلى تضخم صفوفها واتساع عمليات التجنيد فيها التي أصبحت علنية، رغم مخالفتها القوانين الروسية ذاتها، هذا الانتقال جلب معه أيضاً تنافس غير معلن مع قيادة الجيش الروسي، ما لبثت أن فضحته تصريحات بريغوجين الناقدة لقادة الجيش الروسي ووزارة الدفاع والساخرة منهم أحياناً والمحرضة عليهم أحياناً أخرى.

البحث عن منصب شاغر

حتى الخريف الماضي نفى بريغوجين بإصرار صلته بفاغنر، ووصف وجودها ذاته بأنه مستحيل، مشيراً إلى حقيقة أن القانون الروسي يجرم وجود “شركة عسكرية خاصة” والارتزاق العسكري عموماً. هذا الإنكار تبخر عندما خاطب بريغوجين مجموعة من الصحفيين الروس بالقول “الآن إليكم اعتراف… هؤلاء الرجال الأبطال [مقاتلي فاغنر] … أصبحوا أحد ركائز أمتنا”. في شباط/فبراير الماضي أصدرت الخدمة الصحفية التابعة لبريغوجين بيان صحفي جاء فيه “لقد خططت له، وأنشأته، وكنت أديره لفترة طويلة”. هذا الاعتراف سبقه تاريخ من الإنكار الذي وصل إلى درجة مقاضاة وإدانة لجهات صحفية التي زعمت ارتباط بريغوجين بفاغنر.

اعتراف بريغوجين أخرجه من الظل، ليتزامن افتتاح مقر فخم لشركة فاغنر في مدينة سانت بطرسبرغ مع حضور مكثف له في الإعلام، كما ترددت أنباء عن زيارة له لأحد الأحزاب القومية الروسية، ما جعل البعض في روسيا يتحدث عن طموحات بريغوجين السياسية وفيما إذا كان لديه نية للترشح في الانتخابات القادمة، بعض التخمينات استندت إلى هجوم بريغوجين الشرس على ألكسندر بيغلوف حاكم سانت بطرسبرغ لدرجة اتهامه بالخيانة والمطالبة بمحاكمته.

الضجة التي أحدثها بريغوجين لم يكن صداها محبذاً لدى بوتين، ويؤكد هذا الظن ما نقله سيرجي ماركوف، المحلل السياسي المقرب من بوتين ومستشاره السابق، الذي قال إن المسؤولين كانوا ينقلون توجيهًا للإعلام الروسي الرسمي بأن “لا تروجوا بشكل مفرط لبريغوجين وفاغنر”.

التقط بريغوجين الرسالة وغير استراتيجيته مباشرة، فقام بإعلان أنه ليس لديه أي طموح سياسي، وبدأ يركز ظهوره الإعلامي من خطوط القتال الأولى، ولكنه لم يوقف حملته ضد وزارة الدفاع والقيادة العسكرية الروسية، لدرجة اتهامه القيادة العسكرية بأنها تعرقل تزويد مقاتليه بالذخيرة الكافية، هذا الاتهام ردت عليه وزارة الدفاع بالنفي القاطع، كما ظهر على الإعلام تناقض محرج بين البيانات العسكرية لفاغنر والمتحدث العسكري لوزارة الدفاع حول احتلال مدينة سوليدار.

بريغوجين لا يتصرف كقائد لشركة مرتزقة بل كسياسي، وهو يسعي للخروج من الدائرة غير الرسمية عبر الانضمام إلى النخبة السياسية الرسمية في موسكو، لكن سعيه يصطدم بأنه “لا توجد وظائف شاغرة في السياسة العامة في روسيا اليوم” وفقاً لتعبير ألكسندر كينيف أحد الخبراء في السياسية الروسية، أو بعبارة أخرى لن يقدم بوتين على إحداث تغير عالي المخاطر يخل بتوازن القوى الذي يدير عبره السلطة في روسيا.

——————————

مذكرة توقيف بوتين قد تنهي نظامه/ بسام مقداد

مذكرة غرفة البداية في المحكمة الجنائية الدولية بتوقيف بوتين والمفوضة الرئاسية لشؤون الطفل أربكت المسؤولين الروس، بمن فيهم المتهمين بوتين والمفوضة لفوفا أرلوفا. وبدا هذا الإرباك منذ اليوم الأول للإعلان عن المذكرة في 17 الجاري، حيث هب البروباغنديون والمسؤولون الروس، بمستوياتهم المختلفة، للإعلان عن بطلان المذكرة قانونياً وفق التشريعات الروسية. وفتحت هيئة التحقيقات الإتحادية دعوى جنائية على قضاة المحكمة الدولية وإتهمتهم بتعمد إعتقال غير قانوني والإعداد للهجوم على ممثل دولة أجنبية يتمتع بالحصانة الدولية، بهدف تعقيد العلاقات الدولية. كما برز الإرباك في تأخر بوتين حتى 20 الجاري ليعلق على المذكرة ويعلن بأنها لم تترك أي أثر، وأن عمله اليومي يسير بشكل طبيعي كالمعتاد. كان يمكن تفسير هذا التأخير بأنه مدروس، وليس إرباكاً، وذلك ليمنح مصداقية لموقفه المعلن، لو أن بايدن ــــ المتهم الضمني بالوقوف وراء صدور المذكرة ـــ لم يسارع في اليوم عينه للتأكيد بأن المذكرة “مبررة”، وبأن “من الواضح أن بوتين إرتكب جرائم حرب”. وتزامن رد بوتين مع إعلان مفوضة شؤون الطفل لفوفا أرلوفا عن أنه لم يتقدم إليها إعتراض واحد على ترحيل أطفال أوكران إلى داخل روسيا، أو مناطق أوكرانية تحتلها.

عنصر المفاجأة أو، على الأقل، تصنعها، كان بارزاً أيضا في ردة فعل المسؤولين والبروباغندا الروسية على مذكرة توقيف بوتين. فلم يكونوا مستعدين، ولو في مخيلتهم، بأن عدالة “الغرب” ستتجرأ على فرض معاييرها على بوتين الذي تقدمه بروباغندا الكرملين بأنه لا يمس. وتقدم صورة مكثفة لهذا الواقع النكتة الروسية المتداولة منذ العهد السوفياتي، والمتجددة الآن. كان بوتين يصطاد السمك مع رئيس أميركي على ضفة نهر. الأميركي أشبع وجهه وجبينه ومؤخرة عنقه صفعاً، في حين يجلس بوتين هادئا. سأله الأميركي: فلاديمير، ألا يلسعك البعوض؟ أجاب بوتين: ممنوع!

وفي السياق عينه نقل موقع  Медуза الروسي المعارض في 21 الجاري عن مصادر مقربة من ديوان الرئاسة الروسية وصفها إصدار محكمة لاهاي مذكرة توقيف بحق بوتين بأنها خطوة الغرب “الأكثر مفاجأة”.

العنصر الآخر البارز في ردة الفعل الروسية كان التلويح التقليدي بعد غزو أوكرانيا بإستخدام السلاح النووي. لكن الغرب إعتاد أخيراً على هذا الإبتزاز، ولم يعد يلقي إليه بالاً كما في بداية الحرب على أوكرانيا.

العنصر الأخير الذي يرافق أي رد فعل روسي في عهد بوتين على اي خطوة غربية حيال روسيا ــــ بذاءة لهجة الرد. فتحت عنوان “ميدفيديف أشار أين ينبغي إستخدام وثيقة المحكمة الجنائية الدولية بشأن “توقيف” بوتين”،  نقلت نوفوستي عن الرئيس الروسي الأسبق دمتري مدفيديف تغريدة على موقعه باللغة الإنجليزية، رأى فيها بأن ليس من ضرورة لشرح أين ينبغي إستعمال وثيقة المحكمة. وأرفق التغريدة بعلامة ورق تواليت.

في يوم نشر مذكرة المحكمة الدولية في الإعلام، نقلت نوفوستي عن عدد كبير من المسؤولين الروس تعليقاتهم عليها. الناطق بإسم الكرملين دمتري بسكوف رأى أن طرح المسألة من قبل المحكمة الدولية ” مثير للإستياء وغير مقبول”. وقالت الناطقة بإسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروف بأن روسيا لا تتعاون “مع هذه الإدارة”، وأن “الوصفات” المحتملة للتوقيف الصادرة عن المحكمة الدولية ستكون بالنسبة “لنا” باطلة قانونياً. رئيس لجنة العلاقات مع الجمهوريات السوفياتية السابقة في البرلمان الروسي (الدوما) رأى أن المذكرة أقرت للتأثير على رؤساء الدول، وربطها بزيارة الرئيس الصيني إلى موسكو. وأعلن رئيس اللجنة الدستورية في مجلس الإتحاد أن ليس للمذكرة أي أساس قانوني أو نتائج. ورأى أن المحكمة الدولية “شرعت في السير على طريق التدمير الذاتي”.

 موقع Kasparov الروسي المعارض نشر نصاً للمدون الروسي فيتالي غينسبورغ، وصف فيه مذكرة توقيف بوتين بأنها “صدمة هائلة للروس”. وقبل أن يشرح بسلسلة من النقاط أسباب قوله ب”الصدمة الهائلة”، رأى أن من الصعب حتى الآن تصور كل تداعيات مذكرة المحكمة الدولية.

يرى المدون في طليعة أسبابه أن المذكرة هي علامة سوداء نهائية، ليس على بوتين وروسيا الحالية فقط، بل على “العالم الروسي” الذي يموضعه بوتين بوجه الغرب. ولم يعد لأي قرار سياسي أن يمحو العلامة أو يلغيها. كما يرى أن المذكرة هي إنجاز كبير للسياسة والدبلوماسية الأوكرانية، وتأكيد على زعامة أوكرانيا بلا منازع للفضاء ما بعد السوفياتي، والتي ستتعزز في المستقبل القريب بهزيمة روسيا وترشيدها بانتزاع عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي.

يستطرد المدون في إيضاح كون المذكرة “صدمة هائلة” للروس، ويرى بأنها نقطة بداية لا رجعة فيها لنزع الشرعية عن نظام بوتين. و يقول بأن الكل يدرك أن أحداً لن يسلم بوتين للمحكمة الدولية غداً، وستجهد بروباغندا الكرملين في المناورة بين عدم الإعتراف بمذكرة المحكمة الدولية، وبين الإعتراف بها نصراً آخر لبوتين.

يدعو المدون الغرب للذهاب إلى الآخر في ما بدأته المحكمة الدولية في خطوتها الجريئة. كما يطالب بعدم إعتراض سبيل شعوب روسيا للإفادة من ثرواتها، وعدم الوثوق بالمعارضة الروسية من داخل النظام. ويرى من الضروري أن يبدأ الغرب حواراً جدياً مع الحركات القومية الدينية لهذه الشعوب وقياداتها.

وينتهي المدون للقول بأن المذكرة بحق بوتين، هي قرار طال إنتظاره، ويجب أن يشكل حافزاً لتفكيك حقيقي لشرعية نظام بوتين. ويجب أن نتذكر الشعار الذي صاغه يوماً شريك بوتين، رئيس البرلمان الروسي فيتشلاف فالودين: “في بوتين في روسيا، ما في بوتين ما في روسيا”.

رئيس تحرير موقع Carnegie Politika  موسكو ألكسندر باونوف نشر نصاً قارن فيه بين خطورة كل من مذكرة لاهاي والعقوبات الغربية على بوتين. يقول باونوف أن حزمة العقوبات الغربية الأولى العام 2014 طاولت القياديين الروس الذين كانوا على علاقة بإجتياح القرم. لكن هذه الخطوة  فشلت حينها في تقسيم النخبة  القيادية الروسية إلى فريقين، يمكن الإعتماد على أحدهما للحؤول دون إرتكاب بوتين “أخطاء فادحة” أخرى. مذكرة الجنائية الدولية تقارب المسألة عينها، لكن على نحو معاكس. فإذا كانت إستراتيجية العقوبات قد بنيت من الأسفل إلى الأعلى، تبني المحكمة الدولية إستراتيجيتها من الأعلى إلى الأسفل.

ويرى باونوف أن المذكرة التي صدرت في ظل سيطرة جو من الشكوك في قمة هرم السلطة الروسية، سوف تفسر كدعوة للنخبة الروسية لترك بوتين، وكدعوة للإلتفاف ليس حوله، بل ضده. لكن إذا تزايد عدد المذكرات، يمكن توقع تكرار الوضع مع العقوبات، حيث سيحاول البعض حينها حماية نفسه من الملاحقات، والبعض الآخر يتنافس على من يكون التالي بعد بوتين.

مدعي عام المحكمة الدولية أعلن أن المذكرة بحق بوتين هي الخطوة الأولى في سلسلة تحقيقات تالية. ويرى باونوف أن هذه المقاربة العمودية من أعلى إلى أسفل، يمكن أن تصبح في ظل ظروف معينة الأداة الأفضل لوضع خط فاصل بين رأس النظام وجهازه. كما يرى أن الوضع مع المذكرة يختلف عما هو عليه مع العقوبات. في حينها، كان بوتين الذي يقف خارج العقوبات يراقب ماذا سيكون عليه الأمر مع من شملته. أما الآن فإن محيطه يراقب كيف سيكون الأمر معه.

مذكرة المحكمة الدولية لن يكون لها آثار قانونية مباشرة، لكن أخذت تبرز آثارها الدبلوماسية. فهي منذ الآن أخذت تجعل من الصعب التعامل مع الجنوب الذي تسعى روسيا لإحلال علاقاتها به مكان العلاقات المنهارة مع الغرب.

المدن

————————-

تجاهل الحرب في أوكرانيا صعب والدليل في موسكو وكييف/ كيم سنغوبتا

خلق الغزو الروسي الحاجة إلى تعزيز التحالفات القديمة وإقامة تحالفات جديدة

بينما كان فلاديمير بوتين يلتقي بـ”صديقه العزيز” شي جينبينغ في موسكو، كان رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا موجود على بُعد 500 ميل في كييف، من أجل إظهار دعم بلاده لأوكرانيا.

وبيّن وجود الزعيمين الآسيويين في العاصمتين المتناحرتين أثر هذا الصراع الدائر في قلب أوروبا على العالم، فيما تتعزز التحالفات القديمة وتُبنى تحالفات جديدة.

بالنسبة إلى اليابان، التي تترأس حالياً مجموعة الدول السبع، إنه مؤشر على سياسة أقوى في الشؤون الخارجية والدفاع، تترافق مع برنامج إعادة تسليح ضخم لجيش البلاد، فيما تتصدى طوكيو لعالم تزداد فيه المخاطر وينعدم فيه اليقين.

قدّمت اليابان مساعدات إنسانية ومالية ودفاعية وعسكرية غير فتاكة إلى حكومة فولوديمير زيلينسكي بعد الغزو. كما أولت دعمها القوي للعقوبات الغربية على موسكو وأيّدت إجراء تحقيقات في جرائم الحرب الروسية.

زار كيشيدا كنيسة في بوتشا، البلدة القريبة من كييف- والتي عانت من فظائع الروس- ووضع أزهاراً عن أرواح الضحايا. وقال رئيس الوزراء “صُعق العالم لرؤية الأبرياء يُقتلون في بوتشا منذ عام: وأنا أشعر بالغضب إزاء هذه الوحشية. أنا أمثّل الشعب الياباني إذ أعبّر عن تعازيّ بالضحايا… سوف نولي أقصى درجات الدعم إلى أوكرانيا من أجل إعادة إرساء السلام”.

في خطاب أدلى به أخيراً، صرّح كيشيدا بما يلي: “سجّل العدوان الروسي على أوكرانيا نهاية عالم ما بعد الحرب الباردة كلياً. لقد تبيّن بأنّ العولمة والاعتماد المتبادل على الآخر لا يمكنها أن تضمن وحدها السلام والتنمية في العالم”.

وأضاف بأن بكين تشكّل خطراً مماثلاً مع تهديدها باجتياح تايوان، و”لدى الصين بعض التصورات والمطالب من النظام العالمي تختلف عن رؤيتنا ولا يمكننا أن نقبل بها أبداً”.

بين طوكيو وروسيا نزاع إقليمي على جزر كوريل الواقعة في شمال المحيط الهادئ يعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. ويستعرض الكرملين قوته بشكل متزايد في إطار هذا النزاع. ويوم الأربعاء، أثناء وجود شي في موسكو وكيشيدا في كييف، حلّقت قاذفات روسية مزوّدة بقدرات نووية، ترافقها مقاتلات، فوق بحر اليابان. وأصدرت وزارة الدفاع في موسكو بياناً جاء فيه أنّ الطلعات الجوية “نفّذت فوق مياه محايدة مع الالتزام الصارم بالقانون الدولي”.

بدأت روسيا بوضع أنظمة صاروخية دفاعية على الساحل في جزر كوريل خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وشكّ مسؤولو الدفاع اليابانيون في ذلك الوقت بأنّ هذه الخُطوة سوف تُستتبع بوضع نظام صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت (فرط صوتية). لكن يُعتقد بأنّ الصواريخ تحوّلت إلى أوكرانيا.

أطلقت الصين في الآونة الأخيرة نظام “دونغ فينغ 17” المتنقل الفرط صوتي أثناء مناورات عسكرية قرب تايوان، في مشهد آخر من مشاهد التهديد والوعيد. والعام الماضي، نفّذت بكين اختباراً ناجحاً على صاروخ فرط صوتي مزوّد بقدرات حمل أسلحة نووية حلّق حول العالم، ويقال إن المسؤولين الأميركيين قالوا عندها “ليس لدينا أدنى فكرة كيف فعلوا ذلك”.

وهذا هو نوع الأسلحة المتقدمة التي قد ترغب روسيا بالحصول عليها من الصين، مع انخفاض مخزونها الخاص من الصواريخ الفرط صوتية. لكن من الواجب التأكيد على أن مصادر الاستخبارات الغربية تقول إنها لا تملك أي دليل في الوقت الحالي على أن الصين تزوّد موسكو بالسلاح من أجل الحرب.

وهناك نزاع إقليمي آخر بين الصين واليابان، على ملكية جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي، التي تسميها الصين جزر دياويو. أيّدت الصين الاتحاد السوفياتي في مسألة جزر كوريل خلال خمسينيات القرن الماضي قبل أن تغيّر موقفها بعد الاشتباك الحدودي الصيني-السوفياتي في ستينيات القرن الماضي. وفي يوليو (تموز) 2021، وسط توتر العلاقات مع طوكيو، غيّرت بكين موقفها من جديد وقبلت بالسيادة الروسية على الجزر.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أجرت أوكرانيا التي لم تُظهر أي اهتمام حتى ذلك الوقت بصراع على جزر في الطرف المقابل من العالم، تصويتاً في البرلمان اعترف بسيادة اليابان على جزر كوريل وأدان “الاحتلال غير الشرعي” من قبل روسيا.

تشكّل زيارة رئيس الوزراء الياباني إلى أوكرانيا جزءاً من مشهد دبلوماسي معقّد. فقد وصل إلى كييف آتياً من الهند التي زارها لمدة يومين. والبلدان اللذان يعتبران حليفين قويين، هما جزء من مجموعة “رباعية” تنضم إليها أيضاً الولايات المتحدة وأستراليا، بهدف مواجهة الهيمنة الصينية الصاعدة.

لكن في الوقت نفسه، تشتري الهند، التي تترأس مجموعة الدول العشرين، النفط من روسيا بعد أن أُرغمت الأخيرة على بيعه بأسعار بخسة بسبب العقوبات الغربية. كما امتنعت حكومة نارندرا مودي عن التصويت في الأمم المتحدة لمصلحة إدانة روسيا على الحرب الأوكرانية.

وكان من اللافت أنّ الغرب لم يوجّه لها أي انتقاد بهذا الصدد-فالولايات المتحدة تعتبر الهند حليفاً أساسياً لها ضد الصين فيما تواصل إدارة بايدن تحوّلها نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

 في النهاية، الفوز دائماً حليف الواقعية السياسية.

© The Independent

—————————-

أسطورة الكافيار الروسي:  بوتين ودبلوماسية بيض السمك المُريبة/ عمّار المأمون

تغيّر التعامل مع الكافيار كمُنتج روسي يُصنف ضمن البضائع الفاخرة (Lux) مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ وضع ضمن الحزمة الخامسة من العقوبات الأوروبيّة التي استهدفت فلاديمير بوتين، وبناته، وصادرات الفودكا والكافيار.

بثّت منصة “Russia Beyond” عام 2021  تقريراً بسيطاً بعنوان “ماذا يأكل فلاديمير بوتين؟”، جاء فيه أن “الغداء الرئاسيّ” لا يشمل الكافيار، ولا الفودكا، الشأن الذي يثير الاستغراب، فكيف يمكن لرئيس الدولة الأشهر بتصدير “الذهب الأسود/ الكافيار”  ألا يتناول هذا المنتج الوطنيّ، ويروّج له بصورة يوميّة كسلفه إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، أو كأي رئيس يفخر بالمنتجات الوطنيّة كالرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك الذي أحب التفاح الفرنسيّ، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي يتبنى الـ”ماكدونالدز”.

غياب الكافيار عن طاولة بوتين لا يهدد الصورة النمطيّة المرتبطة ببيض السمك الأسود الفاخر، ولا ينفي وصفه كمنتج وطني روسي، وكجزء من الدبلوماسيّة الروسيّة، إذ تناوله بوتين عام 2018 مع الرئيس الصيني شي جين بينغ أمام عدسات الكاميرات وصنعا Pan cake من الكافيار.

تغيّر التعامل مع الكافيار كمُنتج روسي يُصنف ضمن البضائع الفاخرة (Lux) مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ وضع ضمن الحزمة الخامسة من العقوبات الأوروبيّة التي استهدفت فلاديمير بوتين، وبناته، وصادرات الفودكا والكافيار. لكن الغريب، أن السعر لم يتغير فعلياً، فهو الآن، بين 14 و16 دولاراً أمريكياً للكيلو داخل روسيا، وهو لم يتغير عما كان عليه في عامي 2018 و2019، أي بصورة ما، الكافيار الروسي متوفر بسعر مقبول داخل روسيا، وفي “الخارج” السعر لم يتغير كثيراً، العقوبات إذاً رمزيّة، ولا تهدف شلّ اقتصاد الكافيار الروسي.

يوصف سوق الكافيار في روسيا بـ”الرماديّ”، بسبب عدم القدرة على ضبطه، خصوصاً أن السوق السوداء الخاصة به أصبحت أشد نشاطاً، بعد تلويح الموقعين على “معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض” بحظر استيراد الكافيار الروسيّ للحفاظ على الأسماك في بحر قزوين، حينها وافقت روسيا وآذربيجان وكازاخستان على إيقاف الصيد حتى عام 2002، في حين لم توقف إيران الصيد. مُنع بعدها عام 2004 استيراد الكافيار من بحر قزوين، وعام 2013 منعت روسيا صيد سمك “الحفشية” الذي يبيض الكافيار.

صرامة القوانين الخاصة بالكافيار، لم تلغ الجدل المحيط بتجارته، إذ أشعل مخيّلة المعلقين السياسيين والمنتقدين عام 2009، حين التقى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع فلاديمير بويتن، وتناولا فطوراً متأخراً في موسكو، على الطاولة كان عليها كافيار سمكة “بيلوغا” الممنوع صيدها في روسيا، كونها من الفصائل مهددة بالانقراض. وهنا طُرح سؤال، ما مصدر الكافيار الذي كان على الطاولة؟

الإجابتان اللتان اقترحتا حينها إشكاليتان، فنحن إما أمام كافيار مُصادر من المُهربين، أو مستورد من إيران، عدو أميركا، والتي لم تنصع لتعليمات منع صيد أسماك الكافيار من بحر قزوين وخالفت الاتفاقيات الدولية، وفي كلا الحالتين، أوباما في خانة الإحراج.

إشكالية الكافيار تمتد نحو قضايا فساد ونهب وتهريب في روسيا، مع ذلك تحيط به هالة ديبلوماسية كونه ثروة وطنيّة مشبوهة، إذ لم يهدد المنع السابق  هذه التجارة ولا سوقها الأسود في روسيا، إذ تشير تقارير إلى أن نصف كمية  الكافيار في السوق الروسية عام 2017  كانت مصادرها مشبوهة، ومن تجارة غير شرعيّة، على رغم العقوبات المشددة على من يستخرج الكافيار ويبيعه. نحن أمام “تجارة” خطرة تاريخياً إن صح القول، إذ شهدت التسعينات ما يشبه حرب كافيار بين المافيا الروسية والمدافعين عن الحياة البرية، التي أدت إلى مقتل ما يقارب 20 منهم.

 هذه الشبهة المحيطة ببيض السمك الفاخر تتضح في بيان العقوبات الأوروبية، الذي أكّد أن المنع لا يستهدف “الشعب الروسيّ”، بل الكرملين ومن يدعمه من مافيات روسية/ أوليغاركية، تتاجر بالكافيار بصورة  غير قانونيّة، مع ذلك لم تتلاشَ هالة الفخامة المحيطة بالكافيار، بل تلاشى اسم روسيا نفسه، خصوصاً أمام الصيد الجائر الذي تتعرض له أسماك “الحفشيّة”، التي مددت دول بحر قزوين من ضمنها روسيا منع صيدها حتى عام 2023، عدا ما يصطاد لأغراض بحثيّة.

إقرأوا أيضاً:

بوتين يغيّر قواعد اللعبة… هل يتدخّل الغرب لإنقاذ أوكرانيا هذه المرة؟

بوتين… مطاردة الصحافة المستقلّة ودفع المجتمع المدني إلى سراديب الموتى

أسطورة الكافيار

تشير مقالات وإحصاءات إلى أن الكافيار في الولايات المتحدة مصدره الصين، لا روسيا التي أنتجت عام 2019 ما يقارب 52 طناً فقط، أمام 634 طناً عالمياً، وصدّرت منها طنّاً واحداً فقط أمام 123 طناً تم تصديرها عالمياً من مختلف الدول، إذ  تتربع على قمة المصدريّن للاتحاد الأوروبي كل من إيسلندا والصين والولايات المتحدة، وهنا يتضح مفهوم رمزيّة العقوبات، فهدفها إذاً ليس اقتصادياً، بل تحطيم صورة روسيا ومنتجاتها، فإن أردنا أن نكون واقعيين، فالأمر يتعلق بكافيار “أوستيرا”  غالي الثمن، وحسب.

السعي إلى تحطيم أسطورة الكافيار الروسي، أتى على مراحل عدة مع بداية الحرب على أوكرانيا، بدأ الأمر بالعقوبات، وترافق مع ظهور الأصوات التي تقول إن الكافيار ليس روسياً وإيرانياً فقط، هناك مثلاً الكافيار البولندي، الذي أنتجت شركة “كافيار أنطونيوس” 42 طناً منه عام 2021، تضاف إلى ذلك المحاولات الفرنسية لإنتاج كافيار محليّ ضمن مزارع مائيّة لسد الطلب الوطني. والأهم، الوقوف بوجه الصين التي أصبحت رائداً عالمياً في إنتاج الكافيار، فشركة صينية واحدة تُنتج ما يزيد عن 40 طناً سنوياً، وتدعي تزويد 21 مطعماً فرنسياً بالكافيار من أصل الـ27  التي تحمل ثلاث نجمات ميشلان، ويتداول حالياً مقولات مثل الصين “تغرق” السوق بالكافيار ما أدى إلى انخفاض أسعاره عالمياً، أي الخطر حالياً هو الغزو الاقتصادي الصيني لا فقط معاقبة روسيا وتدمير هالتها.

الأسلوب الآخر الذي يستهدف الكافيار الروسيّ يرتبط بالذنب الأوروبي والأمريكي، وانتشار موجة مقاطعة كلّ ما هو روسي، لكن الكافيار إشكالي، هو علامة على الغنى، والندرة، وهنا ظهر دور الشركات الأخرى، التي تستهدف الكافيار الروسي، بوصفه ليس الوحيد، فروسيا لم تعد المصدر الأول، وبالإمكان استهلاك كافيار من مصادر أوروبية ومحليّة، من دون الشعور بالذنب تجاه الأوكرانيين الذين تنتهك روسيا حريتهم وتحتل بلدهم.

تحول الأمر أيضاً إلى ما يشبه السخريّة، إذ نشرت “النيويورك تايمز” مقالة أرشيفية تعود إلى عام 1982 عن “حرب أسعار” بين متجرين أميركيين حول الكافيار الروسي، بصورة أدق تنزيلات نهاية العام التي خلقت نوعاً من المضاربة،  إذ صرح حينها صاحب أحد المتاجر بأن “الدماء ستسيل في الشوارع” نتيجة تلاعب الأسعار. لا نعلم إن كانت الإحالة إلى الآن، تستهدف الذوق الرفيع الذي يطلب الكافيار الروسي فقط، أو الإشارة إلى مفارقة مفادها أن الكافيار لم يعد شديد الغلاء، وما من داع لسفك الدماء لأجله.

كلّ بلا ذنب

تلاشي الدور الذي  يلعبه الكافيار الروسيّ، هدد مكانة روسيا ربما، إذ نقرأ مثلاً أن بوتين نفسه تذوق الكافيار الصيني مرتين، مرة في قمة الـG20 عام 2016، ومرة ثانية، عام 2018، في الحادثة التي ذكرت في البداية، إذ كان الكافيار صينياً، لكن أليست الصين حليفة روسيا أيضاً؟ الذنب إذاً واحد الآن، لكن العداوة تجاه روسيا فقط، أما الصين فما زال شأنها حساساً، ولا يمس الكافيار مباشرةً.

كل هذه المقاطعة والمحاولات للوقوف بوجه الكافيار الروسي، لا تعني أنه اختفى، هذا العام تم إيقاف شاحنتين تحاولان تهريب 250 كلغ من الكافيار نحو كازاخستان، قبلها عام 2019 صادرت موسكو نصف طن من الكافيار الأسود، ولا نعلم إن كانت طرق التهريب البريّ هُددت في الحرب مع أوكرانيا، كونها تمر عبر تركيا وجورجيا نحو الاتحاد الأوروبيّ، كما أن صعوبة تحديد مصدر الكافيار يشكل عقبة أمام التحقق من مصادر البضائع التي تصل إلى الاتحاد الأوروبي، إذ يمكن أن يكون المصدر روسياً أو حتى إيرانياً.

أكثر ما يثير المفارقة في شأن أسطورة الكافيار ما يُسمى بالصيد الاحتجاجي بسبب قوانين منع صيد الأسماك في بحر قزوين، إذ واصل بعض الصيادين الصيد، رفضاً  للمنع الذي صادر رزقهم، ناهيك بأن المزارع الاصطناعيّة لإنتاج الكافيار، حرمت كثيرين لقمة العيش، فاستمروا بالصيد من دون أن نعلم بدقة مصير ما يصطادونه، كما أن بعض الذواقة ما زالوا يفضلون الكافيار الروسي البريّ،  وكافيار أوستيرا الذي يتراوح سعر الأونصة الواحدة منه بين 450 و650 دولاراً.

درج


===================

تحديث 26 أذار 2023

———————-

في الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا/ عمار ديوب

واثقاً من نفسه كإمبراطورٍ حقيقيٍّ، فقد نال الرئاسة الصينية للمرة الثالثة، منذ أيامٍ. هكذا يزور الزعيم الصيني، شي جين بينغ، موسكو، بينما نظيره الروسي بوتين تلاحق بلاده العقوبات، وقد أصبح مجرماً بعرف المحكمة الجنائية الدولية. وبغض النظر عن ذلك، فإن بوتين، الذي كان قيصراً قبل غزو أوكرانيا، وحينما زار الصين في أوائل 2022، هو الآن أشبه بسجينٍ في الكرملين، وبالكاد يغادره، وحتى زياراته لشبه القرم وماريوبل، قبل أيامٍ، تبدو أقرب إلى مناكفة الغرب منها إلى زيارة أقاليم تابعة لدولته “المنهكة”.

اتفاقيات كثيرة، وشراكة وتعاون استراتيجيان وقّعَها بوتين وشي، واستثمارات بين البلدين قد تصل إلى مائتي مليار دولار. تنسجم زيارة شي لروسيا مع زيارات كثيرة للزعيم الصيني للعالم، وليس آخرها القمم التي عقدها في السعودية، وهناك بيان بكين الهام للغاية بخصوص التقارب بين السعودية وإيران، الذي يُشار إليه بمثابة اختراق استراتيجي لمنطقة تعتبرها أميركا تاريخياً ضمن المجال الحيوي لها. يتعامل الغرب مع الصين بحذرٍ وتحذير من تعميق شراكاتها مع روسيا، ولا سيما في الجانب العسكري، وطبعاً يجري الضغط عليها بأنّها تُصدِّر المعدات العسكرية إلى روسيا، وهو ما تنفيه، وتنفي التحالف العسكري كذلك. وعدا ذلك، ما يُضعِف الاتهامات الغربية للصين، رفض الأخيرة غزوَ روسيا لأوكرانيا وعدم اعترافها بضم القرم أو الأقاليم الأربعة، وتشدّدها بضرورة العودة إلى التفاوض مع أوكرانيا، وإيقاف الحرب، وضرورة الاعتراف بسيادة أوكرانيا.

بعيداً عن الموقف من غزو روسيا والرفض الغربي للتنسيق بين موسكو وبكين، تبدو العلاقات بين العاصمتين قويّة، ومتماسكة، وغير قابلة للتصدّع أو الحدّ منها، وتشكّل الضغوط الأميركية المستمرّة على الصين سبباً لاقترابها من روسيا، وربما يقع في خلفية المشهد أن الصين لا تريد عزل روسيا، ولا إضعافها بشكلٍ كبير؛ فإن ضَعُفت روسيا سيتمكّن الغرب من فرض العزلة على الصين لأسباب كثيرة، ولا سيما بخصوص تايوان.

عُقِدَت اتفاقيات اقتصادية كبيرة مع الصين، تُغني موسكو عن مليارات الدولارات كانت تجنيها من توريد النفط والغاز إلى أوروبا. وقال بوتين، بوضوح شديد، إن السوق الروسية مفتوحة للشركات الصينية، لتحلّ مكان الشركات الغربية التي انسحبت من روسيا. وهنا من الجدير ذكره أن أميركا وأوروبا تتشدّدان ضد الشركات الصينية التكنولوجية ومنتجاتها. يؤسّس التعاون الاستراتيجي بين الصين وروسيا، المحاصرتين أميركياً، لتحالف عسكري بينهما، مستقبلاً، وهما متّحدتان بضرورة عالمٍ جديد، متعدّد الأقطاب، وهذا هدف هندي، وبرازيلي، ولدول كثيرة. وهناك دول كثيرة أصبحت تدور في الفلك الروسي والصيني، وفي كل القارّات. تضمّنت زيارة الرئيس الصيني إعادة نقاش مبادرة السلام الصينية، وسيعاود شي الحديث مع الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، حولها بعد عودته إلى بكين، وسيكون قد ناقشها جيّداً مع بوتين، وتوصلا إلى أفكار معينة للتفاوض وفقها بين موسكو وكييف، فهل سيتحقّق السلام، أو إيقاف إطلاق النار، وسواه عبر بكين، ربما.

سارعت أميركا وبعض الدول الأوروبية إلى رفض المبادرة، من قبل ولحظة الزيارة، ولكننا لا نعلم بدقة على ماذا اتفق الرئيسان في موسكو بشأنها، ولم يرفض زيلنكسي المبادرة بشكلٍ كامل، وينتظر هاتف بكين. المشكلة الآن أنّ أميركا وقادة أوروبيين كثراً، يقولون إن بكين ليست محايدة في الصراع على أوكرانيا، وردَّ بوتين بأنّ بعض العواصم الأوروبية، وبالتحديد واشنطن، ليست محايدة، وهذا يقلّل من حظوظ المبادرة الصينية، وربما هذا التشدّد في ذلك من أجل وضع شروطٍ إضافية على بكين لتضغط على موسكو.

تأتي زيارة الرئيس الصيني، وأميركا وحلف الناتو يتشدّدان ضد الصين، وفي لحظة جمودٍ في ساحات المعارك في أوكرانيا، ولكن أيضاً، هناك ملاحقات جوية تحدث بين طائرات أميركية وروسية وبريطانية، وهذا مؤشّر خطير على تدهور العلاقات بين الغرب وروسيا. بخصوص الصين، تكثّف الولايات المتحدة نشاطاتها في مواجهتها، وقد رأينا زيارات رئيس وزراء اليابان لكوريا الجنوبية والهند، وزار كييف فيما كان شي في موسكو، ولا ننسى تفعيل الولايات المتحدة عدّة تحالفات عسكرية وسياسية في مواجهة الصين، كتحالف أوكوس وكواد، وتعزيز العلاقات مع دول آسيوية وازنة، مجاورة للصين، وهو ما تحذّر منه الصين، ولكنه يدفعها، في الوقت ذاته، نحو أوثق الصلات مع روسيا، وكذلك في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا، نرى الغضب الأميركي من توقيع بيان بكّين، والذي يجد مخرجاً للعداوات بين إيران والسعودية، وكذلك لأغلبية دول المنطقة؛ فالسعودية ترغب في فرض نفسها لاعباً عربيّاً بامتياز، وبالتالي لن تنحصر العلاقات مع إيران في حل مشكلة اليمن، بل ستمتد إلى العراق ولبنان وسورية، وبقية المسائل؛ أي ستتنازل الأطراف التابعة في هذه الدول لإيران عن تعطيل انتخاب الرئيس اللبناني، وليس على مقاس حزب الله، وانصياع النظام السوري لقرار مجلس الأمن 2254، وإعادة العاصمة صنعاء إلى الشرعية اليمنية، وتوسيع هامش استقلال الحكومة العراقية عن السيطرة الإيرانية.

سيشكّل تحقق الانفراجات في هذه القضايا، وبدعمٍ صينيٍّ، ضربة قويّة للسياسة الأميركية في المنطقة، سياسة دفع دول المنطقة لتتقاتل مع بعضها، بينما السياسة الصينية تعتمد التطور الاقتصادي وإيقاف الحروب وإعادة فتح السفارات والتقارب السياسي. أهمية هذه السياسة قد تفشَل إن لم تجد حلاً للمسألة النووية في إيران بالتحديد، حيث كادت المنطقة أن تقع في الحرب قبل بيان بكين، وكذلك كيف ستتراجع إيران عن هيمنتها على الدول العربية بسهولة، ولا سيما أنّها شكّلت جيوشاً كاملة فيها، وهل عملية إحلال مليشياتها في تلك الجيوش ستكون الحل.

في كلّ الأحوال، رعاية الصين بيان بكين، أعادت النشاط الدبلوماسي إلى المنطقة، وهناك تقارب تركي مصري، وسعودي تركي، وإماراتي تركي، وتركي إسرائيلي. وهنا لا ننسى العلاقات القوية لقطر مع إيران أو تركيا، وتتطوّر علاقاتها مع مصر. اعتمدت الولايات المتحدة سياسة تقاتل الدول في ما بينها، مع رفضها التورّط المباشر، وقد لجمت إسرائيل عن القيام بحربٍ واسعةٍ ضد إيران، ولكن الصين تعتمد التقارب بين الدول، وإذا نجحت، بشكل أوليٍّ، في التقارب بين السعودية وإيران، فهل ستتمكّن من تحقيق السلام في أوكرانيا؟ زيلنسكي ينتظر هاتف شي، لكنّ بايدن والأمين العام لحلف الناتو يشكّكان في الصين، لكن إن أفسدوا المبادرة الصينية، وتشدّدت روسيا وأوكرانيا، فأيّ مستقبل ينتظر العالم، وقد بدأت المناوشات الجوية؟

العربي الجديد

—————————-

لماذا يريد الأسد من روسيا توسيع وجودها في سورية؟/ غازي دحمان

أثار طلب رأس النظام السوري، بشّار الأسد، خلال زيارته موسكو، توسيع الوجود الروسي في سورية الدهشة والاستغراب، فالمتوقع هو حصول العكس، على ضوء تراجع التهديدات العسكرية ضده، بحيث باتت احتمالات سقوط نظامه بعيدة جداً، نظراً إلى موازين القوى والروافع الإقليمية التي تدعم نظامه، وانكفاء الخصوم وبحثهم عن مقاربات جديدة للتعامل مع النظام.

الطبيعي، في ظلّ هذه المعطيات، أن يطلب الأسد من الروس، بعد أن يشكرهم على ما قدّموه من مساعدة إنقاذية لنظامه، ومراعاة لظروف الحرب الأوكرانية التي تستنزفهم، ألا يشغلوا أنفسهم كثيراً في الساحة السورية، ويحوّلوا جهدهم الى حيث هم بحاجة له أكثر، بدل أن يعطيهم دروساً عن الاستراتيجية وتوازنات القوى الدولية، بل ويرشدهم إلى الأدوات التي يجب أن تستخدمها الدول العظمى في حماية مصالحها، وأهمية القواعد الخارجية في هذا الإطار!

يدرك الأسد هامشية حجمه في المعادلات الدولية الراهنة، فضلاً عن حقيقة كونه قائداً فاشلاً ومخطّطاً بائساً، ليس هو فقط، بل نظامه بالكامل، بسبب الذهنية التي يعمل بها هذا النظام، وقراءته السيئة لاتجاهات الأحداث وتقييمه الوقائع وتطوّراتها. وربما يرى بعض من يؤيده أن العكس هو الصحيح، ما دامت الأمور تُقاس بنتائجها، والدليل أنّه استطاع الصمود وما زال في كرسي الحكم. بالطبع هنا لا يستقيم هذا التقييم من دون النظر أيضاً إلى النتائج التي صنعها صموده وبقاؤه على كرسي الحكم، والمتمثلة برهن سورية لإيران وروسيا إلى آجال بعيدة جدا، فضلا عن خراب البلاد بدرجة يتعذّر معها إصلاحها.

ويعرف أيضاً أنّ الروس، خصوصاً الخبراء العسكريين والاستراتيجيين، الذين أطلق عليه أحدهم لقب” ذيل الكلب” خير من يعرف هشاشة تفكيره السياسي والعسكري، فأين له اجتراح خرائط طرق لهم للسير في طريق التوازنات الدولية، وفي هذه الظروف التي تنوء بها روسيا تحت ضغط الحرب الأوكرانية، وتعاني من ندرة على مستوى الموارد المالية والأسلحة والمقاتلين؟!

ثمّة ترجيحاتٌ بأنّ وراء طرح الأسد عوامل محدّدة، في الأغلب مخاطر، برزت في المرحلة السابقة، دفعته إلى الطلب من روسيا توسيع وجودها في سورية، وهذه العوامل:

– شعور الأسد بتهديدات خارجية من شأنها إسقاط نظامه، وعلى الرغم من عدم ظهور مؤشّرات بارزة بهذا الخصوص، حيث لا استعدادات لدى الأطراف المعنية، الولايات المتحدة وحلفائها، بهذا الخصوص، في ظل انشغالها بالحرب الأوكرانية، كما أن المعادلات في سورية، بوضعها الحالي، مريحة لها، فالصراع متجمّد ويصعب تغيير خطوطه، فإنّ الأسد قد تكون له قراءات مختلفة، ربطاً بالبيانات المتشدّدة الصادرة عن واشنطن وحلفائها في الآونة الأخيرة، وزيارة رئيس الأركان الأميركي، مارك ميلي، إلى قاعدة التنف.

– تقديره وجود مخاطر داخلية بدأت بالتبلور ضد نظام حكمه، سواء ما تعلق منها باحتمال انطلاق ثورةٍ جديدةٍ بعد وصول الأوضاع الداخلية إلى حالة من التردّي يصعب التعايش معها، إلى درجة قد يصبح الإقدام على مخاطرة الثورة على النظام أقل تكلفة من احتمالها، أو تخوّفه من فلتان في الجيش والأجهزة الأمنية، نتيجة استمرار حالة عدم الاستقرار وعدم وجود ضوء في نهاية الأفق لنهاية حالة الاستنفار المديدة، أو احتمال نشوب صراع الأجنحة ومراكز القوى وانفلات الأمور من سيطرة الأسد، وهذه احتمالات قائمةٌ في ظل وضع هشّ وحالة من عدم الرضا من أفعال وسلوكيات فاعلين آخرين ينافسون جيش النظام وأجهزته على السيطرة في سورية، مثل مليشيات إيران وأذرعها، في دمشق وحلب ومدن الحدود مع العراق ولبنان.

– شعور الأسد بأن روسيا نفسها قد تتنازل عنه، وربما استشفّ ذلك من خلال إصرارها على إقامة ترتيبات بين تركيا ونظامه، بما تعنيه تلك الترتيبات من وجود مفاوضات حول مناطق الشمال السوري، والتي حكما ستكون عبر مفاوضات لتقاسم السلطة مع المعارضة، ربما لن يكون ذلك طبقا للقرارات الأممية، ولكن هذا، بالنسبة للأسد، تطوّر خطير. وفي حساباته أن الخطوة التالية ستكون إبعاده عن السلطة مع بقاء نظامه. ربما لهذا السبب، اصطحب معه في الوفد إلى موسكو ابنه حافظ الأسد، ليوصل رسالة إلى بوتين بأنه سيكون التالي في حكم سورية. وفق ذلك، قد يكون الأسد، وبطلبه توسيع الوجود الروسي، أراد القول لبوتين، إنه إذا أردتم ضمان وجودكم طويل الأمد واستمراره في سورية، عليكم دعم الوريث، والاستعداد لهذه المهمة عبر زيادة القواعد العسكرية.

الاحتمال الأخير، أن يكون مدفوعاً بطلب من إيران وحزب الله اللبناني، فالوجود الروسي يمثل مظلة لهما، لاستكمال مشروعهما في سورية واستقرار وجودهما، إذ تسيطر إيران، بفضل الروس، بشكل مطلق، على حلب ومدن شرقي سورية، في حين يسيطر حزب الله على مساحات هائلة في القلمون والقصير وريف دمشق الغربي. بالإضافة إلى ذلك، تستشعر إيران احتمالات حصول ضربات، وربما حرب إسرائيلية قادمة قد تطاول وجودها في سورية، وترى أنّ توسيع الوجود الروسي في سورية قد يشكّل عنصر حماية لها.

أيّاً تكن طبيعة الأسباب والدوافع وراء طلب الأسد توسيع الوجود الروسي في سورية، فهذا نمط جديد من الانحطاط لم يسبق أن فعله أشباه الزعماء في أشباه الجمهوريات المعروفة عبر التاريخ، حتى هؤلاء، كانت لهم أشواق للتخلّص من نير سيطرة أسيادهم، لا طلب المزيد منها ورهن أوطانهم للمجهول.

العربي الجديد

——————————–

هل تقود مذكرة توقيف بوتين إلى شق صف النخبة الروسية؟/ رامي القليوبي

على الرغم من إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكرة التوقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لاتهامه بتهجير أطفال من أوكرانيا، فإن تطبيقها مستبعد لاعتبارات عدة، لكن ذلك ستكون له تداعيات على الأقل في الداخل الروسي، وتحديداً في الدائرة المحيطة ببوتين، بحسب ما يعتقد البعض.

وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية، في 17 مارس/آذار الحالي، مذكرة توقيف بحق بوتين والمفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا، على خلفية “جريمة الحرب المفترضة المتمثلة في الترحيل غير القانوني لأطفال من المناطق المحتلّة في أوكرانيا إلى روسيا الاتحادية” منذ بدء الغزو في 24 فبراير/شباط 2022. ورُحِّل أكثر من 16 ألف طفل أوكراني إلى روسيا منذ بدء الغزو، وفق كييف، ووُضِع كثير منهم في مؤسّسات ودور رعاية.

انقسام المجتمع الدولي

وفي الوقت الذي صادق فيه أكثر من 120 بلداً على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن هذه القائمة لا تقتصر على الدول الغربية، بل تشمل أيضاً عدداً من الدول في أفريقيا وأميركا اللاتينية، وحتى جمهورية طاجكستان السوفييتية السابقة المتحالفة مع روسيا، شأنها في ذلك شأن أرمينيا، بعد موافقة محكمتها الدستورية، أول من أمس الجمعة، على المصادقة على نظام المحكمة.

لكن لم يمر أسبوع على صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين، إلا وبدأت دول بعينها صادقت على نظام روما، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا والمجر، تبدي تأنياً مسبقاً في الالتزام بالقرار، حتى في حال حضور بوتين إلى أراضيها.

وذكرت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، الجمعة الماضي، أن حكومة جمهورية جنوب أفريقيا تجري استشارات سياسية حول كيفية التعاطي مع مذكرة التوقيف بحق بوتين، أثناء حضوره المرتقب إلى قمة مجموعة دول “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، المقرر عقدها في جنوب أفريقيا في أغسطس/آب المقبل.

ونقلت الوكالة عن مسؤولَين في وزارة خارجية جنوب أفريقيا، فضّلا عدم ذكر اسميهما، قولهما إن الحكومة وحزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم ينظران في كل الخيارات من أجل تجنب الالتزام بالمذكرة. من جهته، أكد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، في تصريحات صحافية، أنه لم يُبت بعد في مسألة توجه بوتين إلى جنوب أفريقيا من عدمه.

وفي المجر، أعلن مدير مكتب مجلس الوزراء غيرغلي غولياش، الخميس الماضي، أن بودابست لم تصادق على ذلك القسم من نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي يجعل مثل هذا التوقيف (أي توقيف بوتين) إلزامياً، نظراً لتعارضه مع دستور البلاد.

في المقابل، أكد وزير العدل الألماني ماركو بوشمان استعداده لتنفيذ مطلب المحكمة الجنائية الدولية، وتوقيف بوتين في حال “خطت قدمه الأرض الألمانية”، ما أثار رد فعل غاضباً من الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن دميتري ميدفيديف، الذي اعتبر في حديث صحافي، أخيراً، أن اعتقال بوتين سيكون بمثابة إعلان حرب على روسيا، متوعداً بقصف البوندستاغ (البرلمان الألماني) في هذه الحالة.

لا حصانة رئاسية

وقال المحامي الروسي سيرغي غولوبوك، المصرح له بالعمل في المحكمة الجنائية الدولية، إن صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين سيعيق سفره إلى الدول الغربية، لكنه لا يعني أنه سيُعتقل تلقائياً في حال توجهه إلى دولة صادقت على نظام روما، في ظل انعدام أدوات الجنائية الدولية لمحاسبة الدول المخالفة للقرار.

وشرح غولوبوك، في حديث لـ”العربي الجديد” من لاهاي، هذا الأمر، قائلاً: “يلغي نظام روما صراحة حصانة قادة الدول التي يسري مفعولها في العلاقات الثنائية فقط، أي منع دولة من مساءلة رئيس دولة أخرى، ولكن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة فوق وطنية. ولذلك يترتب على مذكرة التوقيف منع بوتين من السفر إلى العديد من دول العالم، وفي مقدمتها الدول الأوروبية وكندا والبرازيل التي ستلتزم على الأرجح بقرار الجنائية الدولية”.

ومع ذلك، أقرّ غولوبوك بأن صدور مذكرة التوقيف لا يعني أن بوتين سيُعتقل في حال سفره إلى الخارج. وأضاف: “في حال حضر بوتين إلى طاجكستان مثلاً، يتعين على جهاتها الأمنية توقيفه وتسليمه إلى لاهاي. وإذا لم يحدث ذلك، فهذا سيعني أن طاجكستان أخلت بالتزاماتها الدولية بموجب نظام روما من دون أن يؤدي ذلك إلى مساءلتها”.

ويستشهد غولوبوك في ذلك بسابقة الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، الذي كان يسافر بعد صدور مذكرة توقيف بحقه إلى بلدان صادقت على نظام روما، مثل جنوب أفريقيا، من دون أن يُعتقل، وسط تعبير المحكمة الجنائية الدولية عن سخطها فقط.

وحول رؤيته لاختيار المحكمة البدء بملاحقة بوتين بتهمة تهجير الأطفال تحديداً، أعرب عن اعتقاده بأن “المحكمة الجنائية الدولية بدأت التحقيقات بموجب هذه التهمة لسببين رئيسيين، أولهما قدسية الأطفال والإجماع على ضرورة حمايتهم، وثانيهما إقرار السلطات الروسية نفسها بنقل أطفال، وهذه جريمة حرب من وجهة نظر القانون الدولي. وليست هناك عوائق أمام توجيه تهم جديدة، وإضافتها إلى مذكرة التوقيف الحالية، أو إصدار مذكرات أخرى فيما بعد”.

شق صف النخبة الروسية

وإذا كان اعتقال بوتين مستبعداً في ظل هذه الظروف، إلى جانب امتناع سيد الكرملين عن السفر إلى الدول المصنفة “غير صديقة” منذ بدء الحرب في أوكرانيا حتى قبل صدور المذكرة، فإن ذلك لا يعني أن أمر الاعتقال لن تكون له ارتدادات داخل روسيا.

وبرأي عضو المجلس الإقليمي لحزب “يابلوكو” (تفاحة) الليبرالي المعارض أليكسي كرابوخين، الذي تحدث مع “العربي الجديد”، فإنّ “الرسالة الرئيسية من صدور مذكرة التوقيف بحق بوتين تكمن في نسف مكانته على الساحة الدولية، وليس في الغرب فقط”.

ولفت إلى أنه “على عكس البلدان الآسيوية، فإن أغلب الدول في أميركا اللاتينية وأفريقيا صادقت على نظام روما، ما يعني أن هذه الدول ستفكر كثيراً قبل استقبال بوتين، حتى إذا لم يُعتقل أثناء الزيارة المرتقبة إلى جنوب أفريقيا”.

واعتبر كرابوخين أن مذكرة التوقيف تهدف أيضاً إلى إحداث انقسامات وسط النخب الروسية. وأشار إلى أن “مذكرة التوقيف تجعل بوتين شخصية سامة للمحيطين به، وإصدار مذكرة مماثلة بحق المفوضة الروسية لحقوق الطفل ماريا لفوفا-بيلوفا، يعكس أن المحكمة لن تلاحق الشخصية السياسية الرئيسية فحسب، وإنما أيضاً المنفذين”.

الالتفاف حول القائد أو الهروب

بدوره، اعتبر الخبير في شؤون أوروبا الشرقية والوسطى إيفان بريوبراجينسكي، هو الآخر، أن مذكرة التوقيف بحق بوتين تضع الشخصيات المحيطة به أمام خياري الالتفاف حول قائدهم أو الهروب قبل فوات الأوان. وقال بريوبراجينسكي، في حديث لـ”العربي الجديد” من العاصمة التشيكية براغ: “أثق بأن قرار المحكمة في لاهاي لم يشكل مفاجأة للرئيس الروسي نفسه، وهو يعتبره تأكيداً لشبهاته في أن الغرب يريد التخلص منه بشتى الطرق”.

ووفقاً للخبير، فإن إدراج لفوفا-بيلوفا على قائمة المطلوبين يشكل رسالة للنخب المحيطة ببوتين. وأضاف: “ليس من الصعب أن نتصور ماذا يدور في ذهن ذلك القسم من النخبة الروسية الذي يأمل في الحفاظ على رؤوس أمواله ونفوذه في مرحلة ما بعد بوتين، بصرف النظر عن نتائج الحرب. وجّهت إلى هؤلاء رسالة مفادها بأنه لا مفر من المسؤولية الشخصية، ما يضعهم أمام خيارين، إما الالتفاف حول العلم، أي بوتين، أو الهروب قبل فوات الأوان”.

واقترح رئيس البرلمان الروسي فياتشيسلاف فولودين عبر “تليغرام”، أمس السبت، حظر إجراءات المحكمة الجنائية الدولية في البلاد. وقال إنه يتعين تعديل الدستور الروسي لحظر أي نشاط للمحكمة الجنائية الدولية في الدولة ومعاقبة أي شخص يقدم “المساعدة والدعم” للمحكمة.

وأضاف: “من الضروري إجراء تعديلات للقوانين تحظر أي نشاط للمحكمة الجنائية الدولية على أراضي بلدنا”، مضيفاً أن الولايات المتحدة سنت قوانين تمنع محاكمة مواطنيها أمام المحكمة التي تتخذ من لاهاي مقراً، وأنه يتعين على روسيا فعل المثل. واعتبر أن أي مساعدة أو دعم للمحكمة الجنائية الدولية داخل روسيا ينبغي أن يعاقب عليها القانون.

العربي الجديد

——————–

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى